السؤال:
وضحت لأبي رغبتي في خلع الحجاب ولكنه طلب مني مغادرة المنزل وعدم العيش معه في منزل واحد والذهاب للعيش عند جدتي وأنه لن ينفق علي! ويتهمني بأنني سأكون السبب في دخوله النار، أنا أبلغ من العمر ٢٧ عامًا! هل موقف أبي وغيرته على دينه بهذه الطريقة حلال؟! هل سيحاسَب أبي عني إذا خلعت الحجاب وقد نصحني ألا أفعل؟ وماذا على الآباء عند رغبتنا في معصية الله عن ضعف منا كنفوس بشرية تخطئ وتصيب؟
شكرا لكم.
الجواب:
في البداية لا نستطيع أن نقول أنه ليس من حق الأب أن يوجه أولاده إلى الصواب وأن يأخذ بأيديهم نحو طريق الرشاد امتثالًا لقوله تعالى:
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُك وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ طه (132)
وهذا هو حال الرسل والأنبياء مع أهلهم وذويهم، ومنه قول الله تعالى عن إسماعيل عليه السلام:
﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ مريم (55)
والمراد من الآيتين الكريمتين ليس مجرد الصلاة كحركات أو زكاة مال تؤدى وإنما يأمر الإنسان أهله بالمفهوم الواسع للصلاة من اتباع أوامر الله والقيام بوجوه البر المختلفة والإحسان في العمل والتحلي بالخلق القويم بدليل قوله تعالى:
﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ. وَلَٰكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ﴾ القيامة (31: 32)
فالصلاة جاءت في مقابل التولي عن أوامر الله تعالى،
أما الزكاة فهي من تزكية النفس وتطهيرها من الذنوب:
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ الشمس (9: 10)
والآباء مهما فعلوا لا يستطيعون منع أبنائهم من ارتكاب المعاصي إن أرادوا فعلها، ولكنهم يحاولون جاهدين خوفًا عليهم لا سيما البنات، وأكبر الأمثلة على ذلك أن النبي الكريم نوح عليه السلام الذي ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا لم يستطع أن يمنع ابنه من الكفر ولا من الغرق:
﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ هود (42)
ومن هنا نوصي الفتاة أن ترأف بحال أبيها الذي يريد لها الصلاح وترحمه من السهام التي قد توجه إليه خاصة أننا نعيش في مجتمعات تلقي دائمًا باللوم على الآباء الذين تخرج بناتهم متبرجات وينظرون إليهم نظرة الاتهام، فما يفعله الأب هنا هو غيرة على ابنته وخوفًا عليها من أن تكون عرضة لضعاف النفوس من إيذائها خاصة مع انتشار ظاهرة التحرش سواء الجسدي أو اللفظي، وإن أصرت الفتاة وغلبها هواها وأرادت خلع خمار الرأس فعليها على الأقل ألا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى وأن لا تتخلى عن كامل حشمتها حتى تكون مسافة عودتها لصوابها أقرب، استجابة لنداء ربها جل وعلا:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ الأنفال (24)
أما بالنسبة لحساب الأب على عصيان ابنته، فيجيب علينا سبحانه وتعالى:
﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ الرعد (40)
فلن يدخل نبي الله نوح ﷺ النار لكفر ابنه، ولا يحمل أحد وزر غيره – ما لم يكن سببًا في إضلاله – وكل ما يفعله الإنسان فهو لنفسه أو عليها:
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ، إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَمَنْ تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ فاطر (18)
ولا ينبغي أن يطرد الأب ابنته من البيت بسبب تركها الامتثال لأمر شرعي؛ لأنه سيولد مفسدة أكبر، ولأنه يصعب أو يتعذر الإصلاح بعد ذلك. وعلى الأب ألا يتخلى عن مهمته بالنصح والإرشاد وإظهار العطف أسوة بمن نادى ابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾
وكذلك الأمر بالنسبة لمسألة الإنفاق فلا ينبغي للأب أن يجعل طاعة ابنته لربها في مقابل الإنفاق عليها؛ لأن الإنفاق هو واجب الأب نحو ابنته، وهذا الحق لا يسقط عنها بمعصيتها لله تعالى، فهو مسؤول عن الإنفاق عليها بغض النظر عن تدينها من عدمه، قال الله تعالى:
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ النساء (34).
وإن كان النصح والإرشاد واجب لكن الناصح غير مسؤول عن الهداية:
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ القصص (56)
لكنه مسؤول عن أسلوب النصح فيتلطف مع ابنته به، وخاصة إن وقعت الفتاة فريسة لأفكار تنادي بعدم فرضية الحجاب أو كانت تعاني من مشكلة نفسية جعلتها تفقد الثقة بنفسها أو تفقد الصلة بربها فدفعتها إلى المعصية، فعلى الأب أن يحتويها ويتقرب منها ويكون معها عونًا على الشيطان.
فنحن جميعًا بشر وكل إنسان معرض للضعف وللخطأ، فلا يجب أن نتخلى عن أهلنا وأصدقائنا لمجرد وقوعهم في معصية، فقد كتب الله على نفسه الرحمة ومنحنا الفرص للإنابة والتوبة:
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ فاطر (45)
وينبغي التنويه أن الدعوة إليه سبحانه وتعالى لا تكون بالعنف أو الطرد أو اللعن مصداقًا لأمره:
﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ النحل (125)
ذلك أن العنف في التوجيه يحمل المدعوين على العدواة والبغضاء ويتسبب في نفاقهم، لذا نرى كثيرًا من الأبناء من يلتزمون بالأوامر والنواهي أمام والديهم لكنهم يرتكبون المعاصي وربما الكبائر بعيدًا عن أعينهم، ولو أنهم تربوا على الصدق والعطف والاحتواء لكان تدراك الأخطاء أيسر والعودة إلى الطريق المستقيم أسرع.
فكم من كلمة طيبة أو لمسة عطوفة أو حتى نظرة حانية قطعت على الشيطان سبيله في قطع صلة الأرحام وأواصر القربى وأذابت حرارة الغضب وحولت العدو إلى ولي حميم كما نبأنا العليم الخبير بعباده:
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ فصّلت (34).