مقدمة:
علاقة الكتاب بالسنة، وفهم تلك العلاقة بشكل صحيح، لا إفراط فيه ولا تفريط، من أهم ما ينبغي على المسلم تعلُّمه. لقد اختلف المسلمون في وجهة نظرهم إلى السنة وعلاقتها بالقرآن الكريم، فمِن قائل بكونها مصدرا مستقلا للتشريع كالقرآن تماما إلى قائل بعدم لزومها لأن الله تعالى أنزل القرآن تبيانا لكل شيء.. وما يجعل كلا الفريقين يتشدد بوجهة نظره هو عدم فهم العلاقة بين الكتاب والسنة، وهو ما نريد أن نوضحه في هذه الصفحات.
تعليم رسول الله الحكمة
الحكمة مصدر نوع من الحكم. والحكم إما صحيح وإما فاسد، فالحكمة هي الحكم الصحيح. قال تعالى:
«إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ …» (النساء 4/105)
فالحكمة هي حكم النبي بالكتاب بمنهج أراه الله إياه.
وهذه الحكمة قد أنزلها على رسوله مع الكتاب. قال الله تعالى:
«وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ» (النساء 4/113)
فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه،[1] فالمِثْلُ هو الحكمة.
وقد كلف اللهُ تعالى الرسولَ صلى الله عليه وسلم بتعليم الكتاب والحكمةِ بقوله :
«هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ» (الجمعة، 62 / 2)
وبتلاوته الآيات وتبليغها للناس . قال الله تعالى :
«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ» (المائدة، 5 / 67)
وكان يجب عليه أن يبلغ الكتاب ويبينه للناس.
قال تعالى:
«وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (النحل، 16 / 44).
وهذا ليس تفسير النبي للكتاب إنما هو تبليغه. والذكر هنا هو القرآن، وهو نفس الذكر الذي أُنزل على النبيّين من قبل، لذلك سمى الله أهل الكتاب بأهل الذكر في الآية التي قبلها:
«وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (النحل، 16 / 43).
فبلغهم الرسول أن الكتاب الموجود عند أهل الكتاب ليس كل ما أنزله الله إليهم، فقال تعالى:
«يا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ» (المائدة، 5 / 15)
وهذا النوع من التبيين كلَّف به الله كل من آمن بكتابه بقوله :
«وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ» (آل عمران، 3 / 187)
وبقوله:
«إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» ( البقرة، 2 / 159).
فالتبيين في هذه الآيات هو التبليغ بغير كتم شيء من الكتاب.
وأما تعليم النبي الكتاب والحكمة فهو تطبيق الكتاب بنصه وأحكامه بين الناس ليكون سببَ التزكية والتنمية والرقي في المجتمع الإسلامي. والأحكام التي استنبطها النبي قد لا توجد في نص الكتاب صراحة، وإنّما هي كالمعادن في التراب لا يراها إلا المتخصصون، وهذه المعادن مخلوقة مع الأرض كالحكمة التي أنزلت مع الكتاب. ونضرب لذلك مثالا:
قال النبي صلى الله عليه و سلم “اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْي”[2]
وهذا الحكم بوجوب السعي لا نراه في الكتاب صريحا، قال الله تعالى:
«إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَبِهِمَا» (البقرة 2/158)
قال الشافعي: ولا يُستعمل “لا جناح” الا في المباح كقوله تعالى “ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم” وقوله تعالى “لا جناح عليكم إن طلقتم النساء” “ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء” “ليس عليكم جناح ان تأكلوا جميعا أو اشتاتا”[3]
فظن الشافعي أن حكم الكتاب في السعي الأباحةُ وحكمَ السنة الوجوب، وهذه مخالفة بينة، فأخذ الشافعي بالسنة وقال : إن السعى بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج لا يصح إلا به و بهذا قال مالك وأحمد واسحاق وأبو ثور.[4] وهم بذلك تركوا الكتاب وأخذوا بالسنة وجعلوها قاضية على الكتاب.
والحقيقة أنّ قول النبي هو حكمة استنبطها من الكتاب.
روى البخاري عن عَاصِم أنه قَالَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا» فبينت الآية أن السعي ليس من شعائر الجاهلية فلا جناح على من سعى، وقد ظهر أن الحجاج والمعتمرين قد نقص من مناسكهم السعى، لأن هذه الآية نزلت في حجة الوداع[5]وكان قد أنزل قبلها: «وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ» (البقرة، 2 / 196) عام الحديبية[6] ولكن معنى الإتمام كان غير واضح ولم يقل النبي شيئا في السعي حتى نزلت آية السعي. لأنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن لا ينطق بالحكم قبل تمام نزول الآيات المتعلقة به امتثالا لأمر الله تعالى له: «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَنيُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا» (طه، 20 / 114).
والقرآن هنا مجموعة من الآيات لأنه من قرأ أي جمع وقَرَأتُ الشيء قرآنا، جمعته وضممت بعضه إلى بعض. قال أبو عبيدة: سمِّي بالقرآن لأنه يجمع السُّوَرَ فيضمها.[7] فمعنى «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ» أي بالحكم بالآيات المتعلقة بموضوع «مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» أي قبل أن يتم إنزال الآيات في هذا الموضوع. فلما نزلت الآية ظهر أن النقصان الذي أمر الله بإتمامه في آية الحديبية هو السعي فقال النبي : “اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْي“[8] وكان هذا حكمة الكتاب التي استنبطها الرسول وعلمها.
يروى عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلَا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ»[9]
والموافقة بين كلمات أمنا عائشة وبين الآية تشير إلى أن الصحابة أو بعضهم كانوا يعرفون هذه الموافقةَ. وهذا هو المراد من قوله تعالى :
«إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ …» (النساء، 4 / 105).
ولما كانت السنة حكمة استنبطها النبي من الكتاب كان التشابه موجودا بينها وبين القرآن أي الآيات المتعلقة بها، ولا يصل إلى هذا إلا من سلك المنهج الذى أراه الله لنبيه.
ونجد أن عامة العلماء لم يسلكوا هذا المسلك، فظنوا أن هناك مخالفة بين الكتاب والسنة كما كان في مسألة السعي.
فيأتي بعدها سؤال وهو : إذا كانت السنة تخالف الآية فمن أين عرف النبي هذا الحكم وقال به في حجة الوداع ؟ فكان هذا سبب خطأ آخر لأنهم قالوا: إن السنة وحي غير متلو لأنه لا يتعبد بتلاوتها، وقد أخذوا هذه الآية دليلا على ما ذهبوا إليه:
«وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى» (النجم، 53 / 3-4).
لكنهم لم يأخذوا بالآيات التالية لها مباشرة :
«عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى …» (النجم، 53 / 5-7).
وهذه الآيات تخبر عن إنزال الوحي الأول الذي جاء به جبريل. ولما تركوا الكتاب وحكموا بالسنة كما كان في مسألة السعي قالوا : (السنة قاضية على الكتاب) فأصبح التابع متبوعا فتتابعت الأخطاء.
والحق أن السنة ليست مصدرا مستقلا عن القرآن، بل هي تابعة له وحكم صحيح مستخرج منه. قال تعالى:
«اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (الأنعام، 6 / 106).
فلا يجوز التفريق بين التابع والمتبوع، وليس للتابع حكم مستقل عن المتبوع، فيجب أن نفعل كما فعل الرسول ونجمع كل الآيات المتعلقة بموضوع ونصل إلى قرآن أي مجموعة من الآيات المتعلقة به. وفي نفس الوقت نأتي بالسنة في هذا الموضوع ونجد الموافقة التامة بينهما ونستخرج به الأحكام الموجودة في الكتاب. فيكون النبي أسوة حسنة لنا، قال تعالى:
«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» (الأحزاب، 33 / 21).
ومن أجل هذا يجب التَأنِّي في موضوع السنة، والبحث عما يرتبط بها من آيات القرآن الكريم. وبهذا المنهج يمكن التحرز من الأحاديث الموضوعة.
فيفهم من الآيات أنّ التبيين هو تبليغ آيات الكتاب تبليغا تاما دون زيادة أو نقصان، ويشمل ذلك تعليم الناس ما أوحي إليهم. فالتبليغ هو وظيفة النّبي وكل مسلم. وأما استخراج الأحكام من الكتاب فله منهج خاص مبيّن في الكتاب سلكه النبي واستخرج به الأحكام كاستخراج المعادن من الأرض. ويجب على العلماء أن يسلكوا هذا المسلك ويستخرجوا حكم الكتاب، وبهذا يمكنهم أن يحلوا كل المشكلات التي يواجهها الناس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سنن أبي داوود، باب لزوم الجماعة، حديث رقم (3988)
[2] سنن أحمد بن حنبل (جـ 6 صـ 421)
[3] المجموع شرح المهذب – (ج 4 / ص 339)
[4] شرح النووي على مسلم – (ج 9 / ص 20)
[5] وروي مسلم قول عائشة : إِنَّمَا أُنْزِلَ هَذَا فِي أُنَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانُوا إِذَا أَهَلُّوا أَهَلُّوا لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَطَّوَّفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا قَدِمُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَجِّ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ . صحيح مسلم – (ج 6 / ص 372).
[6] تفسير ابن كثير – (ج 1 / ص 532)
[7] الصّحّاح في اللغة، مادة قرأ
[8] سنن أحمد بن حنبل (جـ 6 صـ 421)
[9] صحيح مسلم – (ج 6 / ص 371)
أضف تعليقا