7. تكاتف الجيش والشَّعب :
لا يُمكنُ تخيُّلُ جيشٍ دون شعب، وليس من العادة أن يكونَ الشَّعبُ دون جيشٍ، فهما كاللَّحم والعظم يحتاج أحدُهما للآخر، وإذا دخلتْ مادَّةٌ غريبةٌ بين اللَّحم والعظم يحدثُ ألمٌ شديدٌ، وكذلكَ دخولُ العناصر الأجنبيَّةِ بين الجيش والشَّعب، ونقصِدُ بالعناصرِ الأجنبيَّة المُنافقين، وهؤلاء لا يُفيدون الجيشَ ولا الشَّعب، بل يتظاهرون بأنَّهم مؤيِّدون للجَّيش تارةً، وبأنَّهم مُؤيِّدون للشَّعب تارةً أُخرى، فهم مُذبذبون بين ذلك، يُحاولون فصلَ الجَّيش عن الشّعَب.
إنَّ الجيشَ ورجالَ العلم _بطبيعة الحال_ يقبلون الحقائقَ بسهولةٍ؛ لأنَّهم بعيدون عن الكذب والتزييف، وهم لا يخدعون أحداً، لذا يظنُّون أنَّ أحداً لا يُمكنُ أن يخدعَهم، وحين يعرفون أنَّهم قد خُدِعوا يكونُ الأوانُ قد فات!
إنَّ المنافقين يُظهرون الفوضى في كلِّ فرصةٍ لأنَّهم يُحبُّون الصَّيدَ في الماء العكر، ومن الصَّعبِ إقناعُ الشَّعب بأنَّ المُنافقين غيرُ صادقين، ولهذا السَّبب ينبغي أن يتمَّ التَّصدي لهم بحذرٍ وبعيداً عن العُنف وبشكلٍ مُستمرٍّ، وأن لا يكونَ هناك ثمَّةَ تطبيقاتٌ خاطئةٌ تُعطي لهم فرصةً لتحقيق آمالهم في إشاعة الفوضى، وفي هذا الصَّدد يجبُ على الدَّولة أن تتصرَّفَ بالحِكمة وأن تمنعَ المُنافقين من إشاعةِ ما يمنعُ التَّكاتفَ بين الجيش والشَّعب، فالمنافقون يبذلون كلَّ ما في وسعهم ليستغلُّوا النَّوايا الحسنة للجيش الذي يتَّخذُ عادةً موقفَ عدم الانحياز لأيِّ طرفٍ، بالإضافة إلى استقطابهم لبعض رجال العلم في صفوفهم لإضافة مزيدٍ من الشَّرعيَّة على تحرُّكاتهم، فيُحدثون بسبب أفعالهم تلك الإرباكَ والأزماتِ في البلد.
وقد أمَرَنا اللهُ تعالى في آياتٍ كثيرةٍ أن نأخُذَ حذرنا تجاه المنافقين، ومن تلك الآيات قولُه تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ؛ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ؛ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» (آل عمران، 3 / 118-120).
وقد عانى النَّاسُ من المنافقين أكبرَ المعاناة عبر التَّاريخ، وقد قيل عنهم “المنافقون” لأنَّهم يتظاهرون بالإيمان مع حقيقة عدم وجود الإيمان في قلوبهم، ومنهم مَنْ يُبالغُ في التَّظاهر بالإيمان إلى درجةِ أنَّه يُعجِبُ المؤمنين، كما كان حالُهم في عهد النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلام. قال اللهُ تعالى: «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (المنافقون، 63 / 4).
وهناك عاملٌ يُساعدُ مَنْ يُريدُ إيقاعَ العداوة بين الجيش والشَّعب، وهو عاملٌ يجبُ أن يُؤخَذَ بعين الاعتبار؛ فثكناتُ الجيش ومساكنُهم وأماكنُ التَّرفيه والرَّاحة الخاصَّة بهم كلُّها مُنفصلةٌ عن المجتمع، ولا يُمكنُ أن يكونَ شخصٌ ما فرداً من أفراد الجيش إلَّا إذا وصَلَ سنَّ النُّضج والرُّشد؛ فالذُّكورُ من المواطنين يلتحقون بالجيش في فترة التجنيد وهي فترةٌ قصيرةٌ من حياتهم، وتكون علاقتُهم مع مؤسَّسة الجيش حسبَ موقعهم جنوداً كانوا أو ضبَّاطَ احتياطٍ، كلُّ ذلك يكونُ بانضباطٍ عسكريٍّ، وهذا النَّمطُ من التَّجنيد يُحدِثُ مسافةً بين الجيش والشَّعب بحيث يمنعُ التكاتفَ بينهما، حتَّى وإنْ بدا أنَّ الجيش يُدافعُ عن الشَّعب من التأثيرات الخارجيَّة.
والأصلُ أن تكونَ مراكزُ تدريب الجيش قريبةً نسبيَّاً من المدن، بحيث تُمكِّنُ أفرادَ الجيش من قضاءِ أوقات فراغهم مع أبناء وطنهم ومشاركتهم فعاليَّاتهم الاجتماعيَّة والوطنيَّة، فأفرادُ الجيش هم جيشُ الشَّعب؛ فينبغي أن يتكاتفَ الشَّعبُ ويتعاونَ مع جيشه على الدَّوام، وهذا أمرٌ مُهمٌّ للغاية، وبهذا يُمكنُ للشَّعب أن يعرفَ جيشَه، وكذلك الجيش يعرفُ شعبَه بدون أن تدخُلَ بينهما العناصرُ الأجنبيَّةُ.
إنَّ ما دعا الجيش إلى الإفراطِ في إبعاد أفراده عن الشَّعب هو حمايتُهم من الاختراق الخارجيِّ، لكنَّ الجيشَ التُّركيَّ هو جيشٌ عريقٌ، يملك في هذا الصَّدد أبعاداً مُتقدِّمةً وأصيلةً، فلا يقفُ عاجزاً عن تجاوز هذه الحالة.
إنَّ التَّكاتفَ بين أفراد الجيش والشَّعب يُشكِّلُ مانعاً أمام المُنافقين من تحقيق آمالهم في الفصل بينهما، لذلك سيبحثون عن طريقٍ آخر ويبذلون جهدَهم لإيقاع العداوة بينهما، وهنا يتَّضحُ بصورةٍ جليَّةٍ أهمِّيَّةُ تكاتف الجيش مع الشعب، وبهذا يتحقَّقُ الهدفُ الأساسيُّ من الحرب الدِّفاعيَّة في هذا العصر، وهي ليست دفاعاً عن الحدود فحسب بل هي دفاعٌ عن الوطن كلِّه كما يتطلَّبُ ذلك الواقع، وبذلك لا يبقى لأعداء الوطن فرصةُ لينتهزوها، وقد تبيَّنَت أهمِّيَّةُ ذلك في عمليَّات مكافحة الإرهاب.
وهنا يجبُ الإشارةُ إلى أنَّ بعضَ السِّياسييِّن والمؤسَّسات الإعلاميَّة ومراكز القوى الخفيَّة في الدَّولة إذا فشلوا أو لم تلقَ آراؤُهم قبولاً عند الشَّعب فإنَّهم يمكرون ويُحمِّلون المسؤوليَّة للجيش بالكلمات الضمنيَّة السَّاخرة بهدف إبعاده بذلك عن الشَّعب وحماية مصالحهم، لكن إذا تمَّ التكاتفُ بين الجيش والشَّعب بشكلٍ صحيحٍ فإنَّ آمالَ المُنافقين ستبقى حبيسةَ أنفسهم ولن تتحقَّقَ.
أضف تعليقا