24. الرَّابطة
بايندر: ثمَّ إنَّ فيكم شيءٌ تُسمُّونه بـ “الرَّابطة”.
الشَّيخ أفندي : نعم صحيح. والمقصودُ من الرَّابطة أن يتخيَّلَ المُريدُ روحانيَّةَ المُرشد الكامل ويستحضرَ صورتَه أمام عيني قلبه، ثمَّ يستعين به بقلبه.
بايندر: إذا كان فهمي صحيحاً، فأنتم تقصدون أنَّ المُريد يرى شيخَه في الدَّرجات العالية، ويراه صاحبَ عدَّة تصرُّفات أُذِنَ له فيها، ويعدُّ نفسَه في مرتبةٍ دنيئةٍ، ثمَّ يتخيَّلُ شيخَه بين عيني قلبه، فيستعينُ به، وهذا كلُّه يصنعه في غيبة شيخه، أليس كذلك؟
الشَّيخ أفندي : انظر جيِّداً، نحنُ لم نبتدع هذا الفعلَ من عند أنفسنا، يقول الشَّيخ محمد خالد في الرِّسالة الخالديَّة: “أعلى درجةٍ في الرَّابطة هي أن ينظُرَ المُريدُ بما بين عينيه من خزينة خياله إلى وجه بل إلى ما بين عيني روحانيَّة المرشد، لأنَّ مصدرَ الفَيض هناك. ثمَّ يذلُّ نفسَه ويضعُ من شأنها أمام المرشد غاية الضِّعة مُتضرِّعاً ومُتَّخذاً إيَّاه وسيلةً بينه وبين الله، ثمَّ يدخلُ في خزينة خيال روحانيَّة المُرشد ويُفكِّرُ رويداً رويداً فيما ينزلُ على قلبه، ويحرصُ على ألَّا يغيبَ خيالُ شيخه عن عينيه، شاغلاً خيالَه بما يتعقَّبُه ممَّا يفيضُ وينزلُ عليه إلى أن يرجعَ إليه وعيُه”.
بايندر: لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله! هل تأتون بدليلٍ تعتمدون عليه في هذا؟
الشَّيخ أفندي : بلى، عندنا دليلٌ؛ فأبو بكر رضي الله عنه اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه لا يجدُ مكاناً لقضاء حاجته، فرخَّصَ له رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ذلك.
بايندر : تعنون أنَّ أبا بكر رضي الله عنه – وهو يقضي حاجتَه– كان يسترُ روحانيَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويتخيّلُ صورتَه أمام عيني قلبه ويستمدُّ منه العونَ بقلبه؟
المريد : لا، ليس هذا. نحن نقصدُ أنَّ أبا بكر رضي الله عنه حتَّى وهو يقضي حاجتَه كان لا يغيب عنه خيالُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بايندر: خيالُ المحبوب في حال كان الحبُّ مُفرِطاً فإنَّه لا يذهب عن عيني المحب، وكذلك يصفُ الشَّاعرُ نفسَه مع حبيبته التي لا تفارق خيالَه وفكرَه ليلَ نهار، وهذا أمرٌ معقولٌ وواضحٌ جدَّاً.
وأنتم تقولون إنَّ أبا بكر رضي الله عنه لا يغيبُ عن فكره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتَّى أثناء قضاء حاجته لفرط محبَّته إيَّاه. فالرَّابطة التي عرَّفتموها، ما علاقتها بهذا؟
وتزعمون أنَّ روحانيَّة الشَّيخ تأتي المريد أثناء الرَّابطة، ومن أين تأتي روحانيَّة الشَّيخ إلى المريد حتَّى يستعينَ بها؟
الشَّيخ أفندي : دليلُ ظهور الرُّوحانيَّة موجودٌ، كما نفهمُ ذلك من قوله تعالى في سورة يوسف: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ» (يوسف، 12/24).
وقد تحدَّثَ كثيرٌ من المُفسِّرين في تفسير هذه الآية عن قدرة الأولياء وتصرُّفاتهم وإمداداتهم، من هؤلاء المُفسِّرين صاحبُ الكشَّاف – بالرَّغم من ضلالته واشتغاله بآراء المعتزلة – فهو يذكرُ في معنى البُرهان “أنَّه مَثَلَ له (ليوسفَ) يعقوبُ عاضَّاً على أنملته وقال له: إيَّاكَ وتلك المرأة”.
بايندر : يبدو أنَّكم لم تقرؤوا تفسيرَ الكشَّاف أبداً، وإلَّا لَمَا ذكرتُم هذا الكلامَ مُطلقاً. ففي سورة يوسف بيانُ ما صنعت “زليخا” لتجتمعَ بيوسُفَ عليه الصَّلاة والسَّلام: « وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ » (يوسف، 12/24).
وبعد أن بيَّنَ صاحبُ الكشَّاف المعاني المقصودةَ من كلمة «البرهان» المذكورة في الآية قال: وفُسِّرَ البرهان بأنَّه سمِعَ صوتاً: إيَّاكَ وإيَّاها، فلم يكترثْ له، فسمعه ثانياً فلم يعملْ به، فسمع ثالثاً: أعرضْ عنها، فلم ينجعْ فيه حتَّى مثلَ له يعقوب عاضَّاً على أنملته. وقيل ضَرَبَ بيده على صدره فخرجتْ شهوتُه من أنامله. وقيل: كلُّ ولد يعقوب له اثنا عشر ولداً إلَّا يوسف، فإنَّه ولد له أحد عشر ولداً من أجل ما نقص من شهوته حين هم، وقيل: صيح: يا يوسف، لا تكن كالطَّائر كان له ريش، فلمَّا زنى قعدَ لا ريشَ له. وقيل: بدت كفٌّ فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم، مكتوبٌ فيها « وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ » (الانفطار، 82/11) فلم ينصرفْ، ثمَّ رأى فيها « وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا» (الإسراء، 17/32) فلم ينته، ثمَّ رأى فيها «وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» (البقرة، 2/281) فلم ينجعْ فيه، فقالَ اللهُ لجبريل عليه السَّلام: أدركْ عبدي قبل أن يُصيبَ الخطيئةَ، فانحطَّ جبريلُ وهو يقول: يا يوسف، أتعملُ عملَ السُّفهاء وأنتَ مكتوبٌ في ديوان الأنبياء؟ وقيل: رأى تمثال العزيز. وقيل: قامت المرأةُ إلى صنمٍ كان هناك فسترتْه وقالت: أستحيي منه أن يرانا، فقال يوسف: إستحييت ممَّن لا يسمعُ ولا يُبصرُ، ولا أستحيي من السَّميع البصير العليم بذوات الصُّدور؟ وبعد ذكر هذه الأقوال يقول صاحب الكشَّاف: وهذا ونحوه مما يُورده أهلُ الحشو والجبر الذين دينُهم بَهت الله تعالى وأنبيائه”.[1]
كما أنَّكم لو فكَّرتُم قليلاً لتبيَّنَ لكم أيضاً أنَّ هذه الأقوالَ تُخالفُ آيةً أُخرى في نفس السُّورة؛ قالَ تعالى: « وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ» (يوسف، 12/84).
حَدَثَ هذا بعد أن جاء إخوةُ يوسُف من مصر، وآوى إليه أخاه بعد أن اتُهِمَ بالسَّرقة، ولو أنَّ يعقوبَ عليه السَّلام كان قد عَلِمَ بحال ابنه بنيامين أكانَ سيحزنُ عليه كلَّ هذا الحزن؟ فالرَّجاءُ منكم ألَّا تأتوا بمثل هذا الافتراء لتستدلُّوا به على الرَّابطة، وحتَّى لا تُوقِعوا أنفسَكم في ضلالٍ أكبر.
الشَّيخ أفندي : يقولُ فضيلةُ الشَّيخ عبيد الله الأحرار السمرقنديِّ في تفسير قوله تعالى: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» (التوبة، 9/119): لا شكَّ أنَّ كونَك مع الصَّادقين يقتضي أن تكونَ معهم صورةً ومعنى، ثمَّ فسَّرَ المعيَّةَ المعنويَّةَ بالرَّابطة والسَّعادة، حتَّى تبيَّنَ لأرباب التصوُّف أنَّ هذا العمل المذكور مشروع.
بايندر : ماذا تقصدون بأن تكون مع الصَّادقين صورةً ومعنى؟ إنَّك إذا كنتَ تشاركُ شخصاً شعورَك وفكرَك تتبعه في سيرته فأنتَ معه، وإلَّا فإنَّكَ لستَ معه ولو كنتَ قريباً منه ببدنك، هذا هو الذي يُفهمُ في هذا المقام، فما صلته بالرَّابطة؟
وبعضُ الشُّيوخ يُوزِّعون صورَهم على مُريديهم ويأمرونهم بالنَّظر إليها أثناء ممارسة الرَّابطة، فهل تفعلون أنتم هذا؟
المريد : نحنُ لا نفعلُ شيئاً من هذا، فقد حرَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصُّور.
بايندر: لو لم يُحرِّمها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أكنتُم ستفعلون ذلك؟
المُريد : ربَّما فعلناه، لأنَّ النَّظرَ إلى صورة الشَّيخ أيسرُ من تخيُّله بعين القلب، وحينئذٍ يكون قد رأى صورةَ شيخه بعين رأسه.
بايندر: ولو افترضنا أنَّ التماثيل لم تُحرَّم في ديننا أكنتُم تصنعون لشيخكم تمثالاً تستعملونه في الرَّابطة؟
المريد : لكنَّ التماثيل مُحرَّمة.
بايندر: هَبْ أنَّها لم تُحرَّم.
المُريد : لعلَّنا كنَّا سنفعلُ ذلك أيضاً ، ولربَّما وُجِدَ في بيت كلِّ مريدٍ تمثال شيخه.
بايندر: في هذه الحال إذاً كان المريدُ سيقفُ أمام تمثال شيخه ممارساً الرَّابطة ومُستعيناً بروحانيَّته، مُذلَّاً نفسَه ومُتواضعاً له كلَّ التَّواضع، متضرِّعاً إليه.
وماذا صَنَعَ الذين عبدوا الأصنام غيرَ هذا؟ ارفع التِّمثالَ وضعْ مكانَه خيالَ الشَّيخ، فأيُّ فرقٍ سيظهرُ لك؟ والذين عبدوا الأشجارَ والأحجارَ لم يكونوا ينتظرون منها قضاءَ الحاجات، وإنَّما يسألون قضاءها بما تُمثِّلُه من الرُّوحانيَّة.
ولعلَّ هذه الآيةَ تُبيِّنُ لكم حكمَ هذه الرَّابطة كما عرَّفتموها بأنفسكم: « أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» (الزمر، 39/3).
هذه الآيةُ تُذكِّرُنا بمعنى الشِّرك في القرآن.
أضف تعليقا