مفهوم الإسلام كما جاء في القرآن
أ. في اللغة:
الإسلام في اللغة: هو الإستسلام والإنقياد. قال أبو بكر محمد بن بشار: يقال فلان مسلم وفيه قولان: أحدهما هو المستسلم لأمر الله، والثاني هو المخلص لله العبادة، من قولهم سلم الشيء لفلان، وسلم له الشيء أي خلص له.[1]
والإسلام كذلك هو الدخول في السلم.[2] وهو أن يسلم كل واحد منهما أن يناله من ألم صاحبه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.[3] ومصدر أسلمت الشيء إلى فلان إذا أخرجته إليه. ومنه: السلم في البيع.[4]
ب. في الشرع:
والإسلام في الشرع على ضربين: أحدهما دون الإيمان وهو الإعتراف باللسان، سواء حصل معه الإعتقاد أو لم يحصل. وإياه قصد بقوله تعالى: «قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (الحجرات، 49 / 14).
والثاني: الإيمان. وهو أن يكون مع الإعتراف باللسان، اعتقاد بالقلب. ووفاء بالعمل، واستسلام لله تعالى في جميع ما قضى. كما جاء في دعاء يوسف عليه السلام في قوله تعالى: «أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» (يوسف، 12 / 101). أي اجعلني ممن استسلم لرضاك، ويجوز أن يكون معناه: اجعلني سالما عن أسر الشيطان حيث قال: «قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» (الحجر، 15 / 39 – 40). وكما في قوله تعالى: «وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» (النمل، 27 / 81). «وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» (الروم، 30 / 53). أي منقادون للحق ومذعنون له.
وكما في قوله تعالى: « إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ..» (المائدة، 5 / 44). أي يحكم بها الأنبياء الذين انقادوا لحكم ربهم في التوراة وأسلموا وجوههم لربهم مخلصين له الدين.
وهذا النوع الثاني هو التسليم الكامل المطلق لله تعالى رب العالمين. وهو المقصود في قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (الأنعام، 6 / 162).
وقوله تعالى: «وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا» (الأحزاب، 33 / 22).
وقوله تعال: « فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» (النساء، 4 / 65).
وهو المقصود كذلك فيما كان يحث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في كل حركاتهم وسكناتهم وأقوالهم وأفعالهم.
بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل هذا التسليم المطلق لله رب العالمين آخر كلامه قبل نومه وكان يعلم أصحابه بنفسه هذا التسليم.[5]
فعن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت)، فإن مت مت على الفطرة، فاجعلهن آخر ما تقول.
قال: فقلت أستذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت. قال: لا، وبنبيك الذي أرسلت.[6]
ورود الإسلام في القرآن الكريم
وردت كلمة “الإسلام” بلفظها في القرآن الكريم أحيانا وبلفظ أخرى من مادتها واحد وثمانون مرة تقريبا.[7] وهي في كل هذه المرات تدور حول ثلاثة أوجه:
الأول: الإسلام بمعنى الاخلاص.[8] كما في قوله تعالى: « إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ» (البقرة، 2 / 131).
وقوله تعالى: « وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ» (لقمان، 31 / 22). أي يخلص دينه لله.
الثاني: الاعتراف باللسان.[9] كما في قوله تعالى: «قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (الحجرات، 49 / 14). يعني اعترفنا باللسان فقط.
الثالث: التسليم الكامل والمطلق لله رب العالمين.[10] وذلك يجمع الإعتراف باللسان، والتصديق بالقلب، والوفاء بالفعل، والإستسلام لله تعالى في جميع ما قضى وقدر. كما ذكر الراغب الأصفهاني.
كما في قوله تعالى: « بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (البقرة، 2 / 112). وكما في قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (الأنعام، 6 / 162).
الإسلام هو الدين الحق
نعم الإسلام هو الدين الحق. الذي لا يُقبل من أحد سواه. يقول الله تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» (آل عمران، 3 / 85).
حتى ولو كان هذا الدين هو اليهودية أو النصرانية. فإنه لا يقبل إلا الإسلام، لأنه الدين الحق المصدق لما قبله من الشرائع. «وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (البقرة، 2 / 135). ومن يرد الهداية فهي في هذا الدين، وليست في سواه. «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ» (الأنعام، 6 / 125).
ومن شرح الله صدره لهذا الدين فهو على نور من ربه وهداية في سيره ونجاح في سعيه. «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» (الزمر، 39 / 22). وقد وسعت رحمة الله كل شيء، وقد تجلت رحمته للبشرية أن أبان لها الدين الحق الذي فيه نجاتها وعصمتها حبا بهم وحرصا على هدايتهم كي يتبعوا ويلتزموا منهجه وينبذوا ما سواه. يقول الله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلام» (آل عمران، 3 / 19).
بل أعلمنا أن رضيه لنا دينا وأتمه علينا نعمةً منه تعالى. «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» (المائدة، 5 / 3).
الإسلام دين الجميع
ليس الإسلام دينا حديثا كما يتبادر لبعض الأذهان، بل هو قديم قدم البشرية نفسها. وليس دينا خاصا بطائفة من الناس ولا بأمة من الأمم. في القديم أو الحديث أو المستقبل ينتهي بإنتهائهااوتتلاشى رسالته بزوالها وانقراضها، بل هو دين عالمي للدنيا كلها إلى يوم الدين.
فهو دين الأنبياء جميعا.
وقد صرح القرآن في آياته الكريمة ببعض هؤلاء الأنبياء.
فقال عن نوح عليه السلام: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ» (يونس، 10 / 71).
وقال عن إبراهيم عليه السلام وأبنائه: «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (البقرة، 2 / 130-132).
وقال عن لوط عليه السلام: «قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ. فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (الذاريات، 41 / 31-36).
وقال عن يعقوب عليه السلام: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (البقرة، 2 / 133).
وقال عن سليمان عليه السلام: «قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ. فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (النمل، 27 / 41-42).
وقال عن محمد صلى الله عليه وسلم وهو يخاطبه: «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (آل عمرا، 3 / 84). يعني به: قل لهم يا محمد: صدقنا بالله أنه ربنا وإلهنا.. و.. و.. “ونحن له مسلمون” يعني: ونحن ندين لله بالإسلام لا ندين بغيره بل نتبرأ إليه من كل دين سواه، ومن كل ملة غيره.[11]
وهو كذلك دين الناس جميعا قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم.وقد صرح القرآن الكريم في آيات ببعض من اهتدى واسلم من هؤلاء.
فقال عن سحرة فرعون: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ. وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ. قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ. قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ. قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ. وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ» (الأعراف، 7 / 117-126).
وقال عن بعض أهل الكتاب: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ» (القصص، 28 / 52-55). ويقول الإمام بن كثير معقبا على هذه الآيات: يخبر الله تعالى عن العلماء الأولياء من أهل الكتاب، أنهم يؤمنون بالقرآن كما قال تعالى: «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ» (آل عمران، 3 / 199). وقال تعالى: «قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا. وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (الإسراء، 17 / 107-108). وقال تعالى: «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (المائدة، 5 / 82-83). قال سعيد ابن جبير نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم «يس والقرآن الحكيم» حتى ختمها فجعلوا يبكون واسلموا، ونزلت فيهم هذه الآية كذلك: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ» (القصص، 28 / 52). الآيات، يعني من قبل هذا القرآن كنا مسلمين أي موحدين مخلصين لله مستجبين له.
وقال عن بلقيس ملكة سبا: « قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (النمل، 27 / 44).
وقال عن حواري عيسى عليه السلام: « فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (آل عمران، 3 / 52).
وقال عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» (الحج، 22 / 77-78).يقول الإمام القرطبي: أي من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس سماكم الله عز وجل المسلمين من قبلي في الكتب المتقدمة، (وفي هذا) القرآن.[12]
وقال عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم مخاطبا إياها: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (البقرة، 2 / 136). يقول الإمام القرطبي الخطاب في هذه الآية هذه للأمة.[13]
ولا يقتصر الأمر على البشر وحدهم في الإسلام لله رب العالمين، إذ إنه دين الجن كذلك. يقول الله تعالى على لسان بعض الجنّ: «وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا. وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا» (الجن، 72 / 14).بل الأمر أبعد من الإنس والجن بالنسبة للإسلام.إذ يخبرنا القرآن الكريم أنه دين كل من في السموات والأرض. يقول الله تعالى: «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» (آل عمران، 3 / 83).
يقول الإمام القرطبي: «وله أسلم» أي استسلم وانقاد وخضع وذلَّ ، وكل مخلوق فهو منقاد مستسلم لأنه مجبول على ما لا يقدر أن يخرج عنه.[14] وقال قتادة: أسلم المؤمن طوعا والكافر عند موته كرها ولا ينفعه ذلك لقوله تعالى: «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ» (غافر، 40 / 85).
وقال مجاهد: إسلام الكافر كرها بسجوده لغير الله، وسجود ظله لله تعالى: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ» (الرعد، 13 / 15).
وبهذا يتبين جليا أن الإسلام:
ليس بالدين الحديث في تاريخ البشرية.
كما أنه ليس دينا خاصا بطائفة من الناس أو أمة من الأمم.
ومن جهة ثانية: ليس قاصرا على زمان بعينه أو بيئة محددة.
وكذلك ليس خاصا بالبشر وحدهم فقد رأيناه يشمل الإنس والجن معا وصدق الله العظيم: « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (الجن، 51 / 56).
وأخيرا ليس خاصا بالجن والإنس فقط بل كل من في السموات والأرض مسلم أسلم وجهه لله تعالى.
[2] الاصفهاني، المفردات كتاب السين.
[3] رواه أيضاً الإمام أحمد من حديث أبي هريرة ، جـ. 2 صـ . 379 رقم الحديث 8918.
[4] الاصفهاني، المفردات كتاب السين.
[5] أنظر: صحيح البخاري كتاب الدعوات باب النوم على الشق الأيمن.
[6] البخاري، كتاب الدعوات باب إذا بات طاهرا.
[7] المعجم المفهرس للقرآن الكريم مادة “سلم”.
[8] أنظر: قاموس القرآن للدامغاني مادة “سلم” ص. 244.
[9] أنظر: الاصفهاني مفردات القرآن كتاب “السين”؛ قاموس القرآن، مادة: “سلم”.
[10] أنظر: الاصفهاني مفردات القرآن كتاب “السين”.
[11] أنظر: جامع البيان، جـ . 3 / صـ .338.
[12] تفسير القرطبي، جـ 12 / صـ . 101.
[13] أنظر: الجامع لأحكام القرآن، جـ . 2 / صـ 140.
[14] أنظر: الجامع لأحكام القرآن، جـ . 4 / صـ 138.
أضف تعليقا