السؤال: هناك آيات كثيرة تأمر النَّاس بعبادة الله تعالى كإقامة الصلاة والصيام والحج وغير ذلك، وهي تكاليف تحتاج بذل الجهد وربما المال لأدائها، بينما هناك آيات تصف الله تعالى بأنه غني عن النَّاس، فلماذا يأمرهم الله تعالى بعبادته إن كان غير محتاج لعبادتهم؟
الجواب: العبادة هي الغاية التي خلق الله النَّاس لأجلها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات 56) ولأجل تحقيق هذه الغاية واقعا في حياة الناس بعث اللهُ الرسل، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل 36) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء 25).
يأمر الله تعالى النَّاس بعبادته لا لحاجته لعبادتهم بل لحاجتهم إليها، لأنَّه لا يصلح حالهم إلا بعبادته وحده دون غيره من الأنداد، ولأن الاستنكاف عن عبادته سيؤدِّي بالنَّاس إلى أن يكونوا عبيدا لغيره من المخلوقات وكفى بذلك من مذلَّة، أمَّا إذا عبد النَّاس ربَّهم وحده فإنَّ ذلك يحرِّرهم من التَّبعية والانقياد للطَّاغوت بكافَّة أشكاله. والآيات التَّالية من سورة يوسف تُبيِّن المكانة التي يحظها بها من عبد ربَّه وحده. يقول الله تعالى بلسان يوسف عليه السَّلام:
{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاس، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يَشْكُرُونَ. يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ؟. مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف 38- 40)
لقد عدَّ يوسف عليه السَّلام اتِّباعَه لملَّة إبراهيم القائمة على التَّوحيد وعبادة الله وحده من أعظم نِعم الله تعالى عليه وعلى آبائه. لأنَّه إن لم يتمّ عبادة الله وحده فالبديل أرباب متفرِّقون، وتلك الأرباب لا تعدو كونها أسماء لا تملك لمن يعبدها ضرَّا ولا نفعا، بينما عبادة الله وحده تمثِّل الدِّين القيم الذي يسعد به الإنسان في الدنيا ويفوز به في الآخرة.
العبادة هي تواصل مباشر مع الخالق دون واسطة، وفي ذلك رفع لمكانة العبد، وسبب لشعوره بالقوة والمنعة حتى لو كان وحيدا وسط جمع من الأعداء، ذلك أنَّ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ومصدر عزة المؤمنين هو تواصلهم المباشر مع ربهم حيث يمدُّهم بأسباب القوة والمنعة والعزة. عندما يقف العبد بين يدي الله مصليا _مثلا_ يخاطبه بقوله {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة 5). وهذه المكانة العظيمة التي يحظى بها العابد لا يدركها أكثر النَّاس.