ولكن حسب مفهومنا التقليدي للدولة، لا يمكن إستغلال الدّين ما دامت الدولة لا تتدخل في أمور الدين. وبهذا لا نلقي بأيدينا إلى التهلكة، وفي حال كهذا يُفتح الطريق أمام المخلصين من السياسيين لخدمة الدولة، ويقل عدد الأحزاب السياسية، لأنه لا يبقى هناك شعور ديني ليُستغل. كما تتولد الحاجة لتدريب السياسيين المخلصين، وهو أمر ليس بسهل؛ إذ إنه يحتاج إلى المعرفة الكافية والخلفيات الثقافية والكوادر المؤهلة. أما استغلال الشعور الديني فليس بأمر صعب، فيلجأ إليه العابثون فيفوز فيه أصحاب الأصوات العالية والمتفننون في الكذب.
الأحزاب القائمة على أساس الدين
نرى أن مصطلح "الحزب الإسلامي" مصطلح غير صحيح. فليس هنالك حزب إسلامي, ولكن يمكننا أن نسميه بـ "حزب المسلمين". وبين التسميتين بون شاسع؛ فالإسلام دين هدفه هداية الناس إلى طريق السعادة في الدارين. فلا يجوز أن يكون وسيلة لنيل المنافع الدنيوية، وقد قال كل واحد من الأنبياء والرسل: «وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ» (الشعراء، 26 / 180).
الذين يعارضون الدين قد خلطوا بين الأمرين؛ تبليغ الدين والصراع على السلطة. ومن هنا نعرف أهمية الحوار الذي جرى بين موسى عليه السلام وفرعون مصر، قال الله تعالى: «وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ» (الأعراف، 7 / 104-105). وقال: «أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؛ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ؛ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ؛ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ؛ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ؛ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ؛ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» (الشعراء، 26 / 17-26).
نرى في هذه الآيات بوضوح أنّ فرعون يحاول تقديم موسى كمن يصارع على السلطة، بالرغم من وضوح ما يريد وهو أن يرسل معه بني إسرائيل، فيقول: «فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ». أما الملأ من قوم فرعون: «قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى» (طه، 20 / 63). وفرعون يعرف جيدا أنّ موسى عليه السلام لا يريد منه غير أن يرسل معه بني إسرائيل، لأن قول الحق ليس من مصلحته، لذلك تصرف كأنه لمس أنّ لموسى أهدافا أخرى، فبدأ بتغرير شعبه وتأليبهم عليه.
لذا ليس من الصحيح أن يكون الإسلام وسيلة للوصول إلى الحكم، لأن هذا يؤدي أن يتخذ الحكام مواقف تلقائية تتميز بالسلبية تجاه الإسلام ؛ لكي لا يفقدوا ما في أيديهم من السلطة السياسية. كما أن استخدام الإسلام وسيلة للوصول إلى الحكم يحرك وينشط المولعين الطامحين إلى السلطة. وفي نهاية المطاف يعلن البعض عداءه للإسلام ليحفظ عرشه هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى يجعل البعض الآخر من الدين الإسلامي وسيلة لتحقيق الأهداف في الوصول إلى الحكم. والنتيجة أنّ كلا الطرفين شكلّ مانعا من التفكير الصحيح حول الإسلام.
لا يوجد حزب للإسلام، ولكن من الممكن أن يكون للمسلمين حزب أو أحزاب كثيرة. وهم يطرحون برامجهم، حيث يثبتون من خلالها أنهم على قدر المسؤولية، ويشتركون مع الأحزاب الأخرى في المنافسة ليصبحوا حزبا حاكما. والحزب الفائز له الحق في تشكيل الحكومة، يحكم بإسم نفسه وليس بإسم الدين. فإن أحسنوا في الحكم فلهم أجرهم، وإن أساؤوا فعليهم وزرهم. ذلك أنه لا يصدر من الإسلام خطأ، أما المسلم فمن الممكن أن يخطئ.
حرية الدين قضية مهمة للغاية، والإعتراف بحرية الإعتقاد دون حرية الدين لا يعني شيئا، لأنّ الإعتقاد من عمل القلب، أما الدين فليس كذلك. وعند اطلاق كلمة "الدين" يفهم منها جميع أوامره ونواهيه. فالحرية الدينية تعني أن يحيى الإنسان حسب ما يعتقد. والإسلام يوفر للإنسان أن يحيى حسب ما يعتقد، ويحرم الضغوط على دينٍ ما أو تحقيره أو إهانته. وفي ظل هذا الفهم أذنت الدولة العثمانية بفتح الخمارة وتربية الخنازير لغير المسلمين. ومنعت المسلمين عن ذلك. وقد وجد غير المسلمين حريتهم الدينية في ظل الدولة العثمانية، لذا لجأ إليها اليهود الذين هربوا من أسبانيا وعاشوا أسعد حياتهم في ظلها، وقد أنشأ اليهود مؤسسة خيرية بإسم (المئة الخامسة) لتكون ذكرى لتلك الأحداث.
أما اليوم فلم يبق من ذلك الجو المتسامح شيئا؛ لأن الملاحدة وغير المتدينين من أصحاب الصدارة في الحياة الإجتماعية والإقتصادية قد نبذوا التسامح وسلكوا طريق التطرف والتشدد. وقد تظاهر البعض من الملاحدة كأنه مسلم، فازدادت المشاكل تعقيدا. والأحزاب السياسية التي أسست منذ العام 1946 م أصبحت تتنافس في استغلال الشعور الديني عند الشعب للحصول على مزيد من الأصوات الإنتخابية. ليسوا سواء فمنهم أصحاب النوايا الحسنة، كما أنّ منهم من يريد استغلال الشعور الديني للوصول إلى مبتغاه.
وقد جاء في المادة 24 من الدستور التركي ما يلي: ليس من حق أحد أن يستغل الدّين أو الشعور الديني أو الأماكن الدينية. فاستغلال الدّين نفاق، ومن الصعب أن يُفرق النفاق من التدين الحقيقي، لا سيما حينما يحدث الإختلاف والتنازع في الأمور الدينية فتسنح الفرصة أمام المنافقين للطعن في الدين والإساءة إليه؛ حتى إنّهم ليتهمون المؤمنين الحقيقيين بأنهم يستغلون الدين، وهذا قلب للحقيقة رأسا على عقب. وهو ما يحدث الآن في تركيا. كما أن هناك من يعادي كل ظاهرة دينية باسم العلمانية، ويعمل جاهدا على إبعاد الناس عن الدين بمنع التعليم الديني باسم الحداثة والمعاصرة، وقد يبرر فعله بأنه ضد الإستغلال الديني متظاهرا أنه يحترم الدين، ظنّا منه أنّ هذا الموقف سيقلل من ردود الفعل الغاضبة عليه، ولكن العاقبة تأتي بعكس ما يريد، حيث تزداد ردود الفعل حدة كلما شعر المسلمون نفاقه واستهزاءه بهم. وقد كان النفاق مشكلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم. قال الله تعالى: «وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (النساء، 4 / 81).
ومن المعلوم أنّ الدّين عالمي لا يقف عند حدود الزمان والمكان. وبعبارة أخرى فإنّ للدّين قواعد لا تتغير وإن تغيرت الأماكن والأزمنة، أمّا سياسات الدول وقوانينها فإنّها تتغير حسب الزمان والمكان وفقا للاحتياجات والظروف الطارئة. والدولة المعترِفة بحرية الدين فإنّها تنظم قوانينها وفقا لما يتطلبه مفهوم الحرية الدينية. فليس من المنطقي أن تفرض الدولة قانونا يلغي شعيرة دينية، لأنه من المستحيل أن يقبل المتدين التعديل في دينه.
ولمزيد من التوضيح نضرب هذا المثال: ورد في الآية 31 من سورة النور الأمر للمؤمنات بتغطية رؤوسهن، وهو أمر قد لقي قبولا عند كل المؤمنين والمؤمنات منذ نزول الآية حتى يومنا هذا بدون أدنى خلاف. وجلُّ المسلمات في تركيا والبلدان الأخرى يغطين رؤوسهن. ومنع المسلمات من غطاء رؤوسهن هو تعد على الحرية الدينية، وقد أحدث ذلك احتجاجات واسعة في بعض البلدان. ولا تزال تلك الاحتجاجات وستبقى ما دام القرآن الكريم موجودا. كما لا يزال من يستغل هذه القضية ما دامت الإحتجاجات موجودة. حيث يدافع حزبٌ عن غطاء المسلمات رؤوسهن والآخر يخالف.
كما أن محاولة الملاحدة وغير الملتزمين حصرَ الدين في الضمائر هو لإيجاد بيئة مناسبة تُطبّق فيها العلمانية كنظام لاديني معادٍ للدين. فلا يبقى بعدئذ مجال للعقل أن يفكر إلا وفقا لما تهوى الأنفس. وفي هذه الحالة المشوشة تعقد الإنتخاباتُ، ويصوت المناخبون للأحزاب حسب الشعور والعاطفه. ولا يهمهم ما تقدمه الأحزاب من الخدمات للمواطنين لتطوير البلد؛ إلا ما يوفر للمتدينين من الإمكانيات لأداء شعائر الدين فقط. أما الملاحدة ومن معهم من المنافقين فأكبر همهم منع الناس وإبعادهم عن الدين. وبهذا يفوز النوعان من الأحزاب ويدخلون البرلمان ويترتب على ذلك فساد سياسي عريض. أما المخلص من الساسيين إما أن يختفي كليا بسبب مواصلته خدمة المواطنين بإخلاص، أو يغير موفقه السياسي حسب المصالح.
أضف تعليقا