الباحث: د. عبد الله القيسي
جاء الوحي في القرآن لأربعة معان: لكلام جبريل للأنبياء كما قال تعالى: ﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾. وللإلهام كما قال تعالى: ﴿وأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى﴾. ولإلقاء المعنى المراد في النفس كما قال تعالى: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها﴾. وللإشارة كما قال تعالى: ﴿فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾[1].
أما كلام الله إلى البشر فقد حصره القرآنَ في ثلاثة أنواع كما بينها قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى:51]، فكلام الله إلى البشر بحسب الآية إما أن يكون:
1- وحيًا. 2- أو من وراء حجاب. 3- أو يرسل رسولاً.
أما النوع الثاني الذي ذكرته الآيةُ وهو الكلام من وراء حجاب فهو خاص بنبي الله موسى فقط كما ذكر الله تعالى:
﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف:144]، ﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾ [النساء:164].
وبهذا ينحصر الكلام لبقية البشر في نوعين:
النوع الأول: بإرسال رسول: ورسل الله هم الملائكة، والمُكلَّف بتبليغ الوحي إلى البشر هو جبريل ينـزل برسالة من الله هي الدين (الإسلام). قال تعالى: ﴿وإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء:192-195] والروح هنا هو جبريل فإذا نزل على بشر برسالة من الله وهي (دين الإسلام) فإن هذا البشر يسمى رسولاً.
ومن المهام التي قد يقوم بها جبريل كجزء من رسالة الأنبياء هي تعليمهم الشعائر التي يتعبدون بها الله سبحانه، فقد ذكر القرآن أن إبراهيم وإسماعيل طلبا رؤية المناسك قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة:128]. وهو ما تشير له آية النجم ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [النجم:13] وسيأتي تفصيله عند مبحث الإسراء والمعراج.
وقد ينزل جبريل لتنفيذ أمر من الله في الأرض غير الرسالة كما نزل على مريم على صورة بشر:
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً *فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً﴾ [مريم:١٦-٢١].
أما النوع الثاني: فهو الوحي عن طريق الإلهام والقذف في الروع سواء كان يقظة أو منامًا، وهذا النوع من الوحي ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: وحي خاص بالأنبياء يقظةً أو منامًا، ومثاله في اليقظة قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:87]،
وأما الوحي في المنام فقد ذكره تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات:105].
والفرق بين وحي الرسالة ووحي النبوة ما يلي:
1- الأول ينزل به جبريل والثاني إلهام وقذف في الروع.
2- الأول تشريع والثاني إرشاد للنبي.
3- الأول يحفظه الله في كتاب والثاني لا يحفظه الله في كتاب.
4- الأول يكون في حال اليقظة والثاني يكون في اليقظة والمنام.
وعلى هذا فقد نزل جبريلُ على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بالقرآنِ وتعهَّدَ الله بحفظِه ليكونَ التشريعَ الدائمَ والخالدَ:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9]،
وقد أوحى الله إليه بالمعنى العام للوحي وهو القذف في قلبه وروعه عليه الصلاة والسلام، وقد أشار الله إلى هذا النوع من الوحي بنوعيه في اليقظة عند قوله تعالى:
﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [التحريم:3]،
وفي المنام عند قوله تعالى:
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾ [الفتح:27]،
وما بقي من تصرفات النبي وهو الغالب فهو اجتهاد منه عليه الصلاة والسلام.
القسم الثاني: وحي عام لجميع الناس كافة يقظةً أو منامًا، وقد أشار الله إلى هذا النوع في اليقظة عند قوله تعالى:
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص:7]،
وفي المنام عند قوله تعالى:
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف:43].
وتفسير الرؤى في القرآن كان خاصاً بالأنبياء، لأنه نوع من الغيب، وتفسير الرموز في الرؤى كانت معجزة يوسف أمام قومه، أما ما يجري اليوم من تفسير لرؤيا الآخرين فإنه أقرب لادعاء علم الغيب، وعيش على الأوهام، إلا ما يقع من تفسير كل فرد لرؤياه فذلك ممكن كونه أدرى بكل سياقاتها، على ألا يعتبر ذلك يقيناً.
والفرق بين الوحي الخاص بالنبوة والوحي العام للناس ما يلي:
1- الأول فيه يقين أنه من عند الله والثاني لا يقين فيه.
2- الأول يطلع فيه على بعض الغيب ويكون يقيناً، أما الثاني فقد يكون فيه إشارة للغيب لكن لا يقين فيه. لأن الغيب اليقيني لا يطلعه الله إلا للأنبياء والرسل قال تعالى:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾ [الجن:26-27]،
وبناء عليه فإن ما حكاه الله عن العبد الصالح صاحب موسى الذي أطلعه الله على بعض الغيب، فإنه يكون بذلك نبيًا أو مَلَكاً في صورة بشر لا وليًا كما يعتقد البعض، وهذا ما قاله بعض المفسرين.
3- الأول قد يأتي في المنام بلا إشارة (مثل فلق الصبح) وقد يأتي رمزًا، أما الثاني فلا يأتي إلا رمزًا.
ويدخل في النوع الثاني ما يلهمه الله في غرائز الحيوانات كما أوحى الله إلى النحل:
﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ [النحل:68].
وهناك نوع آخر من الوحي ذكره الله في كتابه هو أمره عز وجل لجميع مخلوقاته بأمر ما، فتسلّم هذه المخلوقات لهذا الأمر، ومن أمثلته: وحيه للسماوات، قال تعالى:
﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فصلت:12]،
ووحيه للأرض، قال تعالى:
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة:1-5]،
ووحيه للملائكة، قال تعالى:
﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال:12].
من خلال هذا العرض للآيات التي تتكلم عن الوحي يمكن أنْ نصلَ إلى خلاصةٍ لأنواع الوحي وتعريفِ كل نوع من هذه الأنواع، يقول الشيخ محمد عبده: الوحي “عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قِبل الله بواسطة أو بغير واسطة، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت، ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام: وجدان تستيقنه النفس فتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور”[2].
في ضوء تعريف الشيخ محمد عبده للوحي، يمكن تعريف أنواع الكلام من الله إلى البشر كالتالي:
1- بإرسال رسول: والرسول هنا هو الروح الأمين جبريل عليه السلام، ومن أهم وأعظم مهامه: النزول بالرسالة على الأنبياء كي يوصلوها إلى البشر، فمَن نزل عليه جبريلُ برسالة فقد صار رسولاً، وقد ينزل لتنفيذ أمر من أوامر الله في الأرض كما حدث مع مريم عليها السلام.
2- وحي بالقذف في القلب للأنبياء، سواءً في اليقظة أو في المنام: وهو عرفان يجده النبي من نفسه يقظةً أو منامًا مع اليقين بأنه من قِبل الله.
3- وحي إلهام للإنسان: وهو وجدان تطمئن له النفس يقظةً أو منامًا، فتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور.
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
ــــــــــــــــــــــــــ