بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله الطيبين، وصحبه المنتجبين وبعد:
يكثر التساؤل هذه الأيام عن كيفية اختيار الزوجة أو الزوج في عصر كثرت فيه المفاهيم واختلطت فيه القيم، وليس غريبا أن نجد مثل هذا التساؤل في الوقت الذي يتربى فيه أبناء المسلمين في عالم أصبح مترابطا لهيمنة وسائل الإعلام والاتصالات، وما تبع ذلك من احتكاك ثقافي بين الأمم والشعوب، لكنَّه ينبغي علينا أن نبقى قريبين من كتاب ربنا وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حتى لا تتفرق بنا السبل عن سبيله؛ فنتيه في خضم الأفكار الناشئة بعيدا عن الهدي الإلهي ونوره المبين. وهذا ما نحاول فعله من خلال مقالتنا هذه:
1_ علاقة الرجل بالمرأة آية من آيات الله تعالى
يقول الله تعالى مبينا أن حقيقة الرجل والمرأة إنما هي نفس واحدة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء، 1)
وإذا كان كلاهما من نفس واحدة فلا بد أن يبحث الرجل عمن يكمله من النساء، وكذلك المرأة تفعل حتى تجد من يكملها من الرجال، إذ لا يكتمل أيهما إلا بوجود صاحبه، وقد اعتبر القرآن الكريم أنّ هذا الارتباط الفطري بين الرجل والمرأة هو من آيات الله في الخلق والإبداع، فبهذا الرباط تستمر الحياة ويجد الإنسان سكينته وطمأنينته في هذه الحياة، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم، 21)
يوجه الله تعالى الأنظار إلى عظيم صنعه وفائق قدرته، وقد ذكر أنّه خلق الزوجين من نفس واحدة؛ أي من جنس واحد ، حيث يحتفظ كل جنس من هذه الأجناس الموجودة في هذا الكون على خصائصه وميزاته فلا يختلط في الأجناس الأخرى ، وقد ورد ذلك في سياق الدلالة على قدرة الله على الخلق والإبداع. قال تعالى: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى، 11)
يتبين من خلال تلك الآيات أن ارتباط الرجل بالمرأة عن طريق الزواج المشروع هو مما تدعو إليه الفطرة، ولا يمكن أن نتصور استمرارية الحياة بدونه، فإذا كان الأمر كذلك فهل يكفي الإختيار العشوائي للزوج أو الزوجة ؟ والجواب طبعا لا. وقد أرشد الإسلام إلى الطريق الأمثل في اختيار كلا الزوجين لصاحبه، وقد راعى جميع العوامل التي من شأنها أن تيسر ديمومة الحياة الزوجية، وما يعكسه ذلك من استقرار عاطفي وأمن اجتماعي ورعاية للأولاد.
2_ المعايير التي ينبغي مراعاتها عند اختيار الزوجة
هناك مجموعة من المعايير التي ينبغي مراعاتها عند اختيار الزوجة، وهذه المعايير ليست مقاسات حديدية كما يفهمها البعض؛ فيتحول اختيار الزوجة إلى عبء ثقيل، وأحيانا يترك بعض الشباب البحث عن الزوجة بحجة أنه لم يجد الزوجة المثالية ضمن المعايير الشرعية والاجتماعية. والأصل هو عدم التشدد في الأمر كله، والتيسير ورفع الحرج من مقاصد هذا الدّين حيث قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (الحج، 78) ولقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة، 185) وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في كل شأنه، فقد رُوى عنه أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما[1]. وعلى ضوء هذه التوجيهات نفهم مراعاة المعايير عند اختيار الزوجة أو اختيار الزوج. (وهي كالتالية):
أ_ الدين، وهو المعيار الأهم ، ويفهم هذا المعيار من زاويتين ؛
الزاوية الأولى: الإسلام؛ فتُقدم المسلمة على الكتابية رغم جواز الزواج من الكتابيات، فالأولى هو الزواج من المسلمة لما لذلك من دواعي استمرار الحياة الزوجية حيث الدين الواحد والعادات المتقاربة المكتسبة من الدين، ويفهم هذا من قوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} ( البقرة، 221) وقد يقول قائل إن هذه الآية في المشركات وليس في الكتابيات، وهذا صحيح ولكن أهل الكتاب قد دخل الشرك في عقائدهم، وقد أباحت الآية الزواج من أهل الكتاب على خلاف القياس، فينبغي عدم التوسع في الزواج منهن، انسجاما مع مجموع النصوص الداعية إلى مراعاة عنصر الدين في اختيار الزوجة، كما أنّ عقائد أهل الكتاب لا تخلو من الشرك.
الزاوية الثانية: الدين؛ ويقصد به هنا التديُّن؛ أي التقرب إلى الله بالتزام أوامره واجتناب نواهيه. قال الله تعالى في وصف الزوجة الصالحة: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (النساء، 34) فالآية تشير إلى عنصر الصلاح عند المرأة وما يؤديه ذلك من محافظتها على حق زوجها وماله وعرضه الذي هو عرضها، وهنا ما يجب الإنتباه إليه في هذه الآية: وهو أن الله تعالى قد حفظ الزوجات من الوقوع في الحرام، وهي فطرة الله تعالى في النساء، فالمرأة بطبيعتها ليست كالرجل إذ أن طبيعته الاندفاع أما المرأة فطبيعها الاحتجاز، وهذه الطبيعة في المرأة لا تفارقها إلا إذا فقدت عنصر الحياء وهو علامة الإيمان الظاهرة، الآية واضحة الدلالة في ذلك: فإن كانت صالحة قانتة فهي حافظة لحق زوجها بسبب حفظ الله لها من الوقوع في الحرام.
وقد أشار الحديث الشريف إلى ما يدعو لنكاح المرأة بشكل عام فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)[2]. وفي الحديث تأكيد على ضرورة اعتبار عنصر الدين في اختيار الزوجة، حيث يغفل عنه الناس عادة لانشغال النفس بمراعاة الدواعي الأخرى.
وإذا كان اختيار الزوجة الصالحة من أهم عناصر ديمومة الحياة الزوجية، فإن اختيار المرأة للرجل الصالح أكثر أهمية؛ لما يترتب على سوء اختيار الرجل من معاناةٍ للمرأة وهضمٍ لحقوقها. ونفهم هذا من قوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (البقرة، 221) ، في هذه الآية بيانٌ أن التفاضل يكون في الإسلام أولا، والآية التالية تبين أنّ التفاضل بين المسلمين يكون بالقرب من الله والتقوى حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات، 13) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة المسلمة إذا أرادت الزواج، فلا بد لها من أن تقبل بالرجل الصالح، فقال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)[3].
إن رفض الرجل مع كونه صالحا يدلُّ على تغير الموازين والقيم التي أراد الإسلام إرساءها في المجتمع المسلم، وهو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض). إن صلاح الرجل هو سياج للمرأة في كل حالها ، فإن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها، وهو في كلا الحالتين لا تجنح نفسه إلى حرام فيبقيها كالمعلقة، استجابة لقوله تعالى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة، 229)
ب_ الاختيار من أجل المال.
إن كون المرأة من ذوات المال قد يشجع البعض على الزواج منها، وقد أشار إلى ذلك الحديث السابق باعتباره مألوفا بين الناس وعادة، والإسلام لا يرفض مثل هذا التوجه إلا إذا كان على حساب ما نص الشرع على تفضيله وهو الدين، فلا ينبغي الإغترار بالمال ونسيان الصفة الأهم. وكثير من الآيات والأحاديث تحذر من الاغترار بالأموال على حساب الدين وهذه الآيات والأحاديث عامة في كل حال، قال تعالى: { وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة،85). هذه الآية نزلت في المنافقين خاصة، ولكنها عامة في معناها إذ لا ينبغي أن يعجب الإنسان بصاحب المال عند غياب الإيمان والعمل الصالح.
ج_ الاختيار من أجل الحسب.
الحَسَبُ: الكرم. والحَسَبُ، الشرف الثابت في الآباء. وقيل هو الشرف في الفعل، أنشد ثعلب: ورُبَّ حَسيبِ الأصل غير حَسيبِ أي له آباء يفعلون الخير ولا يفعله هو. والجمع حُسَباءُ. والحَسَبُ الدين. والحَسَبُ والحَسْبُ: قدر الشيء، كقولك: الأجر بحسب ما عملت وحَسْبِه، أي قدره[4]. والحسب المعتبر بالحديث هو فعال الشخص خاصة، فقد ورد في الحديث الشريف (كرم المؤمن دينه ، ومروءته عقله ، وحسبه خلقه)[5] ولقوله عليه الصلاة والسلام: (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)[6]. ورب قائل يقول إذا كان الحسب هو الدين فلماذا ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الدين؟ قلت إن الحسب هو الفعال الظاهرة التي لا تخفى، فيُعرفُ بها الإنسان، وليس كل صاحب دين هكذا، فلربما كان صاحب الدين مكتفيا بنفسه لا صلة له بمجتمعه، فلا يبادر بكونه عنصرا فاعلا في مجتمعه، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن المقصود بالدين في حديث (تنكح المرأة لأربع….) كون المرأة مسلمة غير كتابية كما فصلنا سابقا.
وإذا كان الحسب بمعنى الشرف الثابت في الآباء فهل يصح معيارا للاختيار ؟ نعم وبلا شك إذا لم يتعارض مع حسب الشخص نفسه فإن اجتمع حسبه وحسب آبائه فإن ذلك “نور على نور”.
د_ الاختيار من أجل الجمال.
يقول سيد سابق : والإنسان بطبيعته يعشق الجمال ويهواه، ويشعر دائما في قراره نفسه بأنه فاقد لشئ من ذاته إذا كان الشئ الجميل بعيدا عنه. فإذا أحرزه واستولى عليه شعر بسكن نفسي، وارتواء عاطفي وسعادة، ولهذا لم يسقط الإسلام الجمال من حسابه عند اختيار الزوجة، ففي الحديث الصحيح: (إن الله جميل يحب الجمال)[7]. ، وإذا كانت طبيعة الإنسان تهوى الجمال فليس من الممكن أن يقف الإسلام حائلا بين طبيعة الإنسان واختياره، إلا أن هذا الإعتبار يجب أن لا يتعارض مع الدين فلا خير في امرأة أو رجل امتلكا الجمال والوسامة مع فساد دينهما، وقد حذر الإسلام من الإفتتان بالظواهر مع فساد البواطن في أكثر من مناسبة، قال الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (البقرة، 221).
3_ هناك معايير أخرى لا بأس من مراعاتها.
أ_ التقارب في السن، فالنفس تأنس بالنظير والشبيه، فكلما كان السن متقاربا كان أدعى إلى التفاهم ، ولا يفهم من هذا حرمة أن يكون فارق كبير في السن، إلا أن هذا من قبيل الإرشاد لا غير، وقد خطب كل من أبي بكر وعمر فاطمة الزهراء رضي الله عنهم، إلا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أجابهما بأنها صغيرة، ولكن عندما خطبها علي رضي الله عنه زوجه منها)[8]؛ وذلك لتقاربهما في السن.
ب_ التقارب في التحصيل العلمي، فكلما كان الزوجان متقاربين علميا كان ذلك سبيلا إلى انسجامهما، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر، 9) والسؤال في الآية للإنكار والمعنى أنهم لا يستوون، والآية في سياق التفريق بين من يعلمون حق الله عليهم فيطيعونه ومن لا يعلمون حق الله عليهم فيعصونه، وهي عامة في كل مناحي الحياة وهو ما عرفه البشر بتجاربهم أنه لا يستوي من يعلم ومن لا يعلم. وعدم التساوي يؤدي إلى التباين في الفهم وتقدير الأمور مما ينعكس سلبا على حياة الزوجين، فمراعاة هذا الأمر في البداية هو أفضل مع كونه ليس واجبا.
ج_ التقارب في المستوى الاجتماعي؛ ونعني بذلك أن يخطب الرجل الفتاة من بيئة كبيئته من حيث مستوى المعيشة، لأن اختلاف طبيعة الحياة على الزوجة _خاصة_ له أثر كبير بعدم ديمومة الحياة الزوجية، فالفتاة التي تعيش في كنف أبيها الثري الذي يلبي لها كل ما تطلبه ، قد يصعب عليها العيش في ظل زوج فقير لا يلبي لها الحد الأدنى من حياتها المعتادة، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ. قَالَتْ فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ (وفي رواية أخرى لمسلم تَرِبٌ لَا مَالَ لَهُ) انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ. فَكَرِهْتُهُ ثُمَّ قَالَ: انْكِحِي أُسَامَةَ. فَنَكَحْتُهُ فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ)[9] فقد علل النبي صلى الله عليه وسلم رفضه لمعاوية بأنه رجل فقير ربما لا يستطيع القيام بالنفقة عليها كما ينبغي.
د_ مراعاة جانب الطبائع والمزاج، وعدم مراعاة هذا الجانب كان سببا في هدم أسر قائمة، وفي حديث فاطمة بنت قيس، رفض النبي صلى الله عليه وسلم زواجها من أبي جهم لحدة طبعة وعنفه، وهو ما يسلط الضوء على هذا الموضوع، فكثير من الناس لا ينتبه لهذا، ولذلك يقولون إن فلانا صاحب خلق ودين وتزوج من فلانة وهي كذلك صاحبة خلق ودين لكنهما لم يتفقا، وانتهى الأمر بهم إلى الطلاق. ولا يخفى أن السبب في فراقهما هو الإختلاف في طبائعهما ونظرتهما للحياة، ونحن نعرف أن الإسلام لا يفرض على الناس أسلوبا عسكريا محددا في نظرتهم للأمور، وفي رتابة عيشهم، لذلك تجد الناس مختلفين، وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود، 118) لهذا السبب نولي الأهمية في قضية معرفة طبائع الشخص قبل الموافقة عليه.
هـ _ مراعاة المزايا الجسدية والبنيوية في كلا الخاطبين، فقد أعجبت ابنة الرجل الصالح بموسى عليه السلام لما رأت من أمانته وقوته فاقترحت على أبيها استئجاره. قال تعالى: { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (القصص، 26) والرجل الصالح لم يتردد أن يخطبه لابنته، فقال له كما ذكرت الآية التالية: { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (القصص، 27)، وكذلك فعلت السيدة خديجة رضي الله عنها لما رأت من كمال أخلاقه وحسن بنيانه صلى الله عليه وسلم. روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل. قال : فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها ، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجتها، وفي رواية : وقال جارية من بني سلمة ، فكنت أتخبأ لها تحت الكرب ، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها ، فتزوجتها[10] .
وكما كان كمال الخلقة سببا في رغبة ابنة الرجل الصالح بموسى عليه السلام كانت دمامة ثابت بن قيس رضي الله عنه سببا في مفارقة زوجته له، (فقد روى ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته قالت نعم)[11].
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : (كَانَتْ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ ، وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ لَوْلَا مَخَافَةُ اللَّهِ لَبَصَقْتُ فِي وَجْهِهِ إذَا دَخَلَ عَلَيَّ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، فَرَدَّتْهَا عَلَيْهِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)[12]
4_ كيف يتعرف الخاطبين على بعضهما؟
يضع الإسلام من الأحكام ما يصلح به حال الناس في حاضرهم ومآلهم، وأحكام الإسلام هي تشريع خالق البشر العالم بما يصلح حالهم كله عاجله وآجله، وذلك على عكس ما يضعه البشر من تشريعات أو ما يظهر بين الناس من أعراف تكونت بعيدا روح الشرع وأحكامه السمحة، لذلك نجد الناس طرفي نقيض في التعاطي مع الخاطبين ما بين مطلقٍ لهما الحبل على غاربه وما بين مضيق عليهما لدرجة عدم السماح لكليهما برؤية الآخر إلا يوم الزفاف. وكلا الحالتين تفريط وإفراط تبرز قصور البشر عن وضع تشريعات محكمة تصلح حاضرهم ومستقبلهم، ومن يلقي نظرة على أحكام الإسلام المتعلقة بالخطبة يعلم يقينا سمو التشريع الإسلامي الذي لا يدانيه تشريع البشر مهما بلغوا من التقدم المادي. وهذه الأحكام كالتالي:
أ_ نظر الخاطب لمخطوبته ونظرها إليه.
دعا الإسلام إلى نظر كل من الخاطبين للآخر، فإن العين سفير القلب. فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)[13]. وَالْحَدِيثُ مُطْلَقٌ فَيَنْظُرُ إلَى مَا يَحْصُلُ لَهُ الْمَقْصُودُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ[14]
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِم مِنْ حَدِيث جَابِر مَرْفُوعًا (إِذَا خَطَبَ أَحَدكُمْ الْمَرْأَة فَإِنْ اِسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُر إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحهَا فَلْيَفْعَلْ)[15] .
وقد رَوَى أَبُو دَاوُد في سننه وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ قوله عليه الصلاة والسلام: (إذَا أَلْقَى فِي قَلْبِ امْرِئٍ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا) وَقَيَّدَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ اسْتِحْبَابَ النَّظَرِ بِمَنْ يَرْجُو رَجَاءً ظَاهِرًا أَنَّهُ يُجَابُ إلَى خِطْبَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ وَلِكُلٍّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْآخَرِ[16]
ب_ اللقاء من غير خلوة.
واللقاء بين الخاطبين مهم في معرفة كل منهما صاحبه عن قرب، فيسمع صوته ولغته وحضوره وغير ذلك مما يحدد ميول الإنسان أو رغبته في شريك حياته، ويحصل هذا إما بطريق رسمي في بيت أبيها بوجود محرم لها، أو بطريق غير رسمي كحال الزملاء في العمل أو الجامعة فيُكوِّن كل منها فكرة عن شريكه بطريق غير مباشر، ولا مانع من ذلك شرعا، وإنما المحرم هو الخلوة بينهما أو الخضوع بالقول أو التطرق لما يخل بالآداب.
واللقاء مهم في اتفاقهما، فهو معتبر لإتمام العقد. قال تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة،232) والنهي عن العضل في الآية متوجه للأولياء وللأزواج السابقين، فلا يصحّ للزوج السابق أن يقف بطريق زواجها من غيره بسبب غيرته أو كيده بها، كما لا يصح لأوليائها منعها من الزواج ممن رضيت به إن لم يكن به ما يعيب.
وفي الآية أرجع الله تعالى التراضي إلى الخاطبين وعبّر عنهما بالزوجين باعتبار ما سيكون ، والتراضي يحصل بما يراه كل منهما مناسبا في صاحبه، من حيث المظهر والمخبر وغير ذلك، وكل ذلك منضبط بقوله تعالى {بالمعروف}، والمعروف ما عرف بالشرع أو بالطبع حسنه وما تصالح عليه أهل الزمان بما يوافق الشرع ولا يخالفه، إذ ليس للعادة المخالفة للشرع أي اعتبار.
ج_ معرفة الأفكار والثقافة والأخلاق.
أما معرفة الأفكار والثقافة والأخلاق، فأفضل ما يكون بسؤال أهل الثقة والخبرة، فتُعرف الفتاة بسؤال من يعرفونها عن قرب، كما تُعرف بأمّها وأخواتها غالبا، وكذلك الرجل فيُعرف بسؤال معارفه الثقات وجيرانه فهم أدرى الناس به، وقد يتعذر على الخاطبين معرفة ذلك بنفسيهما لما يتحلى به كل منهما من شمائل حسنة عند اللقاء، كما أنّ طول فترة الخطبة وما يتبعه من لقاءت متكررة بحجة التعارف قد يسيء إلى الخاطبين وإلى الفتاة خاصة، وخصوصا في مجتمعات لا يرغب الرجال في الزواج ممن كانت مخطوبة لشخص آخر وعرف ذلك عنها. لذلك لا بد من مراعاة كل ذلك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1]رواه البخاري، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث 3296. ومسلم، رقم الحديث 4294. وابو داوود، رقم الحديث 4153. والبيهقي، رقم الحديث 247
[2]البخاري، باب الأكفاء في الدين، 4700. ومسلم، 2661. وابن حبان، 4112. وغيرهم.
[3]رواه الترمذي وقال حسن غريب1004. المعجم الكبير للطبراني، 18213. معرفة الصحابة لأبي نعيم، 6142
[4] المحكم والمحيط الاعظم لإبن سيده، مادة حسب،1/ 483، وانظر لسان العرب، مادة حسب
[5] الحاكم، باب توقير العالم، وباب كرم المؤمن مروءته، رقم الحديث 389.قال الحاكم:هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه وله شاهد. ورواه الطبراني المعجم الكبير ، باب قطعة من المفقود، رقم الحديث 848. سنن الدار قطني، باب المهر، رقم الحديث 3848. ابن حبان، باب حسن الخلق، رقم الحديث 484
[7] فقه السنة، 2/22
[8] رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين، رقم الحديث 2654 . والنسائي، رقم الحديث 8508 . وابن حبان في باب ذكر الأخبار عما قال المصطفى، رقم الحديث 7074
[9] رواه مسلم، رقم الحديث 2709 . وأبو داوود في نفقة المبتوته، رقم الحديث 1944. والنسائي، رقم الحديث 1053
[11] البخاري، باب الخلع وكيف الطلاق فيه، رقم الحديث 4867
[12] نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، باب الخلع، 6/413
[13] سنن الترمذي، رقم الحديث 1007، ورواه الحاكم، وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، رقم الحديث 2646
[14] سبل السلام، باب النظر إلى المخطوبة، 4/437
[15] فتح الباري، لابن حجر، باب النظر إلى المرأة قبل التزويج، 14/377، قال ابن حجر: وَسَنَدُهُ حَسَنٌ ، وَلَهُ شَاهِد مِنْ حَدِيث مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ ، وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان وَالْحَاكِم ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَد وَابْن مَاجَهْ
[16] اسنى المطالب، 14/267
أتمنى لكم النجاح والسداد و أعز الله الأسلام و المسلمين بكم
موضوع جميل ولكم جزيل الشكر واتمنى لكم التوفيق
موقع حبل الله
http://www.hablullah.com/
موقعٌ يَهدف إجمالا إلى استنباط ما في القرآن على أنه المَصدَرُ الأولُ والآخِرُ، وتأتي السنةُ تابعةً له غيرَ مستقلةٍ عنه بإصدار حكم شرعي. كما أن هذا الموقع لا يَجعل مذهبا أو قَولا لعالم مهما كان علمُه وتقواه مَرجَِعا في تقرير حكمٍ شرعي المشرف العام الدكتور عبد العزيز بايندر تركيا
بارك الله بجهودكم وزادكم علما وفهما
السلام عليكم ما المقصود بأن ينظر إليها؟ هل يراها بلا حجاب كما فسر البعض بانه يحق له ذلك؟ أم أن الرؤية تكون بالحجاب الشرعي؟ وإذن بم تختلف عن رؤية أي شخص لآخر؟
وجزاكم الله عنا كل خير
وعليكم السلام ورحمة الله
تمت الإجابة على سؤالك ونشرها على الموقع برابط https://www.hablullah.com/?p=7434