بعض البيوع المنهي عنها
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض البيوع من أجل توفير الأسواق الحرة ومنع الغبن الفاحش. من هذه البيوع المنهي عنها تلقي الركبان وبيع النجش والإحتكار.
1_ تلقي الركبان
هو الإقبال على القادمين من المناطق البعيدة بتجارتهم ، ولا يعرفون سعر السوق ، فيسرع إليهم التجار والسماسرة ، ويخدعونهم في السعر، ثم يبيعون السلعة بثمن مرتفع. والوساطة في حد ذاتها ليست حراما، وإنما خداع الناس في السعر لعدم علمهم به هو الذي حرم هذا النوع من التعامل ، كما أن في استغلال هذه الوساطة ارتفاعا للأسعار مما قد يضر بالصالح العام. ومع أن الإسلام لم يضع حدا للربح، إلا أنه حرم الغبن والغش في الأسعار لمن يجهلها.
عن ابن عمر قال :”نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلقى السلع حتى تدخل الأسواق”، لأن السلع التي لم تبلغ الأسواق قد تباع رخيصة بسبب الجهالة. وفي رواية قال :” لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه شيئا فهو بالخيار إذا أتى السوق “.[1]
2_ الاحتكار
الاحتكار في التعريف العام هو حبس الشيء عن العرض وقت الرخص، وبيعه وقت الغلاء في السوق عند اشتداد الحاجة إليه.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” الجالب مرزوق والمحتكر ملعون “.[2] وفي حديث قال :” لا يحتكر إلا خاطئ “.[3]
وآثار الإحتكار ليست وليدة اليوم أو الأمس فالناس يلمسونها في كل زمان ومكان، وأشد أنواع الإحتكار تأثيرًا على المواطن هو احتكار القوت اليومي له، وقد قال – صلى الله عليه وسلم: “من احتكر على المسلمين طعامًا ضربه الله بالجذام أو الإفلاس”.(سنن ابن ماجة،حديث رقم(2146)، شعب الإيمان للبيهقي، حديث رقم (10772)
وعُرّف الإحتكار في الإصطلاح بتعاريف مختلفة. وهو عند أبي الحنفية:” أن يشتري طعاما في مِصرٍ ويمتنعَ عن بيعه وهذا يجلب الضرر على الناس. والمحتكر يؤمر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله. فإن لم يفعل وأصر على الإحتكار ورُفع إلى الإمام مرة أخرى وهو مُصِرٌّ عليه، فإن الإمام يعظه ويبين له عدم جواز الإضرار بالناس. فإن لم يفعل ورفع إليه مرة ثالثة يحبسه ويُعَزِّره زجرا له عن سوء صنعه. ولا يُجبِر على البيع وكذا لا يُسعِّر”.[4]
3_ بيع الرجل ما ليس عنده
في السنن والمسند من حديث حكيم بن حزام قال: قلت يا رسول الله: يأتيني الرجل يسألني البيع ما ليس عندي فأبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال لا تبع ما ليس عندك. قال الترمذي: حديث حسن.[5]
4_ بيع السلعة قبل قبضها
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يقبضه”[6] والمراد به المواد الغذائية المعبَّر عنها بالطعام . خلافا للشافعية. كما قال النووي واختلف العلماء في ذلك أي في حديث: “من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يقبضه” فقال الشافعي: لا يصح بيع المبيع قبل قبضه سواء كان طعاما أو عقارا أو منقولا أو نقدا أو غيره.[7]
5_ النَجَش
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش. متفق عليه.
بيع النجش هو الزيادة في سعر السلعة بقصد رفع سعرها لا لشرائها من خلال صفقات وهمية، وهي إضرار بالآخرين، ومثاله أن يأتي إنسان إلى سوق الحراج ويحرّج على سلعة من طعام أو خضار أو فواكه أو غير ذلك، ويزيد هذا في السلعة وهو لا يريد شراءها، إنما ليرفع في سعرها، سواء أراد أن يضر مسلما أو لم يرد ذلك، فهو محرم على كل حال.[8]
6- العُربون
بيع العربون وهو أن يدفع المشتري أو وكيلُه للبائع مبلغاً من المال أقل من ثمن المبيع بعد تمام عقد البيع ، لضمان المبيع ؛ لئلا يأخذه غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فللبائع أخذه وتملكه. وبيع العربون صحيح ، سواء حدد وقتاً لدفع باقي الثمن أو لم يحدد وقتاً، وللبائع مطالبة المشتري شرعاً بتسليم الثمن بعد تمام البيع وقبض المبيع.
وقد اختلفت فيه آراء المذاهب على النحو التالي:
يرى الحنفية أن البيع الواجبَ المبرَم بطريق مشروع إنما يفسخ برضا الطرفين أو بقرار المحكمة، ولا حقَّ للمشتري أو البائع في فسخ العقد وحده. ويستطيعان أن يعقدا بيعا على أن يكون المشتري أو البائع أو كلاهما بالخيار لمدة معينة، فيصح للطرف المخيَّر أن يفسخ العقد في هذه المدة، كما أن للمشتري حق الفسخ إذا ظهر عيب في السلعة.[9] ولكن لا يجوز أن يبقى العربون للبائع في حالة امتناع المشتري عن الشراء حتى وإن اشتُرط هذا في العقد، لأنه ربح بلا عوض، ليس بصدقة ولا هبة، وهو يعتبر كسبا غير مشروع فلا يحل للبائع.[10]
ويرى الحنابلة أن البيع إذا عقد فدفع المشتري إلى البائع مالا مقدما وقال:”إن رجعت عن شراء السلعة فهو لك” ، ثم رجع أصبح العربون من حق البائع.[11]
أما المالكية فلا يجيزون بيع العربون. ويُصَدّر مالك كتاب البيوع من موطّئه بحديث :” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان”.[12] ثم قال فيه : ” وذلك فيما نرى والله أعلم- أن يشتري الرجلُ العبدَ أو الوليدة أو يَتكارَى الدابةَ ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه أعطيك دينارا أو درهما أو أكثر من ذلك أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبتُ ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة، وإن تركتُ ابتياعَ السلعة أو كراءَ الدابة فما أعطيتك لك باطل بغير شيء “.[13]
ويقول أحمد بن محمد الصاوي وهو من علماء المالكية: العربون: أن يشتري أو يكتري سلعة ويعطيه شيئا من الثمن على أنه أي المشتري إن كره البيع تركه للبائع وإن أحبه حاسبه به أو تركه؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل ؛ ويفسخ. فإن فات مضى بالقيمة ويحسب منها العربون. فإن أعطاه على أنه إن كره البيع أخذه وإن أحبه حسبه من الثمن جاز.[14]
والشافعية كذلك لا يجيزون بيع العربون، ويقولون:” لايصح بيع العربون، بأن يشتري ويعطيه دراهم لتكون من الثمن. إن رضي السلعة وإلا فهبة، للنهي عنه. لكن إسناده غير متصل. ولأن فيه شرطين مفسدين؛ شرط الهبة وشرط رد المبيع بتقدير أن لا رضا “.[15]
أما أحمد بن حنبل فأجاز بيع العربون مُضعِّفا حديثَ النهي عنه، وقال إسناده غيرُ متّصل، وقد فَعَله عمر وأجازه ابنه عبد الله رضي الله عنهما. يقول الحنابلة: “يصحُّ بيع العربون، وهو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهما أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن وإن لم يأخذها فذلك للبائع، لكن إذا لم يصرِّح بذلك لا يكون للبائع. فأما إذا لم يشترط هذا في البيع شرطا واضحا فلا يملكه البائع. فأما لو دفع إليه قبل البيع درهما وقال لا تبع هذه السلعة لغيري وإن لم أشترها منك فهذا الدرهم لك؛ وإن لم يشتر السلعة في هذه الصورة الأخيرة لم يستحق البائع الدرهم؛ ولصاحبه الرجوع فيه”.[16]
تنبيه: في العربون ست لغات: فتح العين والراء: وهي الفصيحة ، وضم العين وإسكان الراء، وعربان بالضم والإسكان وإبدال العين همزة مع الثلاثة وهو أعجمي معرب، وأصله في اللغة التسليف والتقديم.[17]
ويقول أ. د عصمت سونغورلي:[18] أصل العربون في اللغة اليونانية عرهابون، ويقول الرومان: عررا أو عرها.
[1] البدائع 5/ 232. للأحاديث في الباب انظر أبا جعفر الطحاوي، شرح معاني الآثار بتحقيق محمد زهري النجار، بيروت 1407/ 1987، 4/ 7 .
[2] إبن ماجة، التجارات6؛ الدارمي، البيوع 12.
[3] مسلم، المساقاة (26) باب تحريم الاحتكار في الأقوات، 130.
[4] البدائع 5/ 129، 232 .
[5] الترمذي، البيوع 19، الحديث 1232؛ أبو داود، البيوع 68، الحديث 3503؛ النسائي، البيوع60، واللفظ للترمذي
[6] الطحاوي، شرح معاني الآثار 4/ 37 . وقد ذُكِرت هنا جميعُ أحاديث الباب .
[7] سنن أبي داود كتاب الإجارة باب في بيع الطعام قبل أن يستوفي.
[8] أنظر البدائع 5/ 233 .
[9] المجلة، من المادة 300 إلى المادة 309.
[10] خليل أحمد السهارنفوري، بذل المجهود فى حل أبى داود، كتاب البيوع، باب العربان 15/ 177 بيروت .
[11] أنظر: الشرح الكبير لابن قدامة جـ 4 / صـ 58.
[12] أنظر أيضا أبا داود، البيوع69، بيع العُربان (3502) ؛ إبن ماجه، التجارات22 بيع العربان (2192- 2193).
[13] الإمام مالك، الموطأ، أول كتاب البيوع 2/ 609، إسطنبول .
[14] حاشية الصاوي على الشرح الصغير جـ 6 / صـ 347.
[15] أحمد ابن حجر، التحفة 4/ 321-322 (البيوع المنهي عنها) .
[16] عبد الله بن أحمد ابن قدامة، المغني، بيع العربون(3128)،4/ 312-313؛ أحمد بن عبد الله القاري، مجلة الأحكام الشرعية بتحقيق عبد الوهاب أبو سليمان ومحمد إبرهيم أحمد علي، جدة 1401/ 1981، المادة 309 .
[17] مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، جـ 6 / صـ 405. تحفة المحتاج في شرح المنهاج، جـ 4 / صـ 322 (البيوع المنهية عنها).
[18] أ. د عصمت سونجورلي (1928/ 2006) كان أستاذا في كلية الحقوق بجامعة اسطنبول.
أضف تعليقا