34. العودة إلى القرآن
المُريد : علماء المذاهب أهلُ شأنٍ حقَّاً، فما الضَّررُ إذا عُدُّوا أعلى من سائر البشر؟
بايندر : الضَّررُ كبيرُ، فحينئذٍ يتغيَّرُ أمرُ ديننا، فستصيرُ آراؤُهم بديلاً عن القرآن والسُّنَّة، ونحن نعيش هذه المصيبة.
وليسَ من الإيمان اعتقادُ مذهبٍ من مذاهب الأئمَّة، ولن يسألنا الله تعالى عن ذلك يوم القيامة، ولكنَّنا مأمورون جميعاً بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وطاعتُه من طاعة الله، قال تعالى: « مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا» (النساء، 4/80).
وفي القرآن الكريم أحدُ عشرَ موضعاً – دون الآية السَّابقة– فيها الأمرُ بطاعة الله ورسوله طاعةً واحدة[1]. قال الله تعالى:
– « وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (الحشر، 59/7).
– « وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا» (الأحزاب، 33/36).
– «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (النور، 24/63).
أ – المعجزة
نُعيدُ النّظرَ في موضوع المعجزة من وجهةٍ أخرى لما لها من الأهميَّة.
بايندر : لا يوجدُ في بني آدم مَنْ هو أعظمُ قدراً من رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فهل فكَّرتُم في سبب ذلك؟
المُريد : طبعاً، فهو رسولً الله.
بايندر : كيف يُعلَمُ أنَّه رسولُ الله حقَّاً؟ كيف يُمكنُكم إثباتُ ذلك؟
المُريد : محمَّدُ بنث عبد الله آخرُ رسل الله، وعلى الكلِّ الإيمانُ به!
بايندر – نعم، وهو كذلك، ولكن كيف للنَّاس أن يعلموا أنَّه رسولُ الله حقَّاً؟
انتبهوا! لو جاءَ رجلٌ إلى الحكومة التركيَّة وادَّعى أنَّه سفيرُ الولايات المتحدة الأمريكيَّة، فهل سيُقبَلُ قولُه رأساً؟ وهل تبدأُ الدَّولةُ بالتَّعامل معه كمُمثِّلٍ للولايات المتَّحدة؟
المُريد: إذا قدَّمَ أوراقَ اعتماده التي تُثبتُ أنَّه سفيرٌ مبعوثٌ من قِبَل الحكومة الأمريكية، فإنَّه كذلك حقَّاً.
بايندر: وكذلك محمد بن عبد الله، هو رسولٌ مبعوثٌ إلينا من عند الله، فعليه أن يأتينا بوثيقة تعيينه رسولاً.
المُريد : وهل أنتَ من القَدْر بذلك المكان؟
بايندر : هذا القدرُ جعله اللهُ لي ولكم ولكلِّ النَّاس، هو الذي قال: « لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» (آل عمران، 3/164).
المُريد : نعم الآن فهمتُ، وثيقةُ إثبات رسالته هي معجزاته صلى الله عليه وسلم.
بايندر : صحيح.
المُريد : من تلك المعجزات ما وَقَعَ في غزوة الأحزاب إذ يقولُ جابرُ بنُ عبد الله رضي الله عنهما: “لمَّا حُفِرَ الخندقُ رأيتُ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خمصاً (كناية عن الجوع) شديداً، فانكفيتُ إلى امرأتي فقلتُ: هل عندك من شيء؟ فإني رأيتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً. فأخرجتْ إلي جراباً فيه صاعٌ من شعيرٍ، ولنا بُهيمة داجن فذبحتْها، وطحنت الشَّعير، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في بُرمتها. ثمَّ وليتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله وبمَنْ معه. فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنا صاعاً من شعير كان عندنا، فتعالَ أنتَ ونفر معك فصاح النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقدُم النَّاسَ، حتى جئتُ امرأتي فقالت: بك وبك. فقلت: قد فعلت الذي قلت. فأخرجت له عجيناً فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثم قال: ادع إلى خابزة فلتخبز معي. واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها، وهم ألوف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتَّى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغطُّ كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو”.[2]
بايندر : كلُّ الرسل جاؤوا بما تثبتُ به رسالتُهم من مثل هذه المعجزات، ناقة صالح عليه السَّلام، وتحوُّل عصى موسى عليه السَّلام إلى حيَّة، وإخراج يده بيضاء من جيبه، وخلق عيسى عليه السَّلام من الطين كهيئة الطير ونفخه فيه ليكون طيراً بإذن الله، وإحياؤه الموتى بإذن الله، وإبراؤه الأكمه والأبرص، كلُّ ذلك معجزةٌ كالوثيقة تثبت نبوَّتهم، ومهما بلغت المعرفةُ من الرُّقي ومهما تقدَّمت الاكتشافاتُ العلميَّة فلن يستطيع الإنسانُ أن يُخرجَ ناقةً من صخرة، أو أن يُحوِّلَ عصى إلى حيَّةٍ تسعى، أو أن يُحييَ الموتى، أو أن يُطعمَ طعامَ نفر من النَّاس آلافاً منهم، ولكنَّ زمان هذه المعجزات قد ولَّى، فهي لا تصلح لأن تُقدَّمَ للنَّاس على أنَّها وثائق إثبات الرِّسالة والنُّبوَّة.
ولنضربْ مثلاً قوم صالح عليه السَّلام حين سألوه إظهارَ ناقةٍ من صخرةٍ عظيمةٍ هناك، فأوحى اللهُ إليه: «إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ. وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ» (القمر، 54/27-28). جاء في تفسيرها: “يحضرون بهم إلى الماء إذا غابت، وإذا جاءت حضروا اللبن”[3].
قال اللهُ تعالى: « وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ. فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ» (الأعراف، 7/73-79).
ولم يكن يستطيعُ أحدٌ أن يقفَ في وجه صالح عليه السَّلام طول بقاء الناقة حيَّة، لأنَّ الناقة التي ظهرت من الصخرة العظيمة كانت كالوثيقة التي تثبتُ رسالتَه، وأما إذ عُقرت فإنه لم تبق وثيقة تُقدَّمُ للنَّاس، فصار كالسفير الذي يستدعى لوظائف أخر، فكان عليه إما أن يعتزل وإما أن يأتي بوثيقة جديدة، وحين لم يؤته اللهُ معجزةً جديدة اعتزل صالح عليه السَّلام قومَه ثمَّ أهلكهم الله.
المُريد : أفإذا ماتت النَّاقة فنيت المعجزة؟
بايندر: ومَنِ الذي سيُؤمنُ لصالح عليه السَّلام بمعجزةٍ هي ناقةٌ ميِّتة؟
ب – معجزة رسول الله
المُريد : ومعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ظهرت على يديه لم يبق لها وجودٌ اليوم، فهل صار كالسَّفير الذي يفقد صلاحيَّاته بعد أن سُحبتْ منه وثائقُ اعتماده؟
بايندر : لا، معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمسَّها شيءٌ، لأنَّها في الأصل القرآن الكريم الذي تولَّى اللهُ تعالى حفظَه إلى يوم القيامة، فبقي رغم موت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم إنَّه آخرُ كتب الله، وقد بيَّنَ اللهُ به للنَّاس كلَّ ما هم بحاجة إليه. لذا فإنَّ الله عز وجل لن يكلِّفَ العباد بحكمٍ جديد، قال تعالى: « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» (المائدة، 5/3).
المُريد : مَن الذي يتكفَّلُ بعمل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في التبليغ بعد وفاته؟
بايندر: اللهُ تعالى يوحي إلى رسله ويؤيِّدُهم بالمعجزات ويُكلِّفُهم بتبليغ ما أنزل إليهم، والقرآن الكريمُ الذي أوحي إلى رسول الله هو الكتاب المعجز الذي لم يُحفظ مثلُه في الدُّنيا، ولئن كان الوحيُ قد انقطع، إلا أنَّه محفوظٌ بين أيدينا، فما علينا إلَّا تبليغُه كما بيَّنَ اللهُ لنا ذلك في كتابه، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ» (المائدة، 5/67).
وكلُّ مؤمنٍ يستطيع الاستمرارَ في تبليغ كتاب الله لأنَّه ما زال محفوظاً لدينا.
ت – كلُّ مؤمنٍ وارثٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم
المُريد : كيف يستطيعُ المؤمنون كلُّهم فعلَ ذلك؟
بايندر: كلُّ مؤمنٍ يستطيع أن يعيشَ ويُبلِّغَ دينَه للنَّاس كما أمَر اللهُ في القرآن، فقد جاءَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وأنَّ العلماء ورثةُ الأنبياء”[4].
المريد : لا يستطيعُ كلُّ النَّاس أن يكونوا علماء!
بايندر : الكلُّ عالمٌ فيما يعلم ومتعلِّمٌ فيما يجهل، فإذا علم مسألةً واحدةً من القرآن فهو عالمٌ فيها، فإذا بلَّغَها كان وارثاً للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قياساً على الحديث السَّابق، ثم إنَّ عليه أن يداوم على وظيفة التبليغ، وألَّا ينطويَ على نفسه تاركاً إيَّاها لرجال العلم وحدهم بزعمه.
المُريد : والشُّيوخ، ألا يستطيعون أن يكونوا ورثةَ النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام؟
بايندر: ولمَ لا يكونوا ورثة الأنبياء؟ إذا لم يكن فيهم معتقدٌ يُخالفُ القرآنَ فهم أهلٌ لأن يكونوا كما ذكرنا.
والوارث يُمثِّلُ وارثَه، وله من التركة على قدر تمثيله إيَّاه، لهذا اختلفت حصص الآباء والأمهات والأولاد الذكور والإناث والأزواج والإخوة. وليست الرِّسالةُ مالاً يُورث، ولا مُلكاً يتركه الآباء للأبناء.
والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، فلن يوحيَ اللهُ إلى أحد بعده، فوجب تبليغ ما أرسل به من القرآن إلى يوم القيامة، والذي يُبلِّغُه ينوبُ عنه فيه، فهذه هي الوراثة، فالكلُّ وارثُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على قدر تبليغه القرآن، وهو يمثله فيما يبلغ، لكن هذه الوظيفة أهملت عبر العصور!
المُريد : مَن الذي أهمله؟ وأنى يكونُ الإهمال؟ وقد انتقلتْ كتابةُ القرآن وقراءته وحفظه من جيلٍ إلى جيل، وأشدُّ من يخدم القرآن اليوم الطُّرق التي لم تعجبك، والمنتسبون إليها في المدارس القرآنيَّة يخرِّجون الآلاف من الحفَّاظ كلَّ سنة، وأضعافُهم عدداً يتعلَّمون قراءة القرآن.
بايندر : هذا صحيحٌ، فالآلافُ منهم من المُعلِّمين يُعلِّمون عشرات الآلاف من المتعلمين في المدارس القرآنيَّة، والمُعلِّم على قدر ما عنده من علم بالقرآن يكون تبجيلُه، وهذا ما صنعه النّبيَّ صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد قبل دفن الشُّهداء الاثنين والثلاثة في قبرٍ واحدٍ إذا قال:’’ أيُّهم أكثرُ أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد”.[5]
والسُّؤالُ الذي يحتاج إلى جواب هو: كم حظُّنا نحن من الأخذ بالقرآن؟
المُريد: مِن الذين دخلوا المدارس القرآنيَّة مَنْ يعرفُ العديد من سور القرآن، ومنهم من حفظ القرآن كلَّه، وأكثرهم يستطيع قراءته.
بايندر: لا أسألكَ عن هذا، ولكني أقصد ماذا فقهنا من القرآن وكم بلّغنا منه إلى النَّاس؟
المُريد : هذا أمرٌ أعترفُ بأنَّنا مُفَرِّطون فيه.
بايندر: الحمدُ لله! قد قدرتُ على إقناعكم، وهذا هو الأهمُّ، أنَّكم قد اقتنعتُم.
والذين يُرسلون أبناءهم إلى المدارس لحفظ القرآن يقرؤون أحياناً سورة يس وتبارك على الأموات وأرواحهم، وربَّما قرؤوه عليهم مرَّةً في السَّنة ختماً أيضاً.
وأشد ما يعتنى به المعلمون ضبطُ المخارج، واحترام قواعد الترتيل وتصحيح ما حفظ خطأً، وهذا كلُّه صحيحٌ ولازم، لكنَّ العمل لا ينتهي عنده، بل هو البداية، ثمَّ إنَّه لابدَّ من النفَس الطويل من أجل فقه القرآن وحسن فهمه.
ث – الذِّكر
المُريد : في المدارس يتلقَّى الطُّلابُ علوماً مختلفةً كالعربيَّة والفقه والتفسير والحديث والكلام، وكانت هذه العُلومُ تُدرَّسُ تدريساً أوسع في السَّابق، أوَليسَ القرآنُ هو المصدر الأوَّل لهذه العلوم؟
بايندر : انتبهوا إلى أنَّ الذِّكرَ هو من أسماء القرآن! قالَ تعالى: « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (الحجر، 15/9).
الذِّكرُ هو الحفظُ للشَّيءِ وتذكُّرُه (لسان العرب، أجعله فيما بعد في الحاشية)، وتارةً يُقالُ ويُرادُ به هيئةٌ للنَّفس بها يُمكنُ للإنسان أن يحفظَ ما يقتنيه من المعرفة… وتارةً يُقالُ لحضور الشَّيء القلبَ أو القول (هذا من المفردات فقط).[6]
والتَّوراة والزَّبور والإنجيل وما أُوتيه الرُّسُلُ من مواعظَ وأوامرَ ونواهٍ كلُّ ذلك تجمعُه عبارةُ الذِّكر[7]، والقرآنُ يحويه كلَّه، فحفظُ القرآن يعني حفظَ الكتب السَّماويَّة كلِّها، والذي يُحسنُ فهمَ القرآن يكون قد أحسَنَ فهمَ تلك الكتب أجمع.
المُريد : إذا كان الذِّكرُ هو حفظُ شيءٍ ثمَّ استحضارُه باللِّسان والقلب، فهو ممَّا يقدُرُ عليه كلُّ مسلمٍ، فكلُّ مسلمٍ يحتفظُ في قلبه بما حفظ ثمَّ يستخرجُه عند الحاجة ليقرأَه.
بايندر : إذا حُفِظَ شيءٌ في القلب فإنَّه قد يصحبُه تصوُّرُه وقد لا يصحبُه، فإذا حُفِظَ دون تصوُّره فإنَّه لا يُقالُ له ذكرٌ، إنَّما هو حفظٌ عن ظهر قلب.
والذِّكرُ تارةً يُقالُ ويُرادُ به هيئةٌ للنَّفس بها يمكن للإنسان أن يحفظَ ما يقتنيه من المعرفة.[8] والأصل هنا هو العلم بذلك المحفوظ، أمَّا الحفظ وحده فليس بعلمٍ، والمعرفةُ إدراكُ الشَّيء على ما هو عليه.[9]
ومن الذِّكر اشتُقَّتِ الألفاظُ: التَّذكرة والمُذاكرة وأهلُ الذِّكر، فإذا فُهِمتْ هذه الألفاظُ فُهِمَتْ مواضيعُها.
والتَّذكُّرُ استحضارُ الشَّيء في الذِّهن أو جعلُ غيرك يستحضره، قال تعالى: « إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ» (الأعراف، 7/201). والتَّذكُّرُ المقصودُ هنا هو استحضارُ آيات الله والتَّفكُّر فيها.
والمُذاكَرة مُفاعلة من الذِّكر، تُفيدُ اشتراكَ طرفين على الأقلِّ فيه.
وأهلُ الذِّكر هم الذين اكتسبوا علماً وقيَّدوه في أذهانهم بحيث يستطيعون نشرَه متى شاؤوا، فعن أهل العلم قالَ تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (الأنبياء، 21/7). وجاءَ تفسيرُ عبارة أهل الذِّكر في الآية بأنَّهم أهلُ الكتاب.
وكانَ القرآنُ ذكراً لأنَّه يُحفَظُ في الصُّدور، وبه يُنذَرُ النَّاسُ ليحيوا، وهذه الآيةُ تُبيِّنُ هذا: « إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (آل عمران، 3/153). وقال عزَّ وجلَّ: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» (الغاشية، 88/21-22).
ج – التَّعليم في المدارس الدِّينيَّة
المُريد : إغلاقُ مدارس التَّعليم الدِّينيِّ، وعدمُ تزوُّدِ النَّاس بما يكفي من علومها كالتَّفسير والحديث والفقه والكلام، وقلَّةُ تعليم العربيَّة، كلُّ ذلك آلَ بنا إلى هذا الحال الذي نحن عليه.
بايندر: لقد تحوَّلت المدارسُ الدِّينيَّةُ منذُ عصورٍ عديدةٍ إلى مدارس اللُّغة العربيَّة وآدابها، ودُرِّس كلٌ من الفقه والتَّفسير والكلام وما إلى ذلك بنصوصٍ عربيَّةٍ، وأهميَّةُ العربيَّة لا تُناقش، لأنَّ القرآنَ نزلَ بلسانٍ عربيٍّ، وإنَّما أغلَقتْ المدارسُ أبوابَها حين لم تعمل على تحقيق هدفها المنشود، فتحوَّلت إلى مدارسَ للغة العربيَّة.
والذي يقرأُ العلومَ الدِّينيَّةَ بهذا الشَّكل لا يكتسبُ القُدرةَ على توظيفها في ضوء القرآن وحقائق الحياة، وينقطعُ بسبب ذلك عن الواقعـ، ويظنُّ النَّاسُ أنَّه عالِمٌ من علماء الفقه والتَّفسير وغير ذلك من العلوم الدِّينيَّة فيضلُّ ويُضِلُّ كثيراً، ويسيءُ إلى الإسلام والمسلمين.
والإسلامُ مُطابِقٌ بأحكامه العالميَّة لفطرة الإنسان تماماً،كما تنطبقُ تلك الأحكامُ مع الطَّبيعة، لذا فلا بُدَّ من تطابق الحياة الاجتماعيَّة مع القرآن الكريم، إلَّا أنَّ الإنسانَ قد يُخالفُ هذه الفِطرةَ ويتَّبعُ ما تُوحيه إليه الأغراضُ الشَّخصيَّةُ والميولاتُ النَّفسيَّة، فيقومُ بعمل ما يُفسِدُ الفِطرة، فطرةِ الله التي خَلَقَ النَّاسَ عليها.
والذي يقومُ بهذه الأفعال يسيرُ وراء أهوائه، وينساقُ لأحكامٍ مُسبقة، وبالتالي يُوقِعُ نفسَه في المتاعب والمصائب بل ويتعدَّى ضررُه إلى الآخرين إلَّا مَنْ رَحِمَ الله.
وكلُّ ما في السَّماوات والأرض خُلِقَ من أجلنا، قالَ الله تعالى: « اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (الجاثية، 45/12-13). وقالَ أيضاً: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (البقرة، 2/29).
وعلينا أن نُوجِّهَ أعمالَنا العلميَّةَ إلى حيثُ نستفيدُ بقدرٍ أكبر ممَّا خُلِقَ من أجلنا، وإذا اتُّخِذَ القُرآنُ مداراً للأبحاث العلميَّة، كان هذا أكثرَ سعةً لأُفُق الباحث وأحسنَ حِفظًا للموازين. قال اللهُ تعالى: « بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (الروم، 30/29-30)
والإسلامُ دينُ الفِطرة، والقرآنُ كذلك كتابُ الفطرة، لهذا كان يضمُّ مبادئَ أيِّ موضوعٍ من المواضيع، فكان على المدرسة الدِّينيَّةِ أن تهتمَّ بكلِّ فروع العلوم عن كَثَب مُكثِّفةً اعتمادَها على القرآن، وأن تجعلَ القُرآنَ العَمودَ الفِقَريَّ لكلِّ نهضةٍ مادِّيَّةٍ ومعنويَّةٍ.
وقد كان بإمكانها أن تجعل الفقه والكلامَ وغيرَهما من العلوم جزءاً من هذه الأعمال العلميَّة، لأنَّ ما يتَّصِلُ بها من آياتٍ قد يصلُ إلى خمس مئة آية، بل وفي هذه الآياتِ أحكامٌ تتعلَّقُ عن قرب بفروعٍ أُخرى من العلوم أيضاً، لكنَّ المدارسَ لم تهتمَّ بهذه الآيات فقَطَعتْ بذلك كلَّ صلةٍ للقرآن بالحياة !
القرآنُ كتابُ الفِطرة، لهذا كان يعني النَّاسَ كلَّهم، فكلُّهم يجدون فيه ما يَخصُّهم، وعلى كلِّ إنسانٍ أن يسعى لفهم القرآن على ضوء ما عنده من علمٍ ومهارةٍ وتجاربَ، وكانتِ المدارسُ الدِّينيَّةُ تستطيعُ أن تُؤدِّيَ دوراً مُهمَّاً في هذا المجال، لكنَّها لم تفعل، وما زلنا نحن اليوم كذلك بَعيدِين جدَّاً عن هذه الوظيفة.
العلومُ الطَّبيعيَّةُ تتوجَّهُ نحو فهم الفِطرة والاستفادةِ بشكلٍ أكبرَ من الطَّبيعة، والقرآنُ والفطرة كلاهما لا يتغيَّر، فلا يوجدُ كتابٌ آخَرُ يَحُلُّ مَحَلَّ القرآن، ولا أي شيءٍ آخَرَ يحلُّ محلَّ المخلوقات، ولا يقعُ بينهما تناقضٌ أبداً، فإنْ ظَهَرَ تناقضٌ، فإنَّما هو خطأٌ في الفهم، فعلى العُلماء المُتخصِّصِين في تفسير القرآن أن يتعاونوا مع المُتخصِّصين في العلم المَعنِيِّ ويحاولوا إزاحةَ سوء الفهم حول ذلك، فالواجبُ تناولُ العلاقة الموجودة بين القرآن والعلوم الطَّبيعيَّة على هذا النحو.
وكذلك الحياةُ الاجتماعيَّةُ لا تناقضَ بينها وبين القرآن، فإذا بدا أيُّ تعارضٍ بينهما اتُّبِعَت المنهجيَّةُ نفسُها في تناول المواضيع بعيداً عن الميولات الذَّاتيَّة، وهذه المنهجيَّةُ هي التي ينبغي سلوكُها حينَ التطرُّقُ للعلاقة بين القرآن والعلوم الاجتماعيَّة.
والذي يدرسُ الموضوعاتِ على هذه الصُّورة يكونُ قد اكتسب شخصيّةً ذاتَ علمٍ دينيٍّ فيُمكن أن تكونَ فكرتُه فكرةً عالميَّةً،كما تكونُ أفكارُه شاملةً، وهو يستفيدُ أيضاً من العلوم الدِّينيَّة، الاجتماعيَّة، والرِّياضيَّة على حدٍّ سواء، فيُحسنُ حينئذٍ فهمَ القرآن الكريم، ويُمكنُ المُساهمةُ في تحقيق التقدُّم في جميع السَّاحات الحياتيَّة.
ويستطيعُ الإنسانُ أن يُفسِدَ البيئةَ التي يعيشُ فيها كما يستطيعُ أن يُصلحَها، ونحنُ نرى أنَّ الأماكنَ الخاليةَ من البشر لا تتعرَّضُ للفساد، أمَّا الأماكنُ المعمورةُ بالنَّاس فيكثُرُ فيها الفسادُ بما كسبَتْ أيدي النَّاس. كما قالَ الله تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (الروم، 30/41).
على الإنسان أن يكونَ على علمٍ بهذه الأمور، كما أنَّ عليه أن يعيشَ حسب مُقتضيات الفطرة، وأن لا يعتديَ على غيره، وعليه أن يبحثَ عن السُّبُل التي تُوَفِّرُ له النَّجاحَ في الاِمتحان الكبير لدخول الجنَّة حتَّى يُشبِعَ كلَّ ما تشتهيه نفسُه مِن ملذَّات.
وإذا كانَ القرآنُ محورَ الأعمال العلميَّة كان من السَّهل تقديمُ التَّربية للنَّاس، إلَّا أنَّ المدارسَ إذا لم تُؤدِّ ما يجبُ عليها في العلوم الدِّينيَّة وغيرِ الدِّينيَّة أغلقتْ نفسَها بنفسها.
المُريد : فأينَ تضعُ أقوالَ وأفعالَ النَّبيِّ ؟ أعني سُنَّتَه الشَّريفة؟
بايندر : كنَّا قد تطرَّقنا لهذا الموضوع من قبلُ، ولكنَّنا نتعرَّضُ له هنا من وجهٍ آخرَ، لقد كُلِّفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتبيين القرآن الكريم لقوله تعالى: «بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (النحل، 16/44). وعليه فإنَّ كلَّ فعلٍ صدَرَ منه على صفة النُّبوَّة فهو إيضاحٌ لآيةٍ ما في القرآن، فإذا كان هذا كذلك فإنَّ القُرآنَ والسُّنَّةَ يجب أن يُعتبَرا مصدراً واحداً وليس مصدرين مُستقلَّين بعضهما عن بعض، وحينئذٍ يكونُ طريقُ فهم السُّنَّةِ مفتوحاً.
المُريد : علينا أن نضَعَ أقوالَ العُلماء في موضعها الخاص لأنَّ كلَّ شيءٍ في هذا الإطار يجب وضعُه في محلِّه.
بايندر : إنَّ دراسةَ الفقه والكلام وما شابههما بمتونها العربيَّة بعيداً عن القرآن الكريم والحياة الواقعيَّة نتَجَ عنه أن أصبحتْ تلك المُصنَّفاتُ مُقدَّسةً وحلَّتْ محلَّ القرآن والسُّنَّة.
وعلى سبيل المثال نذكرُ ما قاله عبيد الله بن الحسين الكرخي من علماء الحنفيَّة (340هـ/951م) فيما معناه: “وكلُّ نصٍّ يُخالفُ أقوالَ علمائنا فهو إمَّا منسوخٌ أو مرجوحٌ بطريقٍ من طرق التَّرجيح، وعليه فإنَّ المُعوَّلَ على أقوالهم وليس على النَّصِّ”.
ولم يخلُ يومٌ من الأيَّام ممَّن يُدافعُ عن هذه المتون الكلاسيكيّة، إلى درجة أن يُحكَمَ بالكفر على مَنْ يُخالفُ قولَ أحدٍ منهم، وقد شاهدتُ هذا حين كنتُ طالباً في أواخر السِّتينات وأوائل السَّبعينات فمَنْ كان يُخالِفُ قولَ الكرخي يُحكمُ عليه بالكفر.
وهذه الأفكارُ المغلوطةُ في عالم المسلمين جعلتنا نقومُ بإجراء البحوث في الموضوعات المختلفة على ضوء القرآن الكريم، وهذا الكتابُ يُعتبرُ من هذه البحوث الهامَّة.
ولم يكن سهلاً علينا التَّخلُّصُ من الرَّواسب الفكريَّة الجامدة لأنَّنا عشنا في نفس البيئة.
والكرخي الذي يُعظَّمُ قولُه عالِمٌ تُوفِّيَ في القرن الحادي عشر، فالخطب عميقٌ إذاً.
لا يُمكنُ قبولُ هذا الوضع البتَّة، وكان يجبُ على العلماء المجتهدين أن لا يعتبروا قولاً مثل هذا القول للكرخي.
قال عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه يوماً على المنبر: “يا أيُّها النَّاسُ إنَّ الرَّأي إنَّما كانَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصيباً، إنَّ اللهَ كان يُريه، وإنَّما هو منَّا الظَّنُّ والتَّكلُّفُ”.
وإنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه نزلتْ به قضيَّةٌ فلم يجدْ في كتاب الله منها أصلاً ولا في السُّنَّة أثراً فاجتهد برأيه ثمَّ قال: هذا رأيي، فإن يكُ صواباً فمن الله، وإن يكُ خطأً فمنِّي وأستغفرُ الله.
وَكَتَبَ كاتبٌ لعمر بن الخطَّاب: هذا ما رأى اللهُ ورأى عمر، فقال: بئسَ ما قُلتَ، قل: هذا ما رأى عمر، فإن يكُ صواباً فمن الله، وإن يكُ خطأً فمن عمر.
وعن عمر أنَّه لقيَ رجلاً فقال: ما صنعتَ؟ قال: قضى عليٌّ وزيدٌ بكذا، قال: لو كنتُ أنا لقضيت بكذا، قال: فما يمنعُك والأمرُ إليك؟ قال: لو كنتُ أردُّكَ إلى كتاب الله أو إلى سُنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم لفعلتُ، ولكنِّي أردُّكَ إلى الرَّأي، والرَّأيُ مُشترَكٌ، فلم ينقضْ ما قال عليٌّ وزيد.[10]
وقد روى أبو يوسف والحسن بن زياد كلاهما عن أبي حنيفة أنَّه قال: “علمُنا هذا رأيٌ، وهو أحسنُ ما قدرنا عليه، ومَنْ جاءَنَا بأحسنَ منه قبلناه”.
وقال معنُ بن عيسى القزَّاز: سمعتُ مالكاً يقول: “إنَّما أنا بشرٌ أُخطِئُ وأُصيبُ، فانظروا في قولي، فكلُّ ما وافَقَ الكتابَ والسُّنَّةَ فخذوا به، وما لم يوافق الكتابَ والسُّنَّةَ فاتركوه”.[11]
وكان يكثر مالكُ أن يقول: “إنْ نظنُّ إلَّا ظنَّاً وما نحنُ بمُستيقنين”.[12]
وقال سلمةُ بنُ شبيب: سمعتُ أحمد يقول: “رأيُ الشَّافعي ورأيُ مالك ورأي أبي حنيفة كلّه عند رأي، وهو سواء، وإنَّما الحُجَّةُ في الآثار”.[13]
فحين قُدِّمَ الكتاب والسُّنَّةُ على الآراء كان أمرُ الأُمَّةِ على ما يُرام، ولكنَّا وجدنا المُصنَّفات قد حذفت منها الآيات والأحاديث فلم يبق إلَّا آراء مُصنِّفيها، حتَّى جاءَ من العلماء مَن رأى تلك الآراءَ كافيةً لفهمها ثمَّ تبليغها للأجيال، فقُدِّستْ تلك المُصنَّفات واستُبدِلَ بها الكتاب والسُّنَّة، فها هي المدارسُ التي تتباهون بها قد استبدلتْ تلك الكتب بفهم كتاب الله تعالى، فكانَ حالُها هذا أقصى ما بلغتْه من عزٍّ.
بل إنَّ من الصَّحابة مَنْ لم يرَ كتابةَ الحديث خوفاً منه على القرآن، يقول صبحي الصَّالح في هذا الشأن: “عن عروة بن الزبير أنَّ عمر بن الخطَّاب أرادَ أن يكتبَ السُّنَن، فاستشارَ في ذلك أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار عليه عامَّتُهم بذلك، فلبث عمرُ شهراً يستخيرُ الله في ذلك شاكَّاً فيه، ثمَّ أصبحَ يوماً وعزمَ الله له، فقال: إنِّي كنتُ قد ذكرتُ لكم من كتاب السُّنن ما قد علمتُم، ثمَّ تذكَّرتُ، فإذا أناسٌ من أهل الكتاب قبلكم، قد كتبوا مع كتاب الله كتباً، فأكبُّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيءٍ أبداً، فترَكَ كتابَةَ السُّنن”[14].
وما كان عمرُ رضي الله عنه يتخوَّفُ منه قد وَقَعَ حقَّاً، فلقد كُتِبَتْ كتبٌ مع كتاب الله، فهُجِرَ القرآن، بل وهُجِرَتْ حتَّى السُّنَّةُ في هذا الزَّمان! وبهذا هجَرَ المسلمون العلومَ الطَّبيعيَّةَ والإنسانيَّةَ لأنَّهم بدؤوا يطلبون قراءةَ القرآن فقط لينالوا به عرضَ الدُّنيا، فلا يقصدون فهمه ولا العملَ به، بل كان كلُّ ما يهتمُّون به هو عددُ الأجزاء التي حفظها الواحدُ منهم؟ وتشاغلوا بختم القرآن، وركَّزوا كلَّ مقدراتهم في نطق الحروف التي لا يُحسنون مخارجها، فابتعدوا عن حيقية أنَّ القرآن كتابٌ أنزله اللهُ ليُبيِّنَ للنَّاس الحياةَ السَّعيدةَ وما فيها من مبادئ العلوم التي يستفيدون منها.
كلَّ هذا فتحَ الأبوابَ التي يسهُلُ منها العبورُ إلى تعدِّي حُرُمات الله، وكان منها الرِّبا الذي هو من أشدِّ ما حرَّمَ اللهُ في كتابه، إلَّا أنَّ المُسلمين تركوا القرآن والسُّنَّةَ وأكبُّوا على كتب الفقه.
فُتِحَ بسبب ذلك على النَّاس بابُ الرِّبا، واستغلَّتِ الأوقافُ المصرفيَّةُ هذا الموقف، فأُسِّسَتْ منها الآلافُ لإقراض الرِّبا تحت غطاء البيع الصُّوري الذي يُسمَّى ببيع العِينة أو بالمعاملة الشَّرعيَّة.
وفي أرشيف السِّجلَّات الشَّرعيَّة بدار الفتوى في اسطنبول الآلافُ من العقود على هذا النَّمط، هذا واحدٌ منها: اشترى أحمدُ نائل كتابَ فتاوى علي أفندي التَّابع لوقف “كيلي ناظري”، واستدان ألفين وخمس مئة قرش (2500) (خمسة وعشرين ديناراً (25)، وكلُّ دينارٍ سبعُ غرامات وثلاثةُ أجزاءٍ من عشرة (7,3) من الذَّهب) على أن يردَّها بعد خمس سنواتٍ ومعها ألف وخمس مئة قرش (أي 15 خمسة عشر ديناراً) . فيكون دَينُ أحمد نائل أفندي قد زادَ بـ 37,5% في نهاية هذه المعاملة، ثمَّ يَهبُ الكتابَ إلى الوقف مرَّةً أُخرى !
والذين يغضُّون أعينَهم عن حكم الكتاب والسُّنَّة ويُحكِّمون بعضَ الكتب الفقهيَّة فيما شَجَرَ بينهم يُجوِّزون هذه المعاملةَ الصُّوريَّةَ، بل يستحبُّونها هروباً من الحرام بزعمهم !
وكان باسطنبول في العهد العثمانيِّ ساعةُ جيبٍ في صندوق الأمانة في المصارف التي كانت موجودةً آنذاك، فكان يأتي في اليوم الواحد عشراتُ الأشخاص ممَّن يُريدُ القرضَ فيشتريها من الصُّندوق ثمَّ يهبُها له ثانيةً، زعماً أنَّ هذا يُخرجُهم من المُعاملة الرّبويَّة، بالرَّغم أنَّها مُعاملةٌ ربويَّةٌ في صورة البيع.
إنَّ التَّعديَ على حُرمة الرِّبا بهذه الصُّورة كان سبباً في التعدِّي على شرائع الإسلام والاستخفاف بحدوده.
والواقع أنَّه قد جاءَنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُحذِّرُ من بيع العينة في قوله: “إذا تبايعتُم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتُمُ الجهاد، سلَّطَ اللهُ عليكم ذُلَّاً لا ينزعُه حتَّى ترجعوا إلى دينكم”.[15]
ولو أنَّ العُلماء الذين شرَّعوا تلك الصَّورة من الرِّبا نظروا في القرآن الكريم لوجدوا أنَّه لا فرقَ بين فعلتهم هذه وبين ما فَعَلَ اليهودُ من تعدَّي حدود الله يومَ السَّبت.[16]
المُصنَّفاتُ الفقهيَّةُ التي كانت تُستنسَخُ بعد مُؤلِّفيها ربَّما زِيدَتْ فيها بعضُ الآراء عمداً، ولعلَّ مسألةَ المُعاملة الشَّرعيَّة (الرِّبا في صورة البيع) التي كانت مُنتشِرَةً هو من تلك الزِّيادات، لأنَّا وجدناها أوَّلَ مرَّةٍ في الفتاوى الخانيَّة لحسن بن منصور الأوزجندي الشَّهير بقاضي خان وقد نسبه لأبي يوسف، على رغم البُعد الزَّمنيِّ بينهما؛ ذلك أنَّ أبا يوسف مُتوفَّى سنة 183هـ وقاضي خان مُتوفَّى سنة 592هـ أي يوجدُ بينهما أكثرُ من أربع مائة سنة، والمُؤلَّفاتُ التي دُوِّنَتْ أثناء تلك الفترة نقلتْ إلينا آراءَ الحنفيَّة في هذه المسألة بأنَّهم لا يرون الجواز، فيُحتملُ احتمالاً كبيراً أن يكون قاضي خان قد كتَبَ الشَّيءَ نفسَه، ثمَّ جاءَ بعده مَنْ أضافَ تلك الزِّيادات إلى الكتاب عن سوء قصدٍ ونيَّة.
ومهما كان المرءُ صاحبَ علمٍ وفضلٍ فإنَّه يقعُ في الخطأ، فإذا كان الأمرُ كذلك فإنَّما علينا أن نُرسِّخَ في الأذهان أنَّ ما نحنُ مخاطبون به هو القرآنُ الكريم، وأن نعرِضَ حياتَنا كلّها من بدايتها إلى نهايتها عليه، وإلَّا كنَّا ممَّنْ قِيلَ فيه:
«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا. وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا» (الفرقان، 25/27-30).
المُريد : وماذا علينا أن نعملَ بعد هذا؟
بايندر: الذي يجبُ اتباعُه هو منهجيَّةٌ يسيرةٌ وسهلةٌ يكون منها التَّغيير، فإذا بحثنا في حُكم أيِّ مسألةٍ فعلينا – كما هو معروف في الفقه – أن ننظُرَ في القرآن أوَّلاً، ثمَّ في السُّنَّة ثانياً للوصول إلى فهم تلك الآيات القرآنيَّة، ثمَّ بعد ذلك في الإجماع، وأن نقرأَ ما كَتبَه المجتهدون، وعلينا أن نتَّبعَ هذه المنهجيَّةَ ذاتَها ونحنُ نُبلِّغُ النَّاسَ أمورَ دينهم.
وأضرِبُ لكم الصَّومَ مثلاً: فإذا أردنا أن نعرفَ ما يُفسدُه قرأنا الآياتِ التي نزلتْ فيه أوَّلاً، ثمَّ الأحاديث التي تُبيِّنُ هذه الآياتِ، ثمَّ نظرنا في آراء العُلماء المُجتهدين وما أجمعوا عليه من الأحكام المُستنبَطَة من القُرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة، هذا التَّصوُّرُ يصلنا بالقرآن والسُّنَّة، ويُبعدُنا عن الخرافات الدَّخيلة.
قال اللهُ تعالى: « أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ» (الحديد، 57/16).
[1] آل عمران، 3/32، 132؛ النساء، 4/59؛ المائدة، 5/92؛ الأنفال، 8/1، 20، 46؛ النور، 24/54؛ محمد، 47/33؛ المجادلة، 58/13؛ التغابن، 64/12.
[2] البخاري، المغازي 29.
[3] تفسير الطبري، 11/561.
[4] ذكره البخاري عنوانا في الباب العاشر من كتاب العلم ؛ ورواه أبو داود، العلم1؛ وابن ماجه، المقدمة17؛ وأحمد، 5/196.
[5] البخاري، الجنائز، 72.
[6] لسان العرب لابن منظور؛ والمفردات للراغب الأصفهاني، مادة ( ذكر).
[7] أنظر سورة الأعراف، 7/63-69 ؛ والحجر، 15/6؛ والنحل، 16/43؛ والأنبياء، 21/48-105؛ والقمر، 56/24.
[8] مفردات القرآن للراغب الأصفهاني، مادة: ( ذكر).
[9] التعريفات للشريف علي بن محمد الجرجاني، صـ. 221.
[10] إعلام الموقعين لابن القيم، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد 1/65 المكتبة العصرية، صيدا-بيروت 1407هـ/1987م.
[11] المرجع السابق.
[12] المرجع السابق.
[13]المرجع السَّابق.
[14]علوم الحديث ومصطلحه لصبحي الصَّالح، ص 39-41، دار العلوم للملايين، الطبعة الخامسة، بيروت 1969
[15] أبو داود، البيوع 54؛ أحمد ابن حنبل 2/84؛ نصب الراية للزيلعي، القاهرة 1357هـ، 4/16-17، فيه تخريج الحديث وإثبات أن رجاله ثقات.
[16] أنظر موضوع تعدي اليهود يوم السبت تحت عنوان ” الشرك الذي أغرق المسلمين “.
أضف تعليقا