31. الأحاديث النَّبويَّة
الحديثُ هو أقوالُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته.
المُريد : قلتَ من قبل: “ولو أنَّكم خالفتم أحاديثَ غيرَ متواترةٍ لما تمادينا في معارضتكم إلى هذا الحدِّ كلِّه”.فهل يعني هذا أنَّكَ لا تقيم للأحاديث وزناً؟
بايندر: لا، فأنا أعترفُ بمكانة الحديث في الإسلام، و لكنَّ الأحاديث تختلف درجاتُها من حيث الصِّحَّة والضعف، ولربما كان الحديثُ صحيحاً إلَّا أنَّ فيه علَّةً، والحديث الذي ثبت أنَّه من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بأن رواه جماعةٌ من كلِّ طبقة يُقالُ عنه متواتر. يقول أحمد نعيم: إنَّ المتواترَ قليلٌ جداً، وإنَّه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم إلَّا أربعة من جهة المعنى واللفظ”.[1] ولا شكَّ أن عددَ هذه الأحاديث الثَّابتة بطرقٍ متعددةٍ قليلٌ جداً، والأحاديثُ غيرُ المتواترة فيها شيءٌ من الشُّبهة، وهذه الشُّبهةُ إمَّا في السَّند وإما في المتن بسبب معارضتها لأحاديث أخرى صحيحة.
والأحاديث التي وصلتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءتنا عن طريق الرِّجال الذين يجب أن يكونوا عدولاً وأهلَ ضبطٍ جيد.
وبعضُ المذاهب تقبل الأحاديثَ التي بلغتها إذا وافقت على أصولها التي وضعتها، لهذا ترون المذاهب تأخذ حديثاً وتردُّ آخر، وأحياناً تجد مذهباً يقبل الحديثَ الذي ضعَّفَه مذهبٌ آخر.
وعلى سبيل المثال: المذهب الشافعيُّ يشترط في الإناء الذي ولغ الكلبُ فيه أن يُطهَّرَ مرَّةً واحدةً بالتُّراب وسبعَ مرَّاتٍ بالماء مُستدلَّاً بحديث: “طهور إناء أحدكم إذا وَلَغَ فيه الكلبُ أن يغسلَه سبع مرَّاتٍ أولاهُنَّ بالتراب”[2]. وكذلك المذهب الحنبلي، أمَّا بقية المذاهب فهي على خلاف ذلك.
المُريد : ولكن ماذا عن هذا الحديث؟ أصحيحُ هو أم لا؟ لأنَّ الحنفيَّةَ يكتفون بغسل الإناء ثلاث مرَّات.
بايندر : هذا الحديثُ صحيحٌ وموجودٌ في الكتب الستَّة الصَّحيحة، حتى أنَّه يُذكَرُ في مواضع كثيرةٍ من سنن الدارمي ومسند أحمد بن حنبل. والحنفيَّة والمالكيَّة يرون صحَّةَ هذا الحديث.
المُريد : فلماذا لم يأخذ الحنفيَّةُ بهذا الحديث الذي يكاد يوجدُ في كلِّ كتب الحديث الصَّحيحة؟ أيعقلُ مخالفةُ الحديث الصَّحيح؟
بايندر : هو صحيحٌ حقَّاً، ثابتٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، إلَّا أنَّه لم يقع الإجماعُ عليه، أي أنَّ الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصدر عنهم إجماعٌ من قولٍ أو فعل على وجوب غسل ما ولغ فيه الكلبُ مرَّةً بالتراب وسبعاً بالماء.
وما زال الفقهاء ُيختلفون في هذه المسألة؛ و بأيِّ ظروفٍ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث؟ وهل ما زالت تلك الأسبابُ باقية؟ وهل وقع منه صلى الله عليه وسلم ما يخالفه من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ من أجل ذلك ترك بعضُ الفقهاء العملَ به؟ وقد تعب من أراد الاستقراءَ في مثل هذه المسألة.
و أقوالُ الحنفيَّة في مسألة تطهير ما ولغ فيه الكلبُ من إناء يمكن تلخيصُها على النحو التَّالي: “… وهو قولُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا ولغ الكلبُ في إناء أحدكم فليغسله سبعَ مرَّاتٍ إحداهنُّ بالتراب… في بداية الإسلام لقلع عادة الناس في الإلف بالكلاب، كما أمرَ بكسر الدنان ونهى عن الشُّرب في ظروف الخمر، فلمَّا تركوا العادة أزال ذلك كما مر في الخمر، دل عليه ما رُوي في بعض الروايات فليغسله سبعاً أولاهنَّ بالتراب أو أخراهنَّ بالتراب، وفي بعضها وعفِّروا الثَّامنة بالتراب، وذلك غيرُ واجبٍ بالإجماع… ورُوِيَ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: إذا استيقظَ أحدُكم من منامه فلا يغمسنَّ يدَه في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده، أمر بالغسل ثلاثاً عند توهُّم النَّجاسة فعند تحققها أولى، ولأنَّ الظاهر أن النجاسة لا تزولُ بالمرَّة الواحدة، ألا ترى أنَّ النجاسة المرئيَّةَ قط لا تزول بالمرة الواحدة، فكذا غير المرئية ولا فرق سوى أن ذلك يرى بالحس وهذا يعلم بالعقل، والاعتبارُ بالحدث غيرُ سديد، لأنَّ ثمَّةَ لا نجاسة رأساً، وإنما عرفنا وجوب الغسل نصَّاً غير معقول المعنى، والنص ورد بالاكتفاء بمرَّة واحدة فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم توضَّأَ مرَّةً وقال هذا وضوءٌ لا يقبل اللهُ الصَّلاةَ إلَّا به، ثمَّ التَّقدير بالثَّلاث عندنا ليس بلازم، بل هو مُفوَّضٌ إلى غالب رأيه وأكبر ظنِّه”.[3]
فالحديثُ الذي اعتمده الحنفيَّةُ ضعيفٌ،[4] لكنَّهم أخذوا هذا الحديثَ لأنَّه يوافقُ مذهبَهم.
المُريد : عجيبٌ جدَّاً!
بايندر: والأعجبُ منه آراءُ المالكيَّة، فمالك لم يكن يشترط أن يُغسَلَ الإناءُ الذي يلغ فيه الكلبُ، وسُئِلَ عن هذا الحديث فكان جوابه أن قال: “قد جاء هذا الحديثُ وما أدري ما حقيقتُه؟”.[5]
المُريد : أهذا قولُه؟
بايندر : نعم، ولهذا أريدُ أن أشرحَ هذا الأمر، إنَّ الله قد جَعَلَ القرآن الكريم هو النصَ الوحيد المحفوظ الذي يرجع إليه المسلمون في منازعاتهم، وكذا السُّنن العمليَّة كأوقات الصَّلوات الخمس وركعاتها وكيفية أدائها مما بلغنا دون شبهة في النقل، كل هذا متواتر لا يصحُّ الجدالُ فيه، وكذلك ما بلغنا بهذا الطريق من الحلال والحرام، وأمَّا غير هذا فيقع فيه الخلافُ بينهم.
المُريد : تعني إذاً أنَّ ما عدا ذلك كلَّه يجوزُ للفقهاء الاختلافُ فيه على حسب اجتهادهم؟
بايندر : دون شكٍّ، فللمسلمين هذا المجال العلميُّ الرَّحب إذا لم يتعدوه، ولنكمل مسألةَ غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلبُ، هذا الحديثُ صحيحٌ، ولكنَّ الله تعالى قال في شأن الكلب: «وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (المائدة، 5/4).
والكلبُ يعضُّ حيوانَ الصَّيد، ويصلُ إليه لعابُه حتماً، والآيةُ حين لم تأمر بغسل الموضع الذي أمسَكَ به الكلبُ ظهر أنَّ أقربَ الآراء إلى الصَّواب رأيُ المالكيَّة وإن كانت فيه مخالفةٌ تامَّةٌ للحديث المذكور.
[1] مقدمة مختصر شرح صحيح البخاري لأحمد نعيم، نسخة مترجمة إلى التركية، 1/103-105، أنقرة 1979م.
[2] البخاري، الوضوء33؛ مسلم، الطهارة 89، 91-93؛ أبو داود،الطهارة37؛ الترمذي، الطهارة 68؛ النسائي، الطهارة 50-52، المياه 7-8؛ إبن ماجه، الطهارة31؛ الدارمي، الوضوء 59؛ أحمد ابن حنبل2/245، 253، 265، 271، 341، 360، 398، 424، 427، 480، 482، 508، 4/86، 5/56.
[3] بدائع الصنائع لعلاء الدين الكاساني، 1/87-88، بيروت.
[4] نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية لعبد الله بن يوسف الزيلعي (-762هـ)، 1/132-133، القاهرة.
[5] المدونة الكبرى، مالك بن أنس 1/5، مصر.
أضف تعليقا