حبل الله
أدلة المفهوم التقليدي للسنة

أدلة المفهوم التقليدي للسنة

الآيات التي ساقها الإمام الشافعي كأدلة على الفهم التقليدي للسنة هي الآية 36 من سورة الأحزاب والآية 59 من سورة النساء. والآن لنحاول فهم هاتين الآيتين بحسب منهج الحكمة.

أ_ الآية 36 من سورة الأحزاب:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}.

تأتي كلمة الرسول بمعنى الرسالة وحاملها[1]، وظيفةُ الرسل هي تبليغ كلام الله تعالى إلى الناس، لذا فإن أول ما يشير إليه مصلح (رسول الله) في القرآن هو آيات الله المسطورة فيه.

في التراث الإسلامي أصبحت كلمة (رسول) مرادفة لشخصية محمد عليه السلام، وبذلك تم إغفال علاقة المصطلح بالرسالة (القرآن). وقد تم افتراء سبب النزول التالي للآية السابقة ليكون دليلا على ما تشكل في أذهانهم من معنى الرسول:

“عن ابن عباس قوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أمْرًا….} إلى آخر الآية، وذلك أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم انطلق يخطب على فتاه زيد بن حارثة، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها، فقالت: لست بناكحته، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فانكحيه، فقالت: يا رسول الله أؤمر في نفسي، فبينما هما يتحدثان أنـزل الله هذه الآية على رسوله  {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ …} إلى قوله {ضَلالا مُبِينًا} قالت: قد رضيته لي يا رسول الله مَنكحًا؟ قال: ” نعم ” قالت: إذن لا أعصي رسول الله، قد أنكحته نفسي”[2].

هذه الرواية التي لم ترد في أي من كتب الحديث نقلها أبو جعفر الطبري  (نسبة إلى طبرستان على ساحل بحر قزوين في شمال إيران)  وضمَّنها في تفسيره المشهور بعد 225 سنة من الهجرة. هذه الرواية أسندها الطبري إلى ابن عباس الذي كان يبلغ من العمر 5_8 سنوات عند زواج زينب، ولم يكن قد هاجر بعدُ إلى المدينة حيث حدثت قصة زواجها. هذه الرواية تتفق تماماً مع ما قاله الشافعي: ” لا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ رسوله، بل هو لازم بكلِّ حال”[3]. ومن الواضح أن هذه الرواية التي تفيد بأن زينب قبلت طلب النبي محمد واضطرت إلى الزواج من زيد ، تتعارض مع الآية التالية حول طلاق زيد من زينب. الآية على النحو التالي:

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (الأحزاب 33/37)

لقد قال النبي لزيد: “أمسك عليك زوجك واتق الله” – فإذا كانت كلمة محمد (ص) ملزمة ألا يكون على زيد أن لا يطلق زينب بعد هذا الأمر؟، لأن استناد الشافعي وجميع الطوائف في فهم  السنة إلى الآية 36 من الأحزاب يتطلب هذا. لكن زيدا الذي لم يطع أمر محمد عليه السلام وطلّق زينب لم يوجه إليه اللوم في الآية، بل إن الذي وجه إليه اللوم هو محمد صلى الله عليه وسلم. وبما أن الله أعطى زيدا سلطة تطليق زوجته لم يكن لمحمد الحق في منعه. لهذا السبب لم يستمع زيد لأمره الذي لا يتوافق مع القرآن.

ب_ الآية 59 من سورة النساء

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ، فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء 4/59)

كلام محمد صلى الله عليه وسلم بصفته رسولا هو آيات الله تعالى (القرآن)، لذا كان السبيل الوحيد لإطاعة الله هو إطاعة رسوله. يقول الله تعالى:

{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (النساء 4/80)

{مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ، وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} (المائدة 5/99)

بناء على هاتين الآيتين والآيات المتشابهة معهما فإن رد الاختلاف إلى الله ورسوله يعني الرد إلى القرآن الكريم واعتباره الحكم عند الاختلاف في أي مسألة.

لم يكن النبي محمد يخطئ عندما كان ينقل الآيات على أنه رسول الله. لو فعل ذلك متعمدا لقطع الله وريده (الحاقة 69 / 44-47). كان محمد عليه الصلاة والسلام يبلِّغ الآيات بصفته رسولا، لكنه في الأوقات الأخرى كان يحمل صفة النبي، وفي الوقت الذي لا يمكنه الخطأ كرسول عندما يبلغ رسالة الله تعالى إلا أنه لا يستحيل عليه الخطأ خارج تلك المهمة، أي أنه لا يخطئ بصفته رسولا لكنه قد يقع في الخطأ بصفته نبيا. لهذا السبب  لا توجد آية واحدة تأمر بالطاعة المطلقة للنبي. بعد أن عقد النبي معاهدة الحديبية مع قريش وعودته إلى المدينة جاءت مجموعة من النساء المؤمنات من مكة إلى المدينة تاركات بيوتهن وأهليهن، وقد بايعت هؤلاء النسوة النبي بصفته نبيا ورئيسا للجماعة المؤمنة. وأما بنود هذا العقد وشروطه فقد ذكرها الله تعالى في خطابه للنبي:

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الممتحنة 60/12)

المعروف هو كل عمل يُعرف جماله بالعقل أو الشرع. وهذا يعني أن هؤلاء النساء كجميع المسلمين يمكنهم معارضة نبينا في الأمور التي يرون أنها تتعارض مع المعروف.

وقد ضرب الله تعالى للناس في القرآن أمثلة حيَّة لتعينهم على فهم مراده من كتابه. يقول الله تعالى:

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا[4]} (الإسراء 17/89). يوجد في القرآن الكريم أربعة أمثلة على وجود الخلاف مع نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن تم إخفاء هذه الأمثلة بطريقة ما، الآيتان 36 و 37 من سورة الأحزاب المتعلقتان بزيد بن حارثة وزيب رضي الله عنهما قد وقفنا عليهما آنفا، كما ورد ذكر كلمة “تنازع” في الآية 59 من سورة النساء، وتعني اختلاف المسلمين في أمر ما، وقد وردت هذه الكلمة في آيات أخرى. أما تلك المتعلقة بموضوعنا مباشرة فهي الأنفال 8/43 المتعلقة بغزوة بدر، وآل عمران 3/152 المتعلقة بغزوة أحد. وتتحدث آيات أخرى عن مسلمين لم يرغبوا بالخروج مع نبينا لملاقاة المشركين في بدر. بالإضافة إلى ذلك ارتكب المسلمون في معركة بدر ذنبين كبيرين. دعونا نحاول فهم هذه الآيات من خلال سياقها:

1_ ما قبل معركة بدر

عندما هم النبي بالخروج إلى بدر جادله فريق من المسلمين مبدين رغبتهم بعدم الخروج إلى هناك. قسمٌ من الآيات تناول الموضوع كما يلي:

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ[5] تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ[6] وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (الأنفال 8/5-8)

كان كل من المسلمين ومشركي مكة يعرفون جيداً “الحقيقة” التي تكررت في سياقات مختلفة في آيات أربعة. وقد كان إخراج المكيين جيشًا كبيرا بقيادة أبي جهل يهدف إلى منع تحقق هذا الواقع. نتعلم هذه الحقيقة من الآيات التالية التي نزلت في مكة:

{ا لم. غُلِبَتِ الرُّوم. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم 30/1-6)

وفقا للمصادر التاريخية، استولى الفرس على القدس عام 614 م[7]، وهي السنة الخامسة لنبوة محمد عليه السلام. عندما أصبح هرقل إمبراطورًا لبيزنطة اتفق مع الخزر ضد الفرس وهزم الساسانيين (الفرس)، وذلك بعد تسع سنوات في العام 622 م[8]. وقد وقعت معركة بدر عام 624 م. ومن الواضح أن هناك خطأ لمدة عامين هنا. حيث كان من المفترض أن تكون غزوة بدر متزامنة مع انتصار الروم على الفرس، لأنه اليوم الذي سيفرح فيه المؤمنون، ونتوقع من مؤرخينا أن يحققوا في هذا ويكشفوا الحقيقة.

ونظرًا لأن جميع الآيات التي نزلت تم تبليغها أيضًا إلى المكيين، فإن الحقيقة التي يعرفها الجميع كانت واحدة.

بينما كانت قافلة تجارية كبيرة تابعة لقريش قادمة من الشام بقيادة أبي سفيان، انتشر الخبر بأن الرومان خرجوا لحرب الفرس. كانت قافلة قريش تتكون من 1000 بعير محملة. وبحسب الآيات 1-6 من سورة الروم ، كان الرومان سينتصرون في الحرب وسيكون المسلمون سعداء في ذلك اليوم. سعادة المسلمين لن تكون بالطبع احتفاء بانتصار الرومان، بل لحدث عظيم يخصهم تحديدا. إن معرفة المكيين بهذه الحقيقة مسبقا وضعهم في ورطة كبيرة. لقد كان من الممكن أن تذهب القافلة إلى أيدي المسلمين وحتى مكة نفسها. لذا أخرجوا جيشًا من 1000 شخص في وقت قصير. حقيقة أن عدد الجنود مساو لعدد الإبل في القافلة هو مؤشر على أنَّهم خرجوا لحماية القافلة.

لقد خرج المسلمون نحو بدر من أجل القافلة تماما كأهل مكة، تقع بدر على بعد 160 كم إلى الجنوب الغربي من المدينة، على بعد 30 كم من البحر الأحمر، وقد كانت عبارة عن قرية صغيرة تقع على الطريق بين مكَّة والمدينة تستريح بها القوافل الذاهبة إلى الشَّام والقادمة منها. وحتى لا تقع القافلة في كمين المسلمين سلك أبو سفيان بها طريقا على ساحل البحر الأحمر بعيدا عن بدر، ونادرا ما تسلكه القوافل. الآيات التالية تناولت الموضوع كما يلي:

{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال 8/42).

بعض المسلمين لم يرغبوا حتى بالخروج إلى القافلة، وكانوا قد جادلوا النبي في هذا الأمر. عندما وصلوا إلى بدر، كانوا متمركزين بين جيش مكة والقافلة. وكان من المؤكد أن الله سيمنُّ عليهم بأحدهما (القافلة أو الانتصار على الجيش) كما أكدته الآيات 1-6 من سورة الروم ، لكن المسلمين رغبوا بالاستيلاء على القافلة وليس مواجهة الجيش. دعونا نكرر الآيات ذات الصلة:

{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ[9] أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (الأنفال 8/6-8)

بخصوص القضاء على المشركين المكيين نزلت الآيات التالية في مكة، أي قبل الهجرة:

{وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً. سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} (17/76-77)

قبل معركة بدر نزلت على نبينا الآية التالية:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} (الأنفال 8/65)

وكان المسلمون قد كلفوا قبل بدر بقتال الكفار حتى لو كان على عشرة أضعاف من قوتهم، لكن لما رأى الله تعالى ضعف المسلمين خفف التكليف إلى ضعفين. نتعلم هذا من الآية التالية:

{الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا، فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ، وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ، وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال 8/66)

بحسب الآية فإن المسلمين كانوا مكلفين بقتال عدوهم حتى لو على ضعفين من قوتهم، لكن المكيين كانوا أكثر من ثلاثة أضعافهم. إذا علم المسلمون بذلك فإنهم سيقولون إن نبيهم يتصرف ضد القرآن وسيختلفون معه. ولمنع ذلك قلل الله عدد المشركين في أعينهم. نتعلم هذا من الآيات التالية:

{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ[10] لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ}. (الأنفال 8/43-44)

نتعلم من الآية التالية كيف رأى المسلمون جيش المشركين في بدر:

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا (في بدر) فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} (آل عمران 3/13) .

تشرح الآية 59 من سورة النساء هذه الآيات المتعلقة بموضوعنا بشكل واضح:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء 4/59)

ضمير المخاطب الجمع في قوله تعالى {فإن تنازعتم} الوارد في الآية أعلاه توضحه الآية 43 من سورة الأنفال،: {لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْر} كما توضح مصير هذا التنازع فيما لو حصل.

بحسب هذه الآيات فإن الأمر في قوله تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} يحمل معنى سوى الأمر بإيجاد الحلول للقضايا المتنازع عليها من القرآن الكريم.

بعد وضوح معنى السنة في القرآن الكريم ، فإن الكلمة الوحيدة التي يجب أن تقال لأولئك الذين ما زالوا يدافعون عن السنة بمعناها التقليدي هي: “أنتم مسؤولون عن التقصير في قول الحق أمام الله تعالى وليس علينا سوى قول الحقيقة”.

2_ نبينا والمسلمون في معركة بدر

في معركة بدر ارتكب نبينا خطأين جسيمين كقائد عام في غزوة بدر، وقد غض الصحابة نظرهم عن كليهما، لذا نزلت في حقهم الآية التالية:

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال 8/76).

نتعلم كيف يمكن إثخان العدو وإفقاده القدرة على مواصلة الحرب من خلال الآيات التالية:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (15-16)

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأنفال 8/ 57)

اتخاذ الأسرى قبل إثخان العدو هو مخالف للآية التي نزلت سابقا[11]، وهي قوله تعالى:

{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ…} (محمد 74/4)

لو لم يكن هناك وعد مسبق من الله تعالى للمسلمين بالنصر لكانت قد حلت بهم هزيمة منكرة في بدر بسبب ما ارتكبوه من أخطاء مخالفة لسنن الله في نصر المؤمنين. علمنا هذا من الآية التالية:

{لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال 8/68)

والكتاب المذكور في الآية هو الوعد الوارد في بدايات سورة الروم، حيث سيكون انتصار الروم على الفرس موعدا لفرح المؤمنين بإكرام الله لهم بالنصر على المشركين.

وقد ورد تعبير {عَذَابٌ عَظِيمٌ} في 14 آية، سبعةٌ منها بحق الكافرين[12]، واثنتان بحق المنافقين[13]، وخمسة بحق مرتكبي المخالفات الكبيرة من المؤمنين[14]. والآية التي نحن بصددها من الخمس الأواخر.

وفيما يخص اتخاذهم الأسرى قبل الإثخان في الأرض، جاء قوله تعالى معاتبا: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} (الأنفال 8/76)، والآخرة هي المشار إليها في الآية التالية، والتي تنبئ عن سنة من سنن الله تعالى:

{وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً. سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً}. (الإسراء 17/76-77)

حوت هذه الآية وعدا بأن مشركي مكة لن يلبثوا خلاف النبي في مكة إلا قليلا إن هم أخرجوه منها، وهو ما أراده الله تعالى كنتيجة لمعركة بدر، أي قطع دابر الكافرين وفتح مكة وإخراج المشركين منها. لكن المسلمين لما لم يلتزموا قواعد النصر التي وضعها الله تعالى فوتوا الفرصة لقطع دابر الكافرين ودخول مكة فاتحين. ولو التزم المسلمون بالقواعد التي حددها للنصر لفتحت مكة على إثر معركة بدر، ولما كان هناك حاجة لمعركة أحد ولا الأحزاب ولا غيرهما.

بالتوقيع على معاهدة الحديبية ، فُتحت الطريق لفتح مكة مرة أخرى. نتعلم هذا من الآيات التالية من سورة الفتح التي نزلت أثناء العودة من الحديبية:

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} (الفتح 1-3)

الخطأ الأول الذي حال دون فتح مكة كان عدم تعقب العدو في بدر وقطع دابره (الأنفال 8 / 15-16) ، والخطأ الثاني هو اتخاذهم الأسرى قبل إثخان العدو (محمد 47/4). وقد نصت سورة النصر على الشرط الذي يترتب عليه مغفرة الذنبين المتقدمين، ألا وهو فتح مكة:

{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}. (النصر 110/1-3)

بما أن فهم السنة بحسب القرآن مخالف للتراث فقد تم إخفاء ما تضمنته هذه الآيات من تعريف السنة بطريقة ما.

3_ معركة أحد

لقد حدث في غزوة أحد وضعا مماثلا لما حدث في بدر. عندما تراجع العدو في البداية مدبرا، نشب الخلاف بين المسلمين ولم يتبعوا العدو حتى يقطعوا دابره، وبدلا من ذلك انشغلوا بجمع الغنائم التي تركها المشركون. وتصرفوا مرة أخرى على عكس الآيات ذات الصلة. عند سماع العدو بانشغال المسلمين بالغنائم عادوا منظمين وحملوا على المسلمين المبعثرين، وهذه المرة ليس ثمة وعد بالنصر كما كان الحال في بدر. تراجع المسلمون وتسلقوا الجبل وتحول انتصارهم إلى هزيمة. الآيات التي تصف هذه الأحداث كما يلي:

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا[15] وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (آل عمران 3/152-153)

لقد فر المسلمون من حول النبي تاركين إياه وحيدا في ميدان المعركة، ولم يسعه حينئذ إلا أن ينادي بهم بصفته رسول الله ويذكرهم بالآيات التالية:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (15-16)

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأنفال 8/57)

لما سمع المسلمون هذه الآيات عادوا إلى الميدان وكانوا على موعد مع النصر.

تكشف كل هذه الآيات بوضوح شديد أن الشيء الوحيد الذي يجب طاعته بشكل مطلق هو كتاب الله تعالى.

*المصدر: مقالة أ.د عبد العزيز بايندر (مصطلح السنة بحسب القرآن والتراث) ولقراءة المقالة كاملة يرجى الضغط على الرابط التالي https://www.hablullah.com/?p=5877

ــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  مفردات الراغب، مادة رسل

[2]  أبو جرير الطبري، جامع البيان، تفسير الآية 36 من سورة الأحزاب

[3]  الإمام الشافعي، الرسالة، 1/104-105

[4]  بالرغم من قيام الحجة على البشر ببيان الأحكام وضرب المثل عليها إلا أن أكثرهم يصم أذنيه عن سماع الحق ويختار الباطل. يقول الله تعالى {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر 39/45)

[5]  المقصود قافلة مكة التي كان يقودها أبو سفيان أثناء عودتها من الشام. انظر الأنفال 8/42

[6]  كلمات جمع كلمة، وأقل الجمع في العربية ثلاثة، وهذا يعني أن ما يريد الله إحقاقه بكلماته ثلاثة أمور على الأقل، الأول هو فرح المؤمنين في اليوم الذي ينتصر فيه الروم على الفرس. والثاني ما تقتضيه الآيات (الإسراء 17/76-77) من إخراج المشركين من مكة، والثالث أن يفعل المسلمون ذلك بموجب الآية 191 من سورة البقرة.

[7]  ميدان لاروس ، الساسانيون ، ج. 11 ، ص. 24 1981

[8]  ميدان لاروس القدس MD. ج 7 ، ص. 612

[9]  المقصود بالطائفتين، قافلة قريش وجيشها

[10]  آل عمران 3/13

[11]  لو لم تكن هذه الآية نزلت قبل بدر لما كان نبينا مدانا، لأن القرآن يقرر بشكل واضح أنه لا يدان المرء قبل وصول العلم اليقيني إليه (البقرة 2/120، 145، آل عمران 3/61، الرعد 13/37)

[12]  البقرة 2/7 ، 114 ، آل عمران 3/105 ، 176 ، المائدة 5/33 ، النحل 16/106 ، الجاثية 45/10

[13]  المائدة 5/41 ، التوبة 9/101

[14]  الأنفال 8/68 ، النحل 16/94 ، النور 24/11 ، 14 ، 23

[15]  قوله تعالى {منكم من يريد الدنيا} تعبير عن الغنيمة، والمقصود هنا المنافقون (التوبة 9/47-48)

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.