السؤال:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسأل الله أن يوفقني وإياكم في العشر الأواخر من رمضان.
قرأت كثيرًا عن قاعدة “ما أدى إلى الحرام فهو حرام”، لكني وجدت اختلافًا في تطبيقها بين العلماء وعلى المواقع المختلفة، مما جعلني أتساءل عن كيفية فهمها وتطبيقها في الحياة اليومية؛ لأن هذه القاعدة تسببت لي بمشاكل وتوتر في حياتي، ومهما بحثت لا أعلم حدود تطبيقها. فبعض الأمور قد يكون لها ارتباط غير مباشر بالحرام، لكنني لا أدري متى يكون هذا الارتباط سببًا في التحريم ومتى لا يكون كذلك؟
وأثناء قراءتي في موقعكم الكريم، وجدت حديثًا عن بعض المسائل التي قد تدخل تحت هذه القاعدة وغيرها من القواعد مثل سد الذرائع، مثل كرة القدم وما يتعلق بها من تعصب الجماهير أو وجود رعاة للخمور، ولكني لم أفهم هل مجرد مشاهدة المباريات أو التشجيع تُعتبر من باب ما يؤدي إلى الحرام؟ حيث أنه في النهاية يؤدي إلى استمرار التعصب ووجود هؤلاء الرعاة.
كذلك في التلفاز، قد تتخلل البرامج أو الإعلانات مقاطع غنائية أو رقص، فهل يكون ذلك سببًا في تحريم المشاهدة؟ وغيرها من المسائل المشابهة التي قد تؤدي إلى الحرام؛ مثل شراء الكتب التي قد تحتوي على أفكار محرمة مثلا، أو الأفلام التي لا تخلو عادة من حرام إلخ…..
وكما ذكرت سابقاً رأيت في موقعكم إجابات حول مسألة سد الذرائع، لكني لا زلت أجد صعوبة – والخطأ من عندي – في فهم كيفية تطبيقها هي وقاعدة ” ما أدى إلى الحرام فهو حرام” في الحياة الشخصية.
هل يمكنكم توضيح الأمر ببعض الأمثلة سواء ما ذكرت أو غيرها؟
أعتذر عن الإطالة، وشكرًا لكم.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله، وبارك الله على السائل الكريم لتحريه الدقة فيما يتعلق بالحرام والحلال، ولكنه في الوقت نفسه، ومن شدة حرصه، قد بالغ وأوشك أن يصل إلى مرحلة الغلو في الدين[1]، وقد نهانا تعالى عن الغلو فيه كي لا نقع فيما وقع فيه أكثر أهل الكتاب رغم تحذيره تعالى إياهم:
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ المائدة (77)
وهؤلاء القوم قد حرموا على أنفسهم أشياء أُحلت لهم بغير سلطان آتاهم فعاقبهم ربهم بأن حرم عليهم طيبات كانت حلالًا:
﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ النساء (160)
ومن هنا جاء الخطاب موجهًا إلينا:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ المائدة (87)
بينت الآية أن تحريم ما أحل تعالى هو اعتداء على تشريعه وأحكامه؛ لذا فإن قاعدة (ما أدى إلى الحرام فهو حرام) هي بمثابة تعقيب على حكمه تعالى الذي لم يترك المحرمات لعباده دون تبيان وتفصيل مصداقًا لقوله:
﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾ الأنعام (114)
وقد كاد النبي الكريم من شدة لينه ورحمته بأزواجه أن يقع في هذا الأمر فعاتبه تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ التحريم (1).
وقد ذكر تعالى المحرمات واضحة جلية مجملة في قوله:
﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ، لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ، وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ الأنعام (152)
وختم الحديث عن المحرمات بقوله:
﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ، وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ الأنعام (153).
ثم فصل في آيات أخر كل ما يؤدي إلى تلك المحرمات، فذكر دواعي الشرك وسد ذرائعه في كثير من آيات الكتاب منها:
﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ، وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ، وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ القصص (87).
وبيَّن عقوق الوالدين بداية من التأفف إلى الانتهار، وبيَّن ما هو حرام من المال وما يتعلق به من الشح والكنز والربا وأكل أموال الناس بالباطل، إلى غير ذلك من تفصيل ما أجمله، كل ذلك: ﴿فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ طه (52).
وعندما حرم تعالى الفواحش بيَّن ما يتعلق بالوقوع فيها وسد كل الذرائع إليها (ما ظهر منها وما بطن) سواء بالطرق المباشرة أو غير المباشرة؛ من وجوب غض البصر والاستئذان عند دخول البيوت وتحريم اتخاذ الأخدان والخوض في أعراض النساء، وبيان المحارم ووضع ضوابط اللباس والكلام وحفظ اللسان، ولم يترك شيئًا واحدًا مؤديًا إلى طريق الحرام إلا سده لئلا يكون للناس على الله تعالى حجة.
ولكن كثيرًا من الناس صرفوا أنفسهم عن تدبر الآيات البينات وانساقوا وراء ما قررته المذاهب وما وضعه أربابها من قواعد من عند أنفسهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير تشددًا منهم في أمور الدين، وكأنه ينبغي على الإنسان أن يترك الحياة كلها سدًا لذريعة الوقوع في الحرام أو كأن دينه تعالى أكثره التحريم ولا متسع فيه إلا لقليل من الحلال، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ الحج (78).
ولو طبقنا ما ذهب إليه جملة من الفقهاء لصار الأفضل أن يظل الإنسان عاكفًا في بيته لا يبرحه حتى يدركه الموت؛ إذ أن كل أمر في الحياة يحتمل أن يؤدي بصاحبه إلى الحرام، حتى الحلال نفسه! فالصدقات مأمور بها والتبذير فيها يجعل صاحبها أخًا للشيطان، والأكل والشرب والزينة حلال والإسراف فيها منهي عنه، والمال المكتسب من الطيب حلال وقد يودي بصاحبه إلى الترف والفسق.
فهل يحملنا ذلك على تحريم الصدقات والأكل والشرب والزينة والمال سدًا لذريعة التبذير والإسراف والترف؟! يجيب علينا رب العالمين:
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ الأعراف (32).
ومن هنا فعلينا الالتزام فقط بما جاء في كتابه تعالى عن المحرمات وما يؤدي إليها والامتثال لأمره عقب ذكره المحرمات:
﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ، وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ الأنعام (153)
وما عدا ذلك فلا ينبغي المغالاة فيه كمن يقول بمنع الاختلاط بين الرجال والنساء في الدراسة أو العمل أو فرض النقاب أو جبر الفتيات على الحجاب سدًا لذرائع الفواحش[2].
والقول نفسه فيما يتعلق بتحريم التلفاز ووسائل التواصل بسبب ما يتخللها من موجبات الإثم، فلا وجه للقول بالتحريم، لكن يبقى على المشاهد أن يغض بصره عن ما يتخللها من مشاهد عري أو فواحش إذا ظهر عليه شيء منها، وقد أصبح التحكم في تلك الأمور أيسر من ذي قبل بتسريع الفيديو وحذف المشاهد وحظرها والإبلاغ عنها… إلخ امتثالًا لقوله تَعَالَىٰ:
﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ القصص (55).
كما أنه لا حكر على الفكر وإصدار الكتب فليكتب من شاء ما شاء، وللقارئ والمتلقي أن يحكِّم عقله ويميز الخبيث من الطيب مصداقًا لقوله تعالى:
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ الحج (46)
فلم يأمر اللهُ تعالى رسولًه _ونحن من بعده_ بحرق ما افترى عليه، بل أمرنا أن نرد الحجة بالحجة ودحضها بالعلم والدليل والبرهان، فقال تعالى في مواجهة أصحاب الفكر المضل:
﴿ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ الأحقاف (4)
وما ذكره السائل الكريم من تشجيع الرياضات المختلفة فلا حرج فيه مادام ابتعد ونأى بنفسه عن المغالاة والتعصب والتنابز بين مشجعي الفرق، وأن لا يلقي بالًا لما يحدث خلف ذلك من الرعاة لهذه الرياضات مادام ليس طرفًا فيها، ولا تعطله المشاهدة عن مهمته في الحياة من السعي ورعاية أهل بيته امتثالًا لقوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ المائدة (105).
وقد ضرب لنا الله تعالى مثالًا في كتابه ببعض الأمور التي تحمل النفع والضرر في آن واحد، كالخمر التي أمرنا باجتنابها رغم وجود منفعة: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ البقرة (219) ليرسي قاعدة عامة أنه إذا غلب الضررُ النفعَ فينبغي تجنبه، فإن وجد المؤمن نفسه سينجرف وراء أمور ضررها أكبر من نفعها فليحاول تجنبها قدر المستطاع.
وختامًا:
إن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة، وبيَّن سبحانه أن رحمته وسعت كل شيء، ومادام المؤمن يتقي ربه ما استطاع: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ التغابن (16) وقد اجتنب الكبائر فإنه تعالى يغفر اللمم ما لم يُصر على فعله: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ، إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ، فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ﴾ النجم (32)
وعلمنا الطريق لتدارك الأخطاء: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ الرعد (22).
ولذلك فلا داعي أن يترك المؤمن نفسه للقلق والخوف كالذي استهوته الشياطين لتلقي به في الحيرة والتوتر وتوقعه في صعوبات تؤثر على سلامته النفسية والروحية والبدنية وتعطل مسيرته في الحياة، وقد وصف لنا تعالى أن الشفاء والهداية تتأتيان لمن تمسك بكتابه فقال سُبْحَانَهُ:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ النساء (175).
الباحثة: شيماء أبو زيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ينصح بالاطلاع على المقالة التالية: التدين في القرآن الكريم
[2] انظر الفتوى: حدود العمل بمبدأ سد الذرائع