السؤال
أرسل هذه الرسالة بعد أن تهت بين الفتاوى وصُدمت كثيرًا من كلام بعض الشيوخ.
أنا أمارس رياضة الفروسية والرماية منذ صغري حيث إنهما من الرياضات القليلة التي يمكن للفتاة المحجبة ممارستها، وبطبيعة الحال فقد بدأت بتدريب ابنتي عليهما حتى لا تشعر بالفرق عندما تصل إلى سن التكليف، ولم أرغب في أن أشركها في رياضة تتطلب منها ملابس غير مناسبة حتى لا يكون صعب عليها تركها.
منذ بضعة أيام قرأت في أحد المواقع أن رمي السهام غير جائز للنساء لأنه من التشبه بالرجال، وأن حديث “لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال” جاء في امرأة كانت تحمل سهامًا على كتفها، وعندما ذهبت لأتأكد من المعلومة وجدت أن ركوب النساء للخيل مكروه وغير جائز وأنه من صفات الرجال وينافي ستر المرأة.
لا أخفيكم سرًا أنني شعرت بغصة في قلبي، فكل شيء الأصل فيه أنه حرام للنساء، أما الرجل فالعالم أمامه مفتوح لا أحد يقول له حراما، وكذلك وجدت أن ركوب الدراجة غير جائز إلى جانب سيل من الفتاوى التي تقول أن خروج المرأة لا يكون إلا لحاجة أو ضرورة.
شعرت بالخوف إذا ما كبرت ابنتي وقرأت هذا الكلام، فالمواقع الإسلامية كلها تتكلم عن المرأة أنها فتنة ويجب أن تختفي، محرم عليها كل شيء.
لا أدري ما المثير للفتنة في ركوب الخيل وأنا مرتدية الحجاب، حجتهم أن هذا قد يؤدي لتحجيم الأعضاء ولكن هذا يحدث للرجل أيضا وهو كذلك لديه عورة، ويحدث عند المشي لا سيما في وجود الرياح، فهل يصبح حرامًا علينا حتى المشي؟!
أتمنى منكم الاجابة على سؤالي مع خالص الشكر.
الجواب:
قبل الإجابة عن السؤال ينبغي أن نوضح نقطة هامة ذكرتها السائلة الكريمة في قولها (بدأت بتدريب ابنتي عليهما حتى لا تشعر بالفرق عندما تصل إلى سن التكليف) فإن كانت تقصد بالفرق هنا الفرق بينها كأنثى وبين الذكر، فإنه بالفعل هناك فارق بين الاثنين، لقوله تعالى:
﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ﴾ آل عمران (36)
ولكن الفارق الذي يعني أنهما مختلفان عن بعضهما ليس هو التفريق الذي يعني التمييز بينهما، ولا علاقة له بمبدأ الثواب والعقاب والحلال والحرام، فالله تعالى لم يقل (ولا يستوي الذكر والأنثى) ودينه تعالى لم ينزل بمحرمات خاصة بالذكور وأخرى زيادة للإناث كما في دين من يعبدون الطاغوت ممن قال الله تعالى فيهم:
﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا﴾ الأنعام (139)
وإنما أنزل الله تعالى تكاليف خاصة بكل منهما، كالتعدد والميراث والحجاب، ولم يأت هذا الاختلاف بالتكاليف من باب التمييز أو عدم العدل أو المساواة بينهما وإنما لاختلاف الطبيعة والفطرة التي فطر الله تعالى كلا منهما عليها، ونظرًا للأعباء والمهام الملقاة على كل منهما نهى تعالى أن يتمنى كل منهما ما أوتي الآخر:
﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ، لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ النساء (32)
الحلال والحرام لا يؤخذ إلا ممن له الحق في التحليل والتحريم، ألا وهو رب العالمين:
﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ…﴾ الأنعام (151)
وكلمة (عليكم) لا تخص فئة بعينها وإنما الخطاب موجه لكل من آمن من بني آدم ذكرًا كان أم أنثى، وقد نهانا تعالى عن التحليل والتحريم بغير سلطان منه جل جلاله:
﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ النحل (116)
وبالتالي فالرسول الكريم صاحب الخلق العظيم ليس مفتريًا على الله تعالى الكذب ولم يتقوَّل على ربه جل وعلا ولم يصدر عنه أي حِل أو تحريم يخالف ما أحل أو حرم تعالى، وهذا الكلام ليس بشهادتنا نحن وإنما بشهادة ربه العظيم:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾ النجم (4)
ولو حدث ذلك الأمر لتوعده ربه:
﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ الحاقة (45)
فالمشرع هو رب العالمين، أما رسولنا الكريم فهو الذي بلغ شرع ربه بصفته رسولًا وطبقه بصفته نبيًا:
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ الجاثية (18)
وكل ما قيل على لسانه فهو منه بريء، والفتوى التي تصدر بناء على قول مزعوم عليه فإثمها على من أصدرها ومن صدقها وعمل بها وحسابهم على رب العالمين.
ومن هنا فإن ممارسة الرياضات المفيدة حلال للذكر والأنثى، وعندما قال سُبْحَانَهُ وتعالى:
﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ النحل (8)
لم يقل (ليركبها الذكور أو الرجال) وينطبق هذا الكلام على كل الرياضات سواء الرماية أو الجري أو ألعاب القوى فكل ما يحل لأحدهما يحل للآخر.
ولكن هنا ملمح تجدر الإشارة إليه، ألا وهو أن هناك رياضات لا تصلح للأنثى وتصلح للذكور كالرياضات العنيفة مثل حمل الأثقال والمصارعة، وهذا ليس من باب الحل والحرمة، وإنما من باب ما يتناسب مع طبيعتها كأنثى أو يؤثر على شكل جسدها سلبيًا مما يضرها أو كما ذكرت السائلة أن هناك رياضات لا تتناسب مع حجابها.
مع الأخذ في الاعتبار أن الأمر نفسه بالنسبة للذكور، فهناك بعض الرياضات التي تتعارض شكلًا وموضوعًا مع طبيعتهم، كالرياضات التي لا طائل من ورائها سوى إلحاق الأذى بالنفس أو بالآخرين كالرياضات التي تقوم على الضرب المتبادل بين اللاعبين وأحيانًا تؤدي إلى كسور وربما تفضي إلى الموت وكالرياضات التي تؤدي إلى تشوهات الجسم أو حقنها بمواد ضارة.
فكل الرياضات التي يمارسها كل من الذكر والأنثى وتؤدي إلى الضرر وتغيير خلقه تعالى فهي تندرج تحت إلقاء النفس إلى التهلكة وينطبق عليها قوله تعالى:
﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ البقرة (219).
ومن هنا فلا داعي للسائلة الكريمة أن تشعر بالغصة في قلبها، فالحرام هو ما حرمه الله تعالى وفصله في كتابه:
﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ…﴾ الأنعام (119)
ولا حاجة لمؤمن أن يبحث عن الحلال والحرام خارجه:
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ النحل (89)
فالشعور بالغصة ليس من دينه تعالى وإنما _في الحقيقة_ تأتى من التقوُّل والافتراء على الله تعالى وعلى رسوله الكريم، وبدلًا من الدفاع عن دينه تعالى وعن رسولنا ننساق إلى سوء الظن في عدل رب العالمين واتهام الدين والرسول بالعنصرية وازدراء الأنثى لحساب الرجل ولعنها منذ ولادتها حتى جعلوها أكثر أهل النار وهو تعالى يقول:
﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ غافر (40)
ولا لعن إلا لمن لعنهم الله تعالى في كتابه.
ولذلك على السائلة الكريمة أن تربي ابنتها وتنشئها على التسمك بكتابه تعالى كما تحرص على تعليمها الرياضة بل أشد من ذلك، وألا ترضى عن كتاب ربها بديلًا، فإن فعلت سوف يتبدد قلقها على مستقبل ابنتها ويتبدل خوفها إلى الأمن كما وعد رب العالمين عباده المتمسكين بدينه وكتابه ولا يشركون به روايات مفتريات:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ النّور (55)
ومن واجب الأم والأب أن يربيا أولادهم على أن هناك من يفتري الكذب على الله تعالى ورسوله في كل زمان ومكان:
﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ، فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ الأنعام (112)
وأن من يتبع المفترين ويرضى بقولهم هم الذين يشركون بربهم ولا يؤمنون بالآخرة:
﴿وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾ الأنعام (113)
وأن على الوالدين أن يدافعا عن العقيدة الصحيحة وأن يواجهوا تلك الفتاوى والدعاوى بقولهم:
﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا، وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الأنعام (114)
وأن يحرصوا على أن يكون أولادهم من ذوي الألباب فلا يغترون بكثرة أهل الافتراء والضلال:
﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ المائدة (100)
وأن الفيصل في كل الأمور هو ما أحله أو حرمه الله تعالى، وأن ما يناسب الفتاة من هذه الرياضات وغيرها هو الأصلح لجسمها ولا يخالف تعاليم دينها من الحشمة والتسامح والعفو والرحمة، وأن ميزان التفرقة عنده جل جلاله هو التقوى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ الحجرات (13).
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
الباحثة: شيماء أبو زيد