د. يحيى جاد
يقول تعالى :
“وإذ قال موسى لقومه : يا قومِ، إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم، فتاب عليكم، إنه هو التواب الرحيم” [البقرة 54]
والسؤال هنا : كيف نُحْسِنُ تدبر جملة “فاقتلوا أنفسكم” ؟
والجواب :
* أولاً :
علينا أن نستحضر سياق هذه الآيات الكريمات ذاتها.
وههنا شِقَّان :
– الشق الأول (وهو استحضار ما نسميه بـ “السياق اللصيق” لآية البقرة نفسها، أي ما قبلها بآيتين مباشرةً)، حيث يقول تعالى :
“وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً،
ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون،
ثم عفونا عنكم من بعد ذلك؛ لعلكم تشكرون [..]،
وإذ قال موسى لقومه : يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم، فتاب عليكم، إنه هو التواب الرحيم” [البقرة 51- 52، 54]
وبتدبر هذا السياق اللصيق، يتضح :
أ- أننا أمام آيات صريحات تُنْبئ بأن الله تعالى قد عَفَى عنهم وغَفَرَ لهم ما ارتكبوا، لعلهم يشكرون، فكيف يشكرون لله بعد عفوه عنهم وهم قد قُتِلُوا وماتوا وَفْقَ التفسير الشائع المزعوم لآية البقرة ؟!
وبعبارة أخرى، كيف يكون قد عفا الله عنهم وقَبِلَ توبتهم؛ كي يشكروه، ممتناً عليهم بذلك ومُذَكِّراً لهم بهذا الإنعام والتفضل، بينما هم قد قُتِلوا وماتوا قبل ذلك ؟! كيف يشكرون الله وهم مقتولون ميتون ؟! كيف يقومون بذلك ؟! هل هذا قولُ عقلاء أم مجانين (فكيف بواهب العقل، سبحانه) ؟!
ب- وأننا أمام أسلوب عربي ناصع هو “التفصيل بعد الإجمال”، حيث أجمل الله أمر العفو عنهم ليشكروه في الآيتين 51- 52، ثم فَصَّل فيه (ببيانه قيامهم بالتوبة والإنابة، متحسرين نادمين، وقبول الله لهذا منهم، وتوبته عنهم ومغفرته لهم) في الآية 54.
إذن، يجب أن تُفهم آية البقرة في ضوء هذا “السياق اللصيق” وبما يتناسب معه ويقتضيه.
وبهذا يتضح أن المعنى المقصود بـ “اقتلوا أنفسكم” معنىً مجازي، أي اقتلوها حسرةً وندماً، وتبرؤاً مما فعلتم، وتضرعاً إلى الله وطلباً لغفرانه ورحمته، على ما فرطتم في جَنْبِ الله وارتكبتم مِن فعلة وسَقْطَة شنعاء بعبادتكم للعجل، وأنهم بذلك يصبحون أهلاً لأن يتوبَ الله عليهم.
فـ “قتل النفس” هنا : كنايةٌ عن طلبِ شدةِ الندم، وشدةِ التبرؤ، وشدةِ التضرع، شدةً تَصِلُ بهم – في حِدَّتها، مجازياً- إلى درجة إزهاق نفوسهم.
– الشق الثاني (وهو استحضار ما نسميه بـ “السياق الممتد” لهذه الآيات في سورة البقرة نفسها أيضاً، أي ما قبلها بكثير، وما بعدها بكثير، من آيات)، حيث يقول تعالى :
“يا بني إسرائيل : اذكروا نعمتي التي أَنْعَمْتُ عليكم، وأوفوا بعهدي أُوفِ بعهدكم [..]،
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمتُ عليكم وأني فضلتكم (هامش : سيبدأ ربنا سبحانه الآن ذِكْرَ وتعدادَ بعض ما أنعم به عليهم مِن نِعَمٍ وأفضال، ودعمٍ، واستجابةِ طلبات، واستجابةِ دعوات، وتوباته المتكررة عليهم، وغفرانه المتكرر لهم، رغم تكرر إذنابهم وإفحاشهم ووقاحتهم وإنكارهم وتجاوزهم وتطاولهم .. إلخ، فهو أيضاً “تفصيلٌ بعدَ إجمال”، تفصيلٌ للنِّعَم التي أجمل الإشارة إليها في الآيتين السابقتين) [..] :
1- وإذ أنجيناكم من آل فرعون، يسومونكم سوءَ العذاب [..]،
2- وإذ فرقنا بكم البحر، فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون [..]،
3- وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً، ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون، ثم عفونا عنكم من بعد ذلك؛ لعلكم تشكرون،
4- وإذ آتينا موسى الكتابَ والفرقان لعلكم تهتدون،
5- وإذ قال موسى لقومه : يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم، فتاب عليكم، إنه هو التواب الرحيم،
6- وإذ قلتم : يا موسى، لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً ! فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون، ثم بعثناكم من بعد موتكم؛ لعلكم تشكرون، وظللنا عليكم الغَمام، وأنزلنا عليكم المَنَّ والسلوى [..]،
7- وإذ قلنا : ادخلوا هذه القرية، فكلوا منها حيث شئتم رَغَداً [..]،
8- وإذ استسقى موسى لقومه، فقلنا : اضرب بعصاك الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرةً عينا [..]،
9- وإذ قلتم : يا موسى، لن نصبرَ على طعامٍ واحدٍ، فادعُ لنا ربك يُخْرِجْ لنا مما تُنْبِتُ الأرضُ [..]،
10- وإذ أخذنا ميثاقكم، ورفعنا فوقكم الطور، خذوا ما آتيناكم بقوة [..]،
ثم توليتم من بعد ذلك ! [..]
11- وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرةً [..]،
12- وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها [..]، فقلنا : اضربوه ببعضها، كذلك يُحْيِي اللهُ الموتى، ويريكم آياته لعلكم تعقلون.
ثم قَسَت قلوبكم من بعد ذلك، فهي كالحجارة أو أشد قسوة [..]، وما الله بغافل عما تعملون” ! [البقرة 40، 47، 49، 50، 51- 57، 58، 60، 61، 63، 64، 67، 72، 73- 74]
وبتدبر هذا السياق الممتد يتضح :
أننا أمام آياتٍ بيناتٍ واضحاتٍ مُفْعَمَةٍ بالتذكير بالنِّعَم والإنعام والأفضال والمِنَن الإلهية التي أنعم الله بها وتفضل على بني إسرائيل مراتٍ ومراتٍ ومراتٍ، رغم تكرر إذنابهم وإفحاشهم وإنكارهم وتجاوزهم وتطاولهم ووقاحتهم .. إلخ (وهو تذكيرٌ من الله لليهود بهذه النِّعَم والأفضال الإلهية؛ ليشكروا اللهَ ويلجئوا إليه ويؤمنوا برسوله محمدٍ الذي بعثه الله لهم – ليضعَ عنهم إصرهم والأغلال التي عليهم- وللعالمين. فهذا الإجمال والتفصيل الوارد في هاتيك الآيات الكريمات تذكيرٌ لليهود بواجبهم نحو البعثة المباركة لمحمد (عليه الصلاة والسلام)، والتي هي لإتمام النعمة الإلهية عليهم وعلى البشر جميعاً).
فالسياق كله سياقُ امتنانٍ وإنعام،ٍ وتذكيرٍ بذلك، فكيف يُمكن قبول دعوى أن الربَّ قد طَلَبَ منهم، كي يتوب عليهم، أن يَقْتُلوا أنفسهم، فيُزْهِقُوا أرواحهم، أو يُزهقوا أرواحَ بعضهم بعضاً، في سياقٍ مُفْعَمٍ بالامتنان والإنعام والتفضل كهذا ؟!
السياقُ كله تذكيرٌ بنِعَمِ الله عليهم، وعفوه عنهم، وتوبته عليهم، مرةً بعدَ مرةٍ :
– إذ أنجاهم من آل فرعون،
– وإذ أنجاهم من اليم وأغرق أعداءهم فيه،
– وإذ واعدهم بإنزال الكتاب عليهم،
– وإذ حققَ وَعْدَه بإنزاله عليهم،
– وإذ قَبِلَ توبتهم عن الشرك بالله (الذي تلبسوا به بعبادتهم للعجل)،
– وإذ عَفَا عنهم، وأعادهم إلى الحياة، عَقِبَ لحظةِ تأديبٍ شديدةٍ (أَخذتهم الصاعقة، ثم بُعِثوا/ أَفَاقُوا)، بعد طلبهم العظائم من موسى (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً !)،
– وإذ راعاهم، بأن ظَلَّلَ عليهم الغَمَام، ورزقهم المَنَّ والسلوى،
– .. إلخ،
فنحن أمام نِعَمٍ وفضالٍ إلهية جليلة، أَغْدَقَ الله بها على بني إسرائيل، متنعمين بها، متقلبين فيها، تارةً بعد أخرى، متغاضياً عن شنائعهم (وجحودهم وتطاولهم وسفاهتهم وحماقتهم) رغم تكررها، وكلها نِعَمٌ تَلِينُ لذكرها القلوب (بل الحجارة !)، وتتحرك الهِمَمُ؛ لشكرِ الله، وامتثالِ أمره، والإيمان بنبيه موسى مِن قبل، ومحمدٍ مِن بعد.
إذن، التفسير الشائع المزعوم (وهو، للأسف الشديد، مأخوذٌ من الإسرائيليات ومَبْنِيٌّ عليها) لا يتناسب مع المقام برمته ولا يليق به ! وكفى بهذا قَدْحاً فيه ! ومِثْلُهُ يَتَنَزَّهُ العاقلُ والحكيمُ عن أن يكون مقصوداً بحديثه، فكيف بواهب العقل والحكمة !
إذن، يجب أن تُفهم آية البقرة في ضوء هذا “السياق الممتد” وبما يتناسب معه ويقتضيه، لا بما يتنافر معه.
وبهذا يتضح أن المعنى المقصود بـ “اقتلوا أنفسكم” معنىً مجازي، أي اقتلوها حسرةً وندماً، وتبرؤاً مما فعلتم، وتضرعاً إلى الله وطلباً لغفرانه ورحمته، على ما فرطتم في جَنْبِ الله وارتكبتم مِن فعلة وسَقْطَة شنعاء بعبادتكم للعجل، وأنهم بذلك يصبحون أهلاً لأن يتوبَ اللهُ عليهم.
فـ “قتل النفس” هنا : كنايةٌ عن طلبِ شدةِ الندم، وشدةِ التبرؤ، وشدةِ التضرع، شدةً تَصِلُ بهم – في حِدَّتها، مجازياً- إلى درجة إزهاق نفوسهم.
* ثانياً :
علينا أن نستحضر مختلف مواضع القرآن التي تحدثت عن ذات الأمر (وثمة، ههنا، غفلة “تراثية” و”مُعَاصِرَةٌ” عجيبةٌ ومُطْبِقَةٌ وتامةٌ عن القيام بهذه الخطوة المنهجية التي تكاد ترقى لمستوى البديهيات) :
– الموضع الأول :
يقول تعالى :
“وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً، وأتممناها بعَشْرٍ [..]، ولَمَّا جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه [..]،
واتخذ قومُ موسى مِن بعده [أي من بعدِ ذهابه للميقات أربعين ليلةً]، مِن حُلِيِّهم، عجلاً جسداً له خُوَار، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً ! اتخذوه وكانوا ظالمين !
ولَمَّا سُقِطَ في أيديهم، ورأوا أنهم قد ضلوا، قالوا : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا؛ لنكونن من الخاسرين !
ولما رجع موسى إلى قومه [أي لما رجع من الميقات] غضبانَ أسِفَاً، قال : بئسما خلفتموني مِن بعدي ! وأخذ برأس أخيه يجره إليه [..]،
قال : ربِّ اغفر لي ولأخي، وأَدْخِلْنَا في رحمتك، وأنت أرحم الراحمين،
إن الذين اتخذوا العجلَ : سينالهم غَضَبٌ من ربهم، وذلةٌ في الحياة الدنيا، وكذلك نجزي المُفْتَرِين،
والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا : إن ربك مِن بعدها لغفورٌ رحيم.
ولَمَّا سكت عن موسى الغضب : أخذ الألواح [..]،
واختار موسى قومَهُ، سبعين رجلاً، لميقاتنا،
فلما أخذتهم الرَّجْفَة قال :
– رَبِّ لو شئتَ أهلكتهم مِن قبلُ وإياي، أتُهْلِكُنا بما فعل السفهاء منا ! إن هي إلا فِتْنَتُكَ، تُضِل بها مَن تشاء، وتَهْدِي مَن تشاء، أنتَ ولينا، فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين،
– واكتب لنا في هذه الدنيا حسنةً وفي الآخِرة، إنا هُدْنا إليكَ.
قال [أي الرب جل وعلا] :
– عذابي، أصيبُ به مَن أشاء،
– ورحمتي وَسِعَتْ كلَّ شيء، فسأكتبها : للذين يتقون، ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياتنا يؤمنون” [الأعراف 142، 143، 148- 150، 151- 154، 155- 156]
وبتدبر هذا الموضع يتضح أننا أمام آيات صريحات واضحات تُنْبئنا :
– أنهم قد استغفروا الرب، جل في علاه، من سَقْطَة عبادتهم للعجل،
– وأن رحمته سبحانه تشملهم/ تسعهم : إذا اعترفوا بذنبهم، وتابوا وأنابوا وآمنوا واتقوا وآتوا الزكاة.
فأين هو الأمر المزعوم بـ “إزهاقهم لأرواحهم” لكي يتوبَ الله تعالى عليهم ؟!
إذن، يجب أن تُفهم آية البقرة في ضوء آيات سورة الأعراف هذه، وإلا ضَرَبْنا، بسوء فهمنا وتدبرنا، آيات الله بعضها ببعض !
وبهذا يتضح أن المعنى المقصود بـ “اقتلوا أنفسكم” معنىً مجازي، أي اقتلوها حسرةً وندماً، وتبرؤاً مما فعلتم، وتضرعاً إلى الله وطلباً لغفرانه ورحمته، على ما فرطتم في جَنْبِ الله وارتكبتم مِن فعلة وسَقْطَة شنعاء بعبادتكم للعجل، وأنهم بذلك يصبحون أهلاً لرحمة الله ومغفرته.
فـ “قتل النفس” هنا : كنايةٌ عن طلبِ شدةِ الندم، وشدةِ التبرؤ، وشدةِ التضرع، شدةً تَصِلُ بهم – في حِدَّتها، مجازياً- إلى درجة إزهاق نفوسهم.
– الموضع الثاني :
يقول تعالى :
“يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، فقالوا : أرنا اللهَ جَهْرَةً ! فأحذتهم الصاعقة بظلمهم.
ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات، فعفونا عن ذلك، وآتينا موسى سلطاناً مبيناً، ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم” [النساء 153- 154]
وبتدبر هذا الموضع، يتضح أن الله تعالى قد عَفَا عنهم، ثم، بعد العفو عنهم، رَفَع فوقهم الطور، فكيف يكونون مَحلاً للعفو وهم – وفق التفسير الشائع المزعوم لآية البقرة- قد أَزْهَقُوا أرواحهم قبل ذلك ؟!
ثم كيف يُخبرُ الله تعالى (بعد إخباره بعفوه عنهم) أنه قد رَفَع فوقهم الطور؛ إذ كيف يُرْفَع فوقهم وهم مقتولون مَيتون قبل ذلك ؟!
إذن، يجب أن تُفهم آية البقرة في ضوء آيات سورة النساء هذه، وإلا ضَرَبْنا، بسوء فهمنا وتدبرنا، آيات الله بعضها ببعض !
* ثالثاً :
أ- هذا المعنى المجازي للقتل : معهودٌ في اللسان العربي الفصيح، فأصل المادة (ق ت ل) قولهم : “ناقة قَتَّال” : أي تساقَطَ لحمها وشَحْمها، فلم يَبْقَ منها إلا العَظْم،
ثم اسْتُعِيرَ في “القتل”، بمعنى إزهاق الروح،؛ لأن فيه إسقاطاً للمرءِ إسقاطاً تاماً،
كما استعير في آية البقرة أعلاه “فاقتلوا أنفسكم” : أي أَسْقِطُوا لحمكم وشحمكم عن جسدكم؛ حسرةً وندماً على ما اقترفتم من فِعْلَةٍ شنعاء .. أي أزيلوا عنكم واْمُحوا هذه السقطة الشنعاء، وهذه الزلة الرهيبة، بالتحسر والندم على ما اقترفتم، وبالتوبة إليه سبحانه.
ب- وكذلك تَرِدُ كثيراً مِثْلُ هذه المعاني المجازية لـ “القتل” و”القتال” في كتاب الله المجيد، تدبر قوله تعالى :
– “قُتل الخراصون، الذين هم في غَمْرَةٍ ساهون، يسألون أيان يومُ الدين !” [الذاريات 10- 13] .. أي لُعِنَ الكذابون وأُبْعِدوا، لُعِنوا مِني وأُبْعِدوا من رحمتي.
– “قُتِلَ الإنسان، ما أَكْفَرَه ! مِن أيِّ شيءٍ خَلَقه ؟ مِن نُطْفَةٍ خَلَقَه فقَدَّرَه !” [عبس 17] .. أي لُعِن وأُبْعِدَ الجاحد، ما أعجب جحوده وعناده وإصراره على طمس الحق ونُصرة الباطل !
– “إنه فَكَّرَ وقَدَّر، ثم قُتِلَ كيف قَدَّر، ثم نَظَر، ثم عَبَسَ وبَسَر، ثم أدبر واستكبر، فقال : إنْ هذا إلا سِحْرٌ يُؤْثَر !” [المدثر 18- 24] .. أي لُعِنَ أو قُهِرَ وذُلَّ ..
– “ذلك قولهم بأفواههم، يُضاهئون قولَ الذين كفروا من قبل، قاتلهم الله، أَنَّى يُؤفْكَون !” [التوبة 30] .. أي أخزاهم الله ..
– “يحسبون كلَّ صيحةٍ عليهم، هم العدو فاحذرهم، قاتلهم الله، أَنَّى يُؤْفَكون !” [المنافقون 4] .. أي أخزاهم الله ..
ج- وكذلك تِرِدُ كثيراً مِثْلُ هذه المعاني المجازية لـ “القتل” في اللسان العربي، منها قولهم :
– قَتَلْتُ الخمرَ بالماء : إذا مَزَجْتَ الماءَ بالخمر، حتى أَزَلْتَ صفة “الخمرية” عن الخمر، فكأني قد قَتَلتُ صفة “الخمرية” تماماً.
– وقَتَلْتُ فلاناً وقَتَّلْتُهُ : إذا ذَلَّلْتُهُ،
وكلاهما استعارةٌ على سبيل المبالغة كما هو بَيِّنٌ.
د- وكذلك يأتي هذا المعنى المجازي كثيراً، سواء في اللسان العربي، أو في الاستخدام القرآني، ولكنْ بتركيباتٍ أخرى مُقارِبَةٍ :
– منها :
قوله تعالى : “فلعلك باخِعٌ نَفْسَكَ على آثارهم إنْ لم يؤمنوا بهذا الحديث أَسَفَاً” [الكهف 6]، “لعلك بَاخِعٌ نَفْسَكَ ألا يكونوا مؤمنين” [الشعراء 3]،
والبَخْعُ في أصله مأخوذٌ من قولهم “بَخَعَ الذبيحةَ” : أي بَلَغَ بذَبْحِهَا القفا (أي فَصَلَ رأسها عن جسدها، حين ذبحها، بشكل شِبْه تام)،
وهي هنا، في آية الشعراء، استعارةٌ بلاغية، بمعنى أنه سبحانه يُخَفِّفُ عن رسوله قائلاً له : لا تقتل نفسك أَسَىً أو حَسْرَةً أو هَمَّاً بسبب إعراض أو جحود هؤلاء الكفار الغِلاظ، فإنما عليكَ البلاغ (وليس بمعنى “لا تُزْهِق رُوحك بسبب إعراضهم أو جحودهم” !).
– ومنها :
قوله تعالى : “فلا تذهب نفسك عليهم حَسَراتٍ” [فاطر 8]،
والحسرات في أصلها مأخوذة من قولهم “حَسَرَ غُصْنَ الشجرةِ حَسْراً” : أي قَشَرَه، أي أزال عنه قِشْرَتَه فانكشف،
ثم استعير في تعبيرات أخرى، مثل قولهم : “حَسَرَ الدابة” : أَتْعَبَها حتى هَزُلَت، فكأنه، بإتعابه وإنهاكه إياها، أزال عنها طبقاتٍ من الشحم والدهن واللحم.
وهي هنا، في آية فاطر، استعارة بلاغية، بمعنى أنه سبحانه يخفف عن رسوله قائلاً له : لا تَأْسَ ولا تتحسر على هؤلاء القوم ولا تتأذى مِن إعراضهم أو جحودهم، فإنما عليكَ البلاغ (وليس بمعنى “لا تُزْهِق رُوحَك بسبب إعراضهم أو جحودهم” !).
* رابعاً :
التوبة على امتداد القرآن الكريم كله، لا تكون إلا على قومٍ أحياء، أنابوا إليه سبحانه، معترفين بذنوبهم، فيعفو عنهم، ثم يباشرون حياتهم وأعمالهم، محاولين دوماً التقربَ إليه سبحانه في كل حركة وسكنة، ومُراعين جَنَابه في حركتهم في الحياة.
تدبر هذه الآيات الكريمات :
أ- يقول تعالى :
“فإن تابا وأصلحا : فأعرضوا عنهما، إن الله كان تواباً رحيماً،
إنما التوبة على الله : للذين عملون السوء بجهالة، ثم يتوبون من قريب، فأؤلئك يتوب الله عليهم، وكان الله عليماً حكيماً،
وليست التوبة :
– للذين يعملون السيئات، حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبتُ الآن،
– ولا الذين يموتون وهم كفار،
أؤلئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً” [النساء 16- 18]
ب- وقوله تعالى :
“ومِن ذرية إبراهيم وإسرائيل، وممن هَدَيْنا واجتبينا [..]، فخَلَفَ مِن بعدهم خَلْفٌ : أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غَيَّاً، إلا مَن تاب وآمن وعمل صالحاً” [مريم 58، 59- 60]
ج- وقوله تعالى :
“يا بني إسرائيل :
– قد أنجيناكم من عدوكم،
– وواعدناكم جانب الطور الأيمن،
– ونزلنا عليكم المن والسلوى،
– كلوا من طيبات ما رزقناكم،
– ولا تَطْغَوْا فيه، فيحل عليكم غضبي،
– ومَن يحلل عليه غضبي فقد هوى،
– وإني لَغَفارٌ لِمَن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى” [طه 80- 82]
د- وقوله تعالى :
“فمَن تاب من بعد ظلمه وأصلح : فإن الله يتوب عليه [..]،
ثم أخذنا ميثاق بني إسرائيل [..]، فعَمُوا وصَمُّوا، ثم تاب الله عليهم، ثم عموا وصموا، كثيرٌ منهم” [المائدة 39، 70، 71]
هـ – وقوله تعالى :
“فتلقى آدم من ربه كلمات، فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم، قلنا : اهبطوا منها جميعاً [..]،
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهُدَى [..] أؤلئك يلعنهم الله [..]، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا، فأؤلئك أتوب عليهم، وأنا التواب الرحيم” [البقرة 37، 38، 159، 160]
و- وقوله تعالى :
“لقد تاب الله :
– على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العُسرة (من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ثم تاب عليهم) [..]،
– وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رَحُبَت [..]، وظنوا أنْ لا مَلْجأ من الله إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم [التوبة 118]
يا أيها الذين آمنوا : “اتقوا الله وكونوا مع الصادقين” [التوبة 117، 118- 119]
ز- وقوله تعالى :
“ليس لكَ من الأمر شيء، أو يتوب عليهم، أو يعذبهم” [آل عمران 128]
إذن، ووفق هذا الاستخدام القرآني لمصطلح التوبة، تكون “توبة الله”، المذكورة في آية البقرة، على مَن عبدوا العجل : مُقْتَضِيَةً كونهم على قيد الحياة، لا كونهم قد قُتِلوا وماتوا وأُزْهِقَت أرواحهم، وبأمرٍ من الله !
وأكتفي بهذا القدر،،
والله تعالى أعلى وأعلم ،،،
[يحيى جاد – 28/ 7/ 2019م]