حبل الله
هل التحليل والتحريم محل اجتهاد، أم أنّهما حق خالص لله تعالى؟

هل التحليل والتحريم محل اجتهاد، أم أنّهما حق خالص لله تعالى؟

السؤال:

هل المحرمات محل اجتهاد، أم أنّ التحريم حق خالص لله تعالى؟

ولماذا لا يوجد اتفاق بين الشيوخ/العلماء على الأمور المحرمة فنجد بعضهم يبيح شيئًا وآخر يحرمه، هل هذا يعني أن الله ترك هذه المسائل لاجتهادات البشر؟ وكيف سيحاسبنا الله تعالى على اجتهادات بشرية قد تصيب وتخطئ؟ ولماذا لا تكون المحرمات محددة بنص القرآن فقط؟

أحيانًا الأمر يجعلني أشعر بالضياع والحيرة، أقصد عندما أرى آراء كثيرة حول مسألة معينة من قِبل العلماء.

الجواب:

إن المحرمات محددة بنص القرآن الكريم، وقد جاءت بشكل مفصل بداية من الطعام والشراب:

﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ الأنعام (119)

والتعاملات المادية:

﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ البقرة (275)

والمصاهرة والنسب:

﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ…﴾ النساء (23)

وصولًا إلى المحرمات من الأقوال والأفعال من الصغائر إلى الكبائر:

﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ الأنعام (151)

والأمور التي نص القرآن على تحريمها لا مجال فيها لاجتهادات البشر امتثالًا لنهيه تعالى:

﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ النحل (116).

أما بالنسبة لاختلاف كثير من المسائل وتأرجحها بين الحلال تارة والحرام تارة أخرى فإنها تعود إلى أسباب نذكر منها:

  • تحريم الشخص على نفسه ما أحله تعالى له تشددًا منه وليس من عند الله تعالى كما فعل النبي يعقوب ﷺ قبل نزول التوراة:

﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ، قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ آل عمران (93)

وكما فعل النبي الكريم ﷺ مرضاة لأزواجه وقد عاتبه ربه تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ التحريم (1)

  • البعد عن كتبه تعالى وما أنزل على رسله، وهو ما حدث بالفعل مصداقًا لقوله:

﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ … وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ الأنعام (119)

وهذا البعد عن كتاب الله  حدث بعدما ظهرت كثير من الروايات التي افتريت على الرسول الكريم وحرمت أشياء لم ينزل الله تعالى بها من سلطان، كتحريم الذهب والفضة والحرير على الرجال رغم وضوح الحكم فيهما من رب العالمين أنها لعباده جميعًا – بالطبع لكل ما يناسبه – وكتحريم التزين بوصل الشعر أو إزالة الشعر الزائد من الوجه للنساء.. إلى غير ذلك من الأشياء التي حرمتها أكثر المذاهب متناسين ومتجاهلين قوله تعالى:

﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ الأعراف (32)

ومثل هذه الأمور لا تندرج تحت الاجتهادات، وإنما تندرج تحت الافتراءات التي حذر الله تعالى منها ومن عاقبتها:

﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ النحل (116)

أما بالنسبة لبعض الاختلافات التي وجدت نتيجة استحداث أمور جديدة لم تكن موجودة زمن الرسالة ولم يأتِ فيها التحريم أو التحليل بشكل مباشر لعدم ذكر اسمها صراحة أو جاءت بشكل ضمني بأنها تندرج تحت أشياء محرمة لاشتراكها في نفس العلة وتخلص إلى ذات النتيجة فينطبق عليها نفس الحكم، وتلك الأمور هي التي تخضع للاجتهادات أو بمعنى أدق تخضع للاستنباط ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم﴾ النساء (83) وتدبر الحكمة، وهو ما أسماه الفقهاء بالقياس، وهذه الأمور قليلة جدا وناردة الحدوث ولا تتعدى أشياء بعينها تتوافق مع المحرمات في الحكمة والغاية، وذلك كحكم تناول المخدرات – بعيدًا عن المجال الطبي – لأنها تغيب العقل وهو نفسه ما يفعله شرب الخمر؛ والخمر ليس فقط اسم لعصير العنب أو التمر، وإنما لفظ عام يطلق على كل ما (غطى) العقل وغيب الذهن ويكون سببًا في ارتكاب المعاصي والكبائر؛ ولذا يصح الحكم على كل مخدر مغيب بأنه خمر ومن ثم يشمله التحريم.

ومن هنا فلا داعي لقلق السائلة الكريمة، ولا مجال لشعورها بالضياع والحيرة بعد تفصيله تعالى لكل الأشياء من الحلال والحرام، ولا ينبغي لها أن تستسلم لأقاويل وافتراءات تحلل هذا وتحرم هذا بغير سلطان منه تعالى، بل تضع نصب عينيها قوله تعالى:

﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا، وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الأنعام (114)

وللمسلم أن يعيش متمتعا بكل ما أحله تعالى له.

أما الانجراف وراء الاختلافات الفقهية الناشئة من المذاهب فقد حذر الله تعالى رسوله والمؤمنين منها بقوله:

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ الأنعام (159)

لأن الاعتقاد بها بتلك الظنون وترك الحق اليقين يؤدي إلى الشرك بالله تعالى الذي له سلطان التحليل والتحريم دون غيره مصداقًا لقوله جل وعلا:

﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ الرّوم (32)

وختامًا:

إن علاج السائلة الحقيقي يكمن في التمسك والاعتصام بحبل الله تعالى المتمثل في كتابه وتعاليمه وعدم الإنحراف عنه بالتمسك بالفرق المتفرقة:

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ آل عمران (103)

فما تشعر به من الحيرة والضياع كان بسبب الاعتقاد أن آراء المذاهب تمثل الحق المبين بالرغم من الاختلافات الكثيرة بينها.

إن التسليم لرب العالمين يجعل المؤمن متنعمًا في اطمئنان القلب والسلام الداخلي مصداقًا لقوله تعالى:

﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ المائدة (16).

الباحثة: شيماء أبو زيد

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.