مسألة الخلف والسلف
يقول الله تعالى: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون» (البقرة، 2/30)
يُقال لمن يَخلُف غيرَه خليفةٌ أو خَلَف. وكلُ إنسان يَخلُف آباءه وأجداده. والإنسان يمتلك الأموال والمناصب بالخلافة، كما يخلف عنه غيره فيمتلك أمواله ومناصبه.
وتنشأ الفوضى عندما يخاف الإنسان من أن يفقد ما في يده، أو يحاول أن يأخذ مكان غيره بالخلافة، وهذا يؤدي إلى سفك الدماء، ومن الأسباب الرئيسية في عداوة الناس للأنبياء خوفهم من أن يفقدوا مناصبهم أو ما في أيديهم، فلذلك حرص كل نبي من الأنبياء على أن يبدد هذا الخوف بالقول: «وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين» (الشعراء، 26/127). وقول الملائكة: «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء» ما كان إلا تعبيرا عن مخاوفهم التي عرفوها من نظام الخلافة. والله تعالى لم يقل لهم إن هذا لن يحدث، وإنما أخبرهم عن عدم علمهم ببعض الأشياء.
وزعم البعض _مستدلاً بهذه الآية_ بأن الإنسان خليفةُ الله في الأرض. والخليفةُ هو من ناب عن غيره فقام مقامه لغَياب المنوب عنه أو لعجزه أو لموته.[1] وهذا المعنى لا يمكن أن يقصد في ذات الله تعالى. لذا فالإنسان ليس خليفة الله، ولكنه خليفة إنسان آخر مثله. كما أن الناس يتوارثون جيلاً بعد جيل. قال تعالى: «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله» (ص، 38/26). لأن داود عليه السلام قد خلف طالوت الذي كان حاكما قبله، والآيات المتعلقة بهذا الموضوع تتكلم عن توارث الناس بعضهم لبعض.[2] ونذكر آيتين من تلك الآيات وهما قوله تعالى: «فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذَرين» (يونس، 10/73). وقوله تعالى وهو يقصُّ موقفا لبني إسرائيل مع موسى عليه الصلاة والسلام: «قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون» (الأعراف، 7/129).
وقد جرى بيني وبين من أثق بعلمه[3] الحوار التالي:
سألته: هل يمكن أن يكون الإنسان وكيلا عن الله ؟
قال: لا، فإنّ الله لم يجعل نبيَّه وكيلا، أفيجعلنا نحن وُكَلاءَ وقد قال لنبيه:
«ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل» (الأنعام، 6/107) «إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل» (هود، 11/12)؟
قلت: هل يمكن أن يكون الإنسان خليفة الله؟
قال: نعم، لأن الله قال للملائكة: «إني جاعل في الأرض خليفة».
قلت: أيُّ الوظيفتين أجلُّ ؟ الخِلافة أم الوكالة؟
قال: بل الخلافة. فالوكيل وإن كانت له صلاحيات التمثيل في بعض الشؤون، إلا أن سلطة الخليفة أكبر وأوسع.
قلت: فكيف يكون الإنسان خليفة لله؟ وهو لا يقدر أن يكون وكيلا له تعالى؟
قال: ما هو تفسير هذه الآية: "..إني جاعل في الأرض خليفة.." عندك إذاً؟
قلت: عندما ننظر إلى الآيات المتعلقة بالموضوع نرى الآية الثلاثين من سورة البقرة؛ تتحدث عن نظام الخلف والسلف بين الناس، فلا يمكن أن يكون الإنسان خليفة الله في الأرض، فهو خلاف المعنى اللغوي والإصطلاحي للكلمة. كما أنه يعطي معنى قبيحا؛ لأن الملائكة لو كانوا يتحدثون عمن ينوب عن الله بأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، لكان المنوب عنه وهو الله تعالى سفاكاً ومفسداً! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا؛ إذا دلَّ هذا على شيء فإنما يدلُّ على أن المنوب عنه أي الله تعالى كان يفسد ويسفك الدماء حاشا لله من هذا. وكذلك الملائكة بعيدون عن مثل هذه الأفكار.
قال: والله قد أسكتَّني؛ أي ألزمتني الحجة.
[1] مفردات ألفاظ القرآن مادة: خلف.
[2] الآيات التي تذكر فيها الألفاظ المشتقة من مادة خلف بنفس المعنى مجموعُها عشرون آية هي: البقرة، 2/30، 66. آل عمران، 3/170. النساء، 4/9. الأنعام، 6/133، 165. الأعراف، 7/69، 74، 129، 169. يونس، 10/14، 73. هود 11/57. الرعد، 13/11. الإسراء، 17/76. مريم، 19/59. النور، 24/55. النمل، 27/62. فاطر، 35/39. سورة ص، 38/26.
[3] وهذا الشخص جلال برهاني الذي عمل عضوا في مجلس دار الإفتاء لمحافظة استانبول مدة طويلة ثم تقاعد.
أضف تعليقا