أ.د عبد العزيز بايندر
الحج من أركان الإسلام الخمسة، وهو واجب على المسلم القادر مرة واحدة في حياته وما زاد فهو نافلة، والحج رحلة المسلم إلى المكان الأقدس لدى المسلمين يجتمعون فيه من شتى البقاع، وهو بلا ريب مؤتمر عظيم تظهر فيه وحدة المسلمين وانتماؤهم لهذا الدين.
ولما كان هذا الدين مُنظِما لعلاقة الإنسان بربه وعلاقته ببني جنسه، جاء الحج ليؤكد مقصد الدين بإقامة حياة مسلمة يتجلى فيها التزام المسلم بعبادة الله تعالى وإقامة شؤون الحياة من تجارة واجتماع وغيره على هدي منه سبحانه، قال الله تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ. ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (الحج، 22 / 27-29).
نلاحظ أنّ الآيتين السابقتين تلفتان النّظر إلى نقطتين هامتين: إحداهما؛ المنافع التي يكسبها الحاج أثناء الحج. والأخرى المناسك التي يقوم الحاج بأدائها في مكة المكرمة من شعائر الحج. فهما منفعتان الأولى دنيوية والثانية أخروية. وقد أشير إلى هاتين النّقطتين بقوله تعالى: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ» (البقرة، 2 / 198).
وعن بن عباس رضي الله عنه قال: (إن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحج فخافوا البيع وهم حرم فأنزل الله سبحانه « لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ»).[1]
وقد استمر النشاط في تلك الأسواق بعد الإسلام. وسوق عكاظ كان أول سوق ألغي منه النشاط التجاري في عهد الخوارج سنة 129 هـ.[2]
فأيام الحج تأتي في منتصف الأشهر الحرم التي يأمن فيها الكل على نفسه وماله. والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وفي يوم التاسع من ذي الحجة يصعد الحجاج إلى عرفات، وتستمر مناسك الحج حتى اليوم الثالث عشر من هذا الشهر. وشهر رجب من الأشهر الحرم، فيكون مجموع الأشهر الحرم أربعة أشهر. قال الله تعالى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (التوبة، 9 / 36).
وقد بدأت مناسك الحج بنداء إبرهيم عليه الصلاة والسلام. وقد بذلت قريش من أموالها وأولادها لتبقى الكعبة مفتوحة للعبادة.وقاموا بتقديم الخدمات المختلفة لحجاج بيت الله الحرام. ولم تهمل الأنشطة التجارية في مواسم الحج، حيث كان يقام سوق عكاظ بقرب من عرفات من اليوم الأول إلى اليوم العشرين من ذي القعدة. وسوق ذي المجاز بالقرب من منى في أيام التروية، أي من اليوم الأول إلى اليوم التاسع من ذي الحجة. ثم يذهبون إلى منى، حيث تبدأ هناك مناسك الحج. ولم تكن الأسواق مقتصرة على التبادل التجاري فحسب، وإنّما كان يعقد فيها المسابقات الشعرية كذلك.
وقد اشترك النّبي صلى الله عليه وسلم في الأنشطة التي تجرى فيها، وأصحابه بعد وفاته كذلك. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينتهز فرصة مواسم الحج فيدعو الناس للإيمان بالله وترك عبادة الأوثان، وفي العام الحادى عشر من البعثة النبوية جاءت وفود من قبيلتى الأوس والخزرج، وهما من أكبر القبائل فى المدينة , فلما قدموا استمعوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدقوه، وفى العام الثاني عشر عادت هذه الجماعات الصغيرة بعدما أخبروا قومهم بما سمعوا ورأوا , فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم البيعة الأولى , و سُميت ببيعة العقبة الأولى , و طلبوا منه أن يرسل معهم تلميذه مصعب بن عمير رضي الله عنه ليعلمهم القرآن الكريم .
وكان الخليفة عمر رضي الله عنه يجمع الحكام في مكة المكرمة في موسم الحج، ويتشاور معهم في شؤون المسلمين لدى جمع كثير ممن جاؤوا إلى مكة المكرمة من أمصار مختلفة، ويستمع إلى شكواهم، ويبحث معهم عن الحلول.
قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (التوبة، 9 / 28).
نزلت هذه الآية في العام التاسع للهجرة وفيها أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بمنع المشركين من دخول المسجد الحرام، والطواف بالكعبة، بعد نزول هذه الآية؛ لعدم طهارتهم. لذلك أمر رسول الله أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، وكان من عادة المشركين أن يطوفوا عراة. يقول الله تعالى للمؤمنين: إذا خفتم بوار تجارتكم، وقلة أرزاقكم، بسبب انقطاع مجيء المشركين إلى مكة، فسوف يغنيكم الله من فضله عن ذلك، وسيعوض عليكم أفضل من ذلك بفضله وكرمه إن شاء، والله عليم بما فيه الخير والمصلحة، حكيم فيما يشرعه ويقرره.
والأحكام المتعلقة بالأشهر الحرم مستمرة إلى أن تقوم الساعة. وقد أمر الله تعالى أن لا تنتهك حرمة الأشهر الحرم بالقتال والعدوان. وقد أصبح الآن هذا الأمر منسيا، وعلينا أن نعيده إلى ما كان عليه في عهد النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بفتح الأسواق في الأشهر الحرم خارج حدود مكة المكرمة.
وقد أمرنا الله تعالى بعد أن منع المشركين من دخولهم مكة المكرمة منح الأمان المشروع لهم، حيث قال تعالى: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ» (التوبة ، 9 / 6).
وقد فتح اللّه باب الأمل أمامهم، فسمح لهم بالمجيء إلى ساحة القرآن والوحي الإلهي ليفكروا فيما أنزل اللّه، عن طريق منح الأمان المشروع لكل طالب سماع كلام اللّه.
كما ينبغي توفير هذه الفرصة للمسلمين أنفسهم لأنه ليس لديهم ما يكفي من العلم في القرآن الكريم.
كما ينبغي تفعيل ما توصلت له البشرية من أساليب تعليمية وتعبوية تهدف إلى تعريف الناس بالإسلام وتعمق إنتماء المسلمين لكتابهم ودينهم بإقامة النشاطات الثقافية؛ كتوزيع الجوائز تحت اسم “جائزة مكة المكرمة” لمن قام باكتشاف أو اختراع يسهم في التطور الإنساني، حتى تصبح مكة المكرمة مركزا تهوي إليها القلوب من كل ناحية وصوب.
الإنسان حر في قبوله الإسلام، فلكل طريقته الخاصة في حياته اليومية. وما علينا إلا التبليغ. وكما علينا أن نتسابق في الأمور الدنيوية بما فيه الخير للبشرية جمعاء. قال الله تعالى: « وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (البقرة، 2 / 148).
لكم الشكر وجزاكم الله خيرا