السؤال:
في قراءتي لقصة سيدنا سليمان مع ملكة سبأ في سورة النمل استوقفني دائما التساؤل التالي:
لماذا دعا سليمان أهل سبأ وملكتهم بالتهديد؟ ولماذا قال: (ألا تعلوا على وأتوني مسلمين)؟
ولماذا آمنت ملكة سبأ بعدما استعرض سليمان عليه السلام ملكه وقوته أمامها؟
أعلم أن الغضب لله من شيم الصالحين وأعلم أن لكل إنسان أسلوبه الذي يتم إقناعه به، ولكن ما الذي يضير سليمان عليه السلام لو أنه أرسل مبشرين للملكة يبشرونها بالتوحيد أو عرض رسالته على الملكة بلا تهديد، ألا يعد ما فعله نشراً للتوحيد بحد السيف؟
وهل يتعارض مع لا قوله تعالى (إكراه في الدين)؟
أين حرية الاعتقاد في هذا الموقف؟ أليس قوله (فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها) هو إرهاب لهم ليدخلوا في دينه عنوة، رغم أن موقفها كان التودد لسليمان واستجداء للسلم معه فكيف يقابل الهدية بتهديد؟
أرجو الرد من فضلكم وشكرا جزيلا لحضراتكم.
الجواب:
بداية، فإن الدين لا يتأتى بالجبر والإكراه، وإنما بالاختيار الحر والقبول من القلب كما يقرره القرآن في كثير من الآيات، ومنها قوله تعالى:
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ البقرة (256)
ولا عبرة بما نطق به اللسان دون إقراره بالقلب:
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ الأنعام (117).
فماذا لو أعلن الإنسان الإيمان بلسانه مكرهًا وقلبه غير مؤمن؟ هل سيخدع ربه ولن يعلم ما بداخله؟!:
﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ آل عمران (167).
وقد قص القرآن سير كثير من الأنبياء ودعوتهم لأقوامهم، حيث لم يذكر أن أحدا منهم قد أكره قومه على الإيمان، وقد حدد تعالى مهمة الرسل في قوله جَلَّ في عُلاه:
﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ النحل (35)
أما بالنسبة لما قصه علينا القرآن الكريم من نبأ سليمان ﷺ فعلينا تدبره لنعلم أنه لم يكره ملكة سبأ على الدخول في الإسلام، حيث يُفهم ذلك من السياق نفسه:
- أولًا: ما جاء على لسان ملكة سبأ نفسها:
﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾ النّمل (30)
فقولها هذا يدل على أن النبي الكريم سليمان قد أرسل إليها كتابًا لطيفًا مهذبًا عنوانه الرحمة ومحتواه الرفق والسلام، ولا يحتوي على التهديد أو الإكراه، إذ لا يوصف الجبر والإكراه بهذا الوصف (كِتَابٌ كَرِيمٌ) ﴿وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾.
- ثانيًا: قول نبي الله سليمان في كتابه ورسالته:
﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ النّمل (31)
لا يعني أنه يجبرهم على الدخول في دين الله تعالى والذهاب إليه رافعين راية الإسلام!! فهو لم يعرض عليهم الإسلام من الأساس وذلك بدليل أنه لم يقل (ألا تعلو على الله) وإنما قال (ألا تعلو علي).
وإنما وقع الخلاف وسوء الفهم هنا لأنه تم تفسير كلمة (مسلمين) في الآية على أنها الدخول في دين الإسلام. ولكن المتدبر لسياق الآيات يجد أن الكلمة تعني قدومهم بسلام وأمن.
فمعنى قوله: (وأتوني مسلمين) أنه يدعوهم إلى المجيء إليه في سلام وأمن وأوضح لهم أنهم لن يتعرضوا لسوء منه، فهي دعوة منه للحضور إليه ووعد منه بالسلام.
وهنا قد يسأل سائل: لماذا أرسل إليها لتأتي إليه ولم يذهب هو إليها؟!
يجيب علينا القرآن الكريم حين قال:
﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ ص (35)
فقد استجاب الله تعالى لدعوة نبيه بأن جعل ملكه لا يضاهيه ملك أحد غيره، فكانت له الكلمة العليا على العالم بأكمله، وقد سخر تعالى له في سبيل ذلك الريح والجن والشياطين ليستعين بهم على إدارة ملكه في الحق وفي سبيل الله تعالى.
وبالتالي فمن المنطقي أن يذهب الأدنى ملكًا للأعلى، ونحن نرى ذلك في الواقع أن حكام الدول أو الملوك والأمراء إذا أرادوا الاجتماع بالمحافظين والوزراء أو الولاة فإنهم يرسلون في طلبهم للمثول أمامهم ولا يذهبون بأنفسهم إليهم، وهذا هو الأمر البديهي المألوف، وخلاف ذلك غير منطقي، وإن حدث فيكون برغبة الأعلى درجة.
وعندما يرسل الملك أو الحاكم في طلبهم فليس في ذلك إهانة لهم أو أنه يريد معاقبتهم، وإنما يكون لأمر تقتضيه إدارة شئون البلاد أو لإبلاغهم بالقرارات المتخذة.
- ثالثًا: تكتمل الصورة وتتضح أكثر عندما نقرأ موقف ملكة سبأ نفسها حين تشككت في صدق الكتاب المرسل إليها وفي صدق نوايا صاحبه فأرادت أن تختبره لتتأكد من صدقه وذلك بإرسالها للهدية:
﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ النّمل (35)
وذلك لترى بالفعل إن كان سليمان ملكا ورسولا كريما يريد حضورها إليه بسلام وأمن؟ أم أنه ملك جبار طامع في ملكها؟ ويصدق حدسها فيما يفعل الملوك الآخرين:
﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً، وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ النّمل (34)
فإن قبل الهدية فهو كما تظن وإن رفضها فهو يستحق الذهاب إليه كملكة متوجة لن يقصد بها سوءًا.
والدليل على ذلك، أنها ملكة صاحبة قوة وجند وليست بالضعف الذي تخشى به الدخول في معارك وحروب، فهي تستطيع مواجهة أعدائها، ويتضح هذا عندما استشارت وزراءها وأصحاب الرأي لديها:
﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ﴾ النّمل (32)
وقد جاء ردهم القوي الحاسم:
﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ النّمل (33)
- وعندما جاء الرسول بالهدية إلى النبي الملك العظيم سليمان شعر بالإهانة لأنها استعلت عليه بعد أن طلب منها (ألا تعلو علي) لأن ملكه أعظم من ملكها، وهي كالوالي على إحدى إمارته وملكه الذي وهبه الله تعالى له، فهو ليس في موقع طالب الهدية منها.
ورغم ذلك لم يستعل هو عليها بأن هددها أو خاطبها باستعلاء وإنما أرسل إليها بلطف وكرم يدعوها للحضور ووعدها بالسلام والأمان، ولكنها رفضت دعوته وأرسلت إليه بهدية وكأنه قد أرسل إليها طامعًا في ملكها راغبًا في عطاياها:
﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ النّمل (36)
فكان رد فعله هنا يقابل فعلها وعندئذ قال بلهجة التهديد والوعيد جزاء ما فعلته:
﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ النّمل (37)
- وعلى الصعيد الآخر قد نجح مخطط الملكة واتفاقها مع الملأ من حولها:
﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾
وتحقق هدفها من إرسال الهدية واختبار النبي الكريم سليمان، وعلمت من خلال رفضه للهدية أنه تصرف ينم عن خُلق ملك رسول وليس ملكًا طامعا يغريه المال ولا يهمه سوى الهدايا والقضاء على ملكها والاستيلاء عليه.
فقررت الحضور والمثول بين يديه ليس خوفًا منه (فهي لم تكن تعلم عن ملكه العظيم شيئًا وفي الوقت نفسه كانت قادرة على مواجهته كما ذكرنا) ولكنها تأكدت من صدق كتابه الذي أرسله إليها.
- وعندما ذهبت إليه ورأت عرشها عنده:
﴿فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ، قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ، وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ النّمل (42)
علمت بداخلها أنه ليس كأي ملك وأن قوته ليست نابعة منه وإنما مستمدة من قوة أعظم تستطيع الإتيان بعرشها ليصل قبلها.
وعندما دخلت الصرح ورأت عظيم ملكه وسلطانه لم تتردد لحظة واحدة في أن تعترف بظلمها لنفسها بعبادتها للشمس من دون الله تعالى:
﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا، قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ النّمل (44).
وحتى مع إسلامها لله تعالى لم تذل نفسها للنبي سليمان وقالت: (أسلمت مع سليمان) وليس له.
ودخلت في دينه تعالى وهي ملكة متوجة غير ذليلة ولا مكرهة، ذلك لأن فطرتها كانت لا تزال نقية ولكنها اتبعت دين قومها الذي نشأت عليه:
﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ النّمل (43)
وختامًا: فإن القصص القرآني مليء بالعبر والعظات والدروس:
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ يوسف (3)
فإن أردنا ألا نكون من الغافلين فعلينا تدبرها من خلال الكتاب الذي قص علينا القصص نفسه وليس من خارجه قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:
﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ القيامة (19)
وأن ندرك جيدًا أنه لا تناقض ولا اختلاف في كلام الله تعالى:
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ النساء (82)
ومن هنا فعلينا أن نجعله معيارا وحكما على كل ما نقرأ أو نسمع فنقبل ما يوافقه ونرفض ما يخالفه.
وقف السليمانية/مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع حبل الله www.hablullah.com
الكاتبة: شيماء أبو زيد