السؤال:
قال الله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت ايمانكم من فتياتكم المؤمنات…) كلما أتلو هذه الآية الكريمة يتبادر إلى ذهني أنها استثناء مما تقرر مسبقا من أنه يفرض على المؤمنين المقدمين على الزواج ،الزواج من المحصنات (الحرائر العفيفات) وإلا فما معنى “من لم يستطع” إذ لم يذكر من قبل أساسا الزواج من المحصنات الحرائر شرطا لصحة الزواج و فرضا مكتوباً على من يريد الزواج، فإذا تدبرنا الآية السابقة لهذه الآية لم نجد أي ذكر لهذا الشرط صريحا، لكن ذكر قوله تعالى “والمحصنات من النساء…” وهو حسب التفسير المشهور المراد بهن المتزوجات، معطوفا على من ذكرن من قبل من المحرمات، فلا ذكر إذن للشرط المذكور ، لكن الذي أظنه (ولا أتيقنه) أنه حدث خطأ في تفسير المحصنات في قوله ” والمحصنات” بالمتزوجات، بسبب الرواية في الباب، والمحصنات في غير هذه الآية لم تستخدم الا للحرائر العفيفات، متزوجات أو غير متزوجات، فلو نحينا الرواية حينا، وقلنا أن المحصنات، المراد بهن الحرائر العفيفات، والجملة ليست معطوفة على المحرمات، بل هي جملة مستأنفة معترضة لبيان شرط لازم ومكتوب كتاب الله على العباد الذين يقدمون على الزواج، قبل بيان أحكام الزواج ممن لسن من المحرمات، فإن المقصود بقوله تعالى وأُحل لكم ما وراء… ليس ذكر الحلال من النساء، فإنه مستفاد من قوله تعالى حرمت عليكم…، فمن لم يذكرن في المحرمات حلال بالأصل، وإنما المقصود، على ما أظن، قوله أن تبتغوا بأموالكم……. وقلنا إن الله ذكر أولا المحرمات من النساء، ثم ذكر أن المكتوب من الله على المؤمنين إذا أرادوا الزواج من غير المحرمات، أن يتزوجوا الحرائر العفيفات ( المحصنات) دون الإماء، ثم ذكر طريقة الزواج….أن تبتغوا… لو قلنا ذلك لحلت المشكلة.
هذا كل ما أخاله في محاولتي لفهم الآية فهما صحيحا، ولست ماهرا في التفسير ولا في اللغة العربية، وإني معجب كثيرا بموقعكم وبأسلوبكم في فهم الدين والقرآن، فالمرجو منكم أن تردوا على مفصلا على ما أظهرت من تصورات حو ل الآية، وأن تصوبوني إن كنت على خطأ فيما سجلت من ملاحظات، وأن تقدموا تفسيرا صحيحا لقوله والمحصنات. والسلام.
الجواب:
في البداية نحيي السائل الكريم على تدبره لآيات الذكر الحكيم ومحاولة فهمه وكذلك على ثقته في موقعنا، جعلنا الله وإياكم ممن قيل فيهم: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ، وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ الزمر (18)
وما تدبره السائل فيه من الصواب وفيه ما يحتاج إلى ربطه بالسياق وبغيره من الآيات التي تتحدث عن الموضوع نفسه لتكتمل الصورة في ذهنه ويطمن لها قلبه.
فإن كلمة المحصنات جاءت من الحصن أي الحمى الذي يمنع الغير من الدخول إليه ولذا جاءت كلمة الحصن بمعنى المكان الذي يصعب اختراقه قَالَ تَعَالَىٰ:
﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ الحشر (14).
والمرأة تكون محصنة بأمرين، بعفتها وهو الأصل في كل امرأة أن تحصن نفسها من الوقوع في الفاحشة وأن تذب عن نفسها من يتجرأ عليها، وبالزواج أيضا، وكأنها أضافت زوجها إلى المحصنين إياها، ونستطيع أن نفرق بين المعنيين حسب سياق الآية التي جاءت فيها.
فنجد المحصنات جاءت بمعنى العفيفات في قوله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ النّور (23)
والدليل على ذلك أن الافتراء على المرأة العفيفة بالزنا من الكبائر ويوجب الحد على المفتري سواء أكانت متزوجة أم غير متزوجة.
ونجد المحصنات بمعنى المتزوجات (أي المحصنة بالزواج) كما في قوله تعالى:
﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ النساء (25)
فكلمة (أحصن) هنا (بكسر الصاد) أي أنهن أصحبن في حصن أزواجهن، والرجل مُحصِن لأنه زاد في تحصينها.
وإذا جئنا للآية موضع الشاهد فقد قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ:
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ النساء (24)
فإنه يمتنع أن تكون المحصنة هنا بمعنى العفيفة بنفسها وإنما تدل على المحصنة بزوجها، وذلك لعدة دلائل من خلال السياق نفسه:
- إن المحصنات جاءت معطوفة على ما قبلها من النساء المحرمات؛ وذلك لئلا يظن البعض أن المرأة المتزوجة يجوز لها التعدد بأكثر من زوج مثل الرجل، وكذلك ليؤكد على أنه لا يحل لرجل مؤمن أن يقترب من تلك المرأة المتزوجة وإغوائها لتترك زوجها وتتزوج منه.
ولو كان المراد كما يعتقد السائل بانتهاء ذكر المحرمات في الآية السابقة ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ…..﴾ النساء (23) والبدء في ذكر من يحل الزواج منهن في قوله ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) فإن المعنى لا يستقيم بهذا الاعتقاد لوجود حرف العطف، وكذلك لأن الآية لم تبدأ بقوله (وَأُحِلَّ لَكُمْ) ثم جاء ذكر المحصنات، كأن يقول مثلا (وأحل لكم ما وراء ذلكم من المحصنات إلا ما ملكت أيمانكم)!
ولكن الآية بدأت ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) عطفًا على بقية المحرمات ثم ذكرت أن ما دونهن فهو حلال (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُم).
ولنأخذ على ذلك مثالًا كما جاء في قوله تعالى:
﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾ المائدة (5)
فبدأت الآية بقوله (اليوم أحل لكم) لأنها جاءت بعد آيات تحريم أطعمة معينة ولم يقل الله تعالى (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ثم قال ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ).
- وكذلك علينا النظر في الفرق بين عبارة ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) وبين (الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) فالأولى تحدد فئة معينة من النساء، وبالفعل ليست كل النساء متزوجات وذلك كقوله تعالى ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾ النّور (60) فليست كل النساء من القواعد.
أما الثانية فتعطي وصفًا لهؤلاء المحصنات بالإيمان، وذلك لأن العفة من المفترض أن تتصف بها كل النساء، وغير ذلك يُعد استثناء، وقد تتعدد الأوصاف كما جاء في قوله (الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ).
ولو كان المراد في الآية موضع الشاهد هن العفيفات فقط، فما قيمة قوله (من النساء) التي حددت صنفًا معينًا وليس كل النساء!!
- إذا كانت المحصنات هنا هن العفيفات دون زواج فلماذا استثنيت منهن ملك اليمين هنا؟!
ألا يصح الزواج من ملك اليمين غير المتزوجة؟ فالآية التالية لها تدل على جواز الزواج منهن!
ولكن المعنى، أن المتزوجات من النساء محرمات إلا ملك اليمين فهي مستثناه من هذا الحكم؛ لأنها لا تستطيع العودة إلى زوجها وقد لا تعلم عنه شيئَا وقد تريد مفارقته نظرًا لحالة الحرب وما يترتب عليها من أحكام.
فأحل الله تعالى لهذه المرأة أن تفترق عن زوجها دون أن يطلقها ويُحكم لها بالتفريق ويصبح افتداء بدون فدية، وإن أرادت أن تتزوج ممن ملك يمينها بمحض إرادتها وبغير إجبار لها فيحل لها ذلك، ويتم الزواج بعقد ومهر وبإذن أهلها كما بينت الآية التالية لها مباشرة:
﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ، فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ، وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ النساء (25)
وتفكير السائل صحيح بالنسبة لسؤاله: (وإلا فما معنى “من لم يستطع” إذ لم يذكر من قبل أساسا الزواج من المحصنات الحرائر شرطا لصحة الزواج و فرضا مكتوباً على من يريد الزواج).
ويأتي الرد من الله تعالى للإجابة عن سؤاله بالترتيب التالي:
- بعد ذكر المحرمات ذكر تعالى من يحل الزواج منهن بصفة عامة بقوله (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ)
- ثم أعقبها بشرط هذا الزواج (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) وهو الصداق والنفقة ونية الإحصان وعدم التلاعب بالنساء، وشدد على أن الصداق فريضة لئلا يتهاون فيها أحد (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) ثم ذكر أنه لا مانع من التراضي بينهم بعد ذلك (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ)
- ثم أعقب بالبديل في حالة عدم القدرة على تحقيق الشرط ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) فمن لم يستطع أن يوفر المال اللازم ليدفع المهر لامرأة حرة عفيفة مؤمنة ويوفر لها نفقة ومسكنا خاصا بها بعيدًا عن نفقة أهله، فله أن يتزوج من ملك اليمين لأنها لا تحتاج إلى نفس مقدار المهر والنفقة الذي يدفع للحرة إذ أنها تقيم معهم في البيت نفسه.
- ثم ختم الآيات بقوله تعالى: (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ، وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ليؤكد على فكرة وجوب الصداق/المهر في الزواج، وحث على الصبر لحين توفر المال منعًا لظلم ملك اليمين والتفريط في حقهن نظرًا لتدني مكانتهن الاجتماعية، ولأن ملك اليمين تقصد في زواجها الفكاك من الأسر غالبا وليس تكوين أسرة.
إن الإشكالية الحقيقية جاءت من التفاسير التي حرفت الكلم عن مواضعه وأحلت للرجال أن يأتوا ملك اليمين بغير عقد النكاح الذي أوجبه الله تعالى كشرط لارتباط الرجل بالمرأة، وتناسوا شرط عدم القدرة على الزواج من الحرة لإباحة الزواج من ملك اليمين [النساء: 25]، حيث تندفع الحاجة بالزواج من أسيرة واحدة، لكن جملة الفقهاء قد حللوا معاشرة ملك اليمين بدون حصر بعدد وبدون عقد نكاح وحتى لو كان متزوجا من الحرة.
كما تناسوا قوله تعالى (محصنين غير مسافحين) فتحول استغلال ملك اليمين لدرجة وصفه بالزنا المنظم. وتناسوا أن ملك اليمين جاءت في كتاب الله تعالى معطوفة على النكاح وليس على السفاح.
وكذلك تناسوا أن الله تعالى قد حدد العلاقة بين الرجل والمرأة في كتابه بين نكاح أو سفاح وجعل للنكاح أحكامه من الصداق والنفقة والطلاق والعدة، وجعل للسفاح عقوبته وما يترتب عليه من عدم حل الزواج من كليهما قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:
﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ النّور (3)
ولكن المذاهب التي اعتمدت في أدلتها على الروايات المفتراة على الله ورسوله قد خرجت بتصور مقيت عن ملك اليمين، لا يمت إلى دين الله تعالى بصلة.
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله https://www.hablullah.com/
الباحثة: شيماء أبو زيد