السؤال:
أريد السؤال عن فتاة لا ترتدي الحجاب لكنها مقيمة للصلاة وتزكي وتقرأ القرآن وغير ذلك من العبادات، طبعا الحجاب فرض ولا شك في ذلك، وهي مقتنعة به، لكن لنقل أن سبب عدم ارتدائها له هو ضعف نفسها، وطبعا سيأتي يوم وترتديه، وأتمنى أن يعطيها الله العمر لذلك اليوم. سؤالي هل التي لا ترتدي الحجاب لا يمكن أن تدخل الجنة؟ هل يعني أن عدم ارتداء الحجاب الشرعي من الكبائر أم أنه أمر يُترك لله تعالى ويمكن أن يغفر لها ويدخلها الجنة؟
الجواب:
إن السائلة الكريمة تسأل عن الحجاب كأنه جزء خارج عن العبادة، وعلى الرغم من اعترافها بفرضيته لكنها _في الوقت نفسه_ فصلته عن العبادة التي حصرتها في (إقامة الصلاة والزكاة وقراءة القرآن…) وهذا ليس خطأ متعمدا منها، وإنما خطأ الروايات التي حصرت العبادة وقصرت معنى الإسلام على خمس فروض أو بمعنى أدق اختزلته في خمس.
ولكن المتدبر لكتاب الله تعالى يضع تعريفًا آخرًا للعبادة حين قال جل جلاله:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات (56)
ولو وضعنا الآية في ميزان الروايات التي قالت بالأركان الخمس لكان معنى الآية أنه تعالى قد خلق الجن والإنس حتى ينطقوا الشهادتين ويفعلوا بقية الأركان الخمس، وبعد ذلك للإنسان أن يفعل في نفسه ما يشاء من الخطايا والسيئات، لأنه مهما فعل فهو يظن أنه تعالى لن يحاسبه ولن يعذبه لأنه قد أدى ما عليه تجاه دينه، فيحسب نفسه في عبادة حين يؤدي الصلاة وعند إخراج الصدقة وعند صيامه في رمضان وعند حجه، وأنه بمجرد تأديته لتلك الفروض فهو حر في تصرفاته يفعل ما يروق له ما دام ملتزما بالفروض، فقد نجده كاذبًا أو مرتشيًا أو ظالمًا أو حاقدًا أو متبرجة أو خاضعة بالقول… إلخ من تلك التصرفات خارج نطاق الخمس. ومن هنا جاء الفصل بين مفهوم العبادة عند أكثر المتدينين وبين مفهومها الذي أراده الله تعالى لعباده.
وهذا الفصل غير صحيح، ومخالف لكل الآيات التي وضحت مفهوم العبادة وجعلته تعريفًا شاملًا لحياة الإنسان ولكل ما يصدر منه، مصداقًا لقوله تعالى:
﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ البقرة (177).
والعبادات المتمثلة في الصلاة والصيام والصدقات هي التي تعينه على الوصول إلى الطريق الصحيح، كما أن الصلاة لا تخص فقط الخمس المكتوبة في اليوم والليلة، وإنما يتسع مفهومها ليشمل اتباع أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه، بدليل قوله تعالى الذي جعل الصلاة في مقابل التولي عن المنهج:
﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ. وَلَٰكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ﴾ القيامة (31: 32)
وكذلك الزكاة لا يقتصر مفهومها على إخراج المال، وإنما أول معانيها هو تزكية النفس والتزامها بتقوى الله في كل سلوك:
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ الشمس (9: 10)
وقراءة القرآن لا تعد عبادة حقًا إلا إذا اقترنت بالتدبر والفهم وبقصد الاتباع المتمثل في التطبيق العملي لا بمجرد الحفظ والترديد، فالعبادة الحقيقة ليست قوالب أو طقوس يفعلها الإنسان ثم يخرج عن عبوديته بالانتهاء منها.
ولكي يصبح الشخص عابدًا لربه لا بد أن يضع كل حركاته وسكناته في ميزان القرآن فيكون عابدًا في تعاملاته مع أهله ومجتمعه وفي دراسته وعمله وفي كسبه وميراثه وحتى عند زاوجه وطلاقه، فلا ينكح طمعًا ولا يطلق ظلمًا، وكذلك في مظهره عند اختيار لباسه، وفي نظراته، وفي مشيته، ونبرة صوته، وحتى في ضحكه وصمته، وفي مدحه وذمه، فلا يضحك سخرية ولا يصمت عن قول الحق، ولا يمدح نفاقًا، ولا يذم تكبرًا، ولا يمشي مرحًا واختيالًا، فكل هذا _وأكثر_ إذا اتبع المنهج القويم في كتابه تعالى الذي يلخصه قوله جل جلاله:
﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الأنعام (162)
أما بالنسبة للسؤال هل يعد ترك الحجاب من الكبائر؟ فنحن لا نستطيع القول بأنه كبيرة تتساوى مع القتل أو أنه فاحشة تتساوى مع الزنا، لكنه في الوقت نفسه لا يُعد من اللمم؛ ذلك لأن عدم الالتزام باللباس الذي أمر الله تعالى به يؤدي إلى ارتكاب الفواحش التي لم ينهانا الله تعالى عن فعلها فحسب، وإنما نهانا حتى عن الاقتراب منها:
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا، إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ الإسراء (32)
ونحن لا نقول بأن المرأة المتبرجة ترتكب الفواحش – حاش لله – ﴿مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ وإنما نتحدث عن تبعات التبرج الذي ذكره تعالى في كتابه عندما بيَّن لنا حكمته في فرض الحجاب حين قال:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ الأحزاب (59)
والكلام نفسه ينطبق على المرأة التي ارتدت حجابًا ظاهريًا وهو الذي غطى زينة الجسد وعورات البدن لكنه كشف عورات وسوأت النفس، وذلك عندما أزالت الحدود في تعاملها مع الرجال بالخضوع في القول، والسماح لهم بالتلامس والتهامس والغمز واللمز، أي أنها لم تلتزم بمتطلبات وتبعات هذا اللباس من إبراز الحياء في المشية والكلمة والنظرة، فخرج الحجاب عن نطاقه المطلوب وأصبح زيًا كغيره من الأزياء يخضع لمقاييس العصر ولا يخضع لمقاييس الحشمة والوقار في الشكل والمضمون كالتعامل باستحياء ووضع الحدود عند مخالطة الرجال كمن قيل فيها:
﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ، قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا..﴾ القصص (25)
وكلاهما – سواء من بعض المتبرجات أو من بعض ممن اكتفين فقط بغطاء الرأس دون التخلق بآدابه قد أعطين بلا شك الفرصة لضعاف الإيمان ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَض﴾ أن يؤذيها ويعتدي على حرمتها ظنا منه أنها ما دامت المرأة قد أظهرت زينتها ومفاتنها أو تخلت عن حيائها وأزالت حدود التعامل معها فهي بذلك قد أذنت له _بشكل ضمني_ بأنها على استعداد لقبول كلمات المدح والإطراء على جمالها – حتى لو لم تقصد المرأة – لكنها شجعته ليبدأ هو بدوره أولى مراحل الأذى بداية من اختلاس النظرات السامة إلى مفاتنها وتتبع عورتها وإبداء الإعجاب بزينتها وضحكتها وصوتها وصولًا إلى مرحلة الفواحش بالتحرش اللفظي والجسدي بها وربما سولت له نفسه لما هو أشد من ذلك لتجد المرأة نفسها قد جلبت لنفسها الأذى لأنها نسيت أو تناست قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾.
ومن هنا فالحجاب الذي أمر به تعالى هو (لباس التقوى) الذي إن حجب وستر الجسد ففي الوقت نفسه قد أظهر وأبرز الخُلق والحياء والأدب.
أما عن مغفرته تعالى للمتبرجة يوم القيامة ودخولها الجنة، ففي الحقيقة لسنا مخولين ولا أي أحد من البشر الحق في إصدار الأحكام نيابة عن رب العالمين بدخول الجنة أو النار امتثالًا لنهيه تعالى لرسوله ونحن من بعده:
﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ آل عمران (128)
وقوله أيضا:
﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ الأنعام (52).
لكننا على يقين أن الإسراع بالتوبة وعدم الإصرار على المعصية هو أول سبيل لمغفرته تعالى الذي يغفر الذنوب جميعًا مصداقًا لقوله جَلَّ في عُلاه:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ آل عمران (135)
ختامًا:
المؤمن الحق هو الذي يعمل جهده لتحقيق أقصى درجات الالتزام، وهذا لا يعني الكمال بحال، فقد يصدر منه التقصير والتهاون أحيانا، الذي لولا حلمه تعالى بنا جميعًا لما أمهل أحدا الفرصة للبقاء لحظة واحدة:
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّىۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ فاطر (45)
وما يقع على عاتقنا هو التواصي بالحق والصبر، لذلك نوجه النظر إلى العبادة بمفهومها الحقيقي التي تجعل من المؤمن نموذجًا يُحتذى به في الظاهر والباطن في أدق تفاصيل حياته وتعاملاته مع الآخرين، ومن ذلك أن تتحلى المؤمنة بزينة الحجاب وتجاهد نفسها للالتزام بلباس التقوى لأنها لا تعلم متى ينقضي الأجل، وربما كان تقديره تعالى للموت أسرع إلينا من تخطيطنا للتوبة أو الالتزام، استجابة لنداء أرحم الراحمين:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ الأنفال (24).
*وللمزيد حول الموضوع ننصح بالاطلاع على المقالات المتعلقة بالضغط على روابطها كما يلي:
اللباس والفطرة https://www.hablullah.com/?p=3003
المقصود بالجلباب الوارد في قوله تعالى “يدنين عليهن من جلابيبهن”
https://www.hablullah.com/?p=5660
هل يمكن أن تكون السعادة في خلع الحجاب؟ https://www.hablullah.com/?p=8963
وكذلك مشاهدة حلقة (خمار المرأة في القرآن) على الرابط التالي https://www.hablullah.com/?p=5611
الباحثة: شيماء أبو زيد
