القرآن الكريم والفطرة
د. فاتح أوروم
الفطرة؛ تعني مبادئ وقوانين الخلق والتغيير والتطور، وهي التي تُكَوِّن البِنيةَ الأساسية للكائنات. قال الله تعالى: «اِقْرَاْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذ۪ي خَلَقَ. خَلَقَ الْاِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اِقْرَاْ وَرَبُّكَ الْاَكْرَمُ. اَلَّذ۪ي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْاِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» (العلق، 96 / 1-5).
هذه هي الآيات الخمس الأول من سورة العلق، وقد عرفنا أنها أول ما نزل من القرآن الكريم، وهي تلفت الإنتباه إلى خلق الإنسان وإلى ما يملكه من المعرفة. يبدأ الإنسانُ القراءة بالبحث عن ذاته والبيئة التي يعيش فيها؛ فيتعلم مبادئ وقوانين الخلق، ويعيش وفقا لتلك المبادئ والقوانين. وبقراءة ما في نفسه والآفاق يكتشف قوانين جديدة في كل لحظة، ويعرف الحِكَمَ التي من أجلها خُلق وجميعُ الموجودات. أما الغافل الذي لا يعرف نفسه ولا ينتبه لما يجري حوله فتغمره الأخطاء ويخنقه الحزن ويتكبد الخسران.
والتفكر في الأنفس والآفاق هو الطريق الذي يؤدي إلى الخالق، لأن عظمة الخالق تتجلى في الخلق، فكل شيء أثر منه تعالى. ومن يقرأ ما في نفسه والآفاق من حوله فإنه يعرف الحكمة التي خلقه الله تعالى من أجلها والكون جميعا، وعند ذلك فلا بد أن يتأثر بروحه وجسمه بكل ما أمر الله تعالى. فلا يعتريه التردد في قبول ما جاء من ربه. لأنه مشتاق وراغب إلى خالقه كالظمآن يشتاق إلى الماء ويرغب فيه.
الشخص الذي يفكر في الأنفس والآفاق يعرف الحقيقة، ويبقى له أن يختار أحد الطريقين؛ أن يعيش وفق ما عرفه من الحقائق أو لا، ومن هنا يبدأ الصراع الداخلي . وقد بلّغ الرسل والأنبياء رسالات الله إلى الذين عرفوا الحقائق وطبقوها في حياتهم، فالذين يرفضون اتباع الرسل لا ينكرون وجود الله ولكنهم يأبون إمتثال ما أمر الله تعالى بواسطة رسله عليهم الصلاة والسلام، فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة؛ لأنّ الكافر قد اختار حياة تخالف الفطرة عن طواعية فهو سيقبل محنة الدنيا والآخرة عن طواعية كذلك.
ولا يشك أحد في وجود الله تعالى، فوجوده حقيقة يعرفها ويشاهدها كل واحد. قال الله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْعَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَالْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَأَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَالْمُبْطِلُونَ» (الأعراف، 7 / 172-173).
إنّ الفطرة قد أحاطت الإنسان، فلا يقبل منه عذر بتجاوزها، ولا يمكن له أن يعيش حياة طيبة كريمة منسجما مع ذاته إلا بأداء ما أمره الله تعالى واجتناب ما نهى عنه، وهذا ما تطلبه الفطرة. ومن يعيش وفق الحقائق التي عرفها يطمئن قلبه ويسعد في الدارين. قال الله تعالى: «اَلَّذ۪ينَ اٰمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّٰهِ اَلَا بِذِكْرِ اللّٰهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد، 13 / 28).
وكلُّ شخص يتأثر حينما يبلغه الدين، ومن لا يتأثر من بلوغ الدين له لا يعدو أن يكون أحد ثلاثة: إما أن يكون لديه أحكام مسبقة عن هذا الدين، وإما أنّ ما بلغه ليس بدين الله أصلا، وإما أن ما يقدم للناس باسم الدين لا ينطبق مع كتاب الله تعالى، والحالة الثالثة هي الأكثر خطورة. إنّ عدم التأثر في الحالة الثانية مبرر ومعقول، أما في الحالة الأولى فإن ثمة مشكلة في الفهم. وعلى سبيل المثال؛ الذي يكثر التدخين فلا يعرف لذة الطعام، كذلك من تلوث عقله بالبدعة والخرافة لا يذوق طعم دين الله، فهو يرى أن المشكلة في الدين وليس في فهمه، ومن يتمسكون بهذا الدين ينقسمون إلى قسمين يجمعهم عدم الإطمئنان إليه، الأول: لا يؤمن أصلا لكنه يلتزم لما تمليه الضرورة الإجتماعية، والثاني: يؤمن به ولكنه يعيش حياة مليئة بالتضاد، لأن ما يؤمن به من دين بعيد عن الفطرة، والأسوأ من ذلك أن يعتقد أنّ طراز الحياة هذا من متطلبات الدين.
1. علاقة الدين بالفطرة
كلمة الدِّين تعني الحساب والقياس والقانون.[1] واسم الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده هو الإسلام.[2] وقد أخبر أن الناس أحرار في قبول الدين، وذلك بعد أن تبين الرشد من الغي.[3] الأنبياء والرسل يدعون الناس إلى الدين الحق.[4] وقد يختلف الناس في الدين الذي أرسله الله تعالى، فكثير من الناس يريدون تطويع الدين لأهوائهم، وعلى هذا حين يقال متدين أو متمسك بدينه يراد به الذي تمسك بالدين الذي طوعه لأهوائه.[5] والأصل أن تجري الأمور كلها في هذا العالم وفق دين الله تعالى؛ أي حسب الفطرة؛ لأن الفطرة هي دين الله الإسلام الذي أرسله إلى جميع البشرية. وعلى هذا فالدين هو اسم للقوانين التي تنظم علاقة الإنسان بخالقه وبكل ما يحيط به من الموجودات. وبعبارة أخرى أن الدين ليس منحصرا بمجموعة من الإعتقادات والعبادات والأخلاق والمعاملات، بل هو الحياة بذاته. كما أن الوضوء والصلاة موضوع الدين كذلك الجاذبية الأرضية موضوع الدين. لأن الذي وضع لهما القوانين هو الله وحده. فكل ما في الوجود يقوم بما وكل به من الأعمال والوظائف إلا الإنسان الذي أعطاه الله تعالى الإرادة الحرة. قال الله تعالى: « اَفَغَيْرَ د۪ينِ اللّٰهِ يَبْغُونَ وَلَهُۤ اَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَاِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» (آل عمران، 3 / 83).
وجميع ما في الكون يعمل وفق دين – سنن – الله تعالى، حيث لا وجود لمخلوق يخالف سنن الله تعالى إلا الإنسان. وقد حكى لنا القرآن الكريم قصص الهدهد الذي ذهب إلى بلقيس ملكة سبأ حاملا رسالة سليمان عليه السلام، وقد أظهر ذلك الطير استغرابه من إشراك الناس بالله تعالى، حيث يقول: «وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّٰهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ. اَلَّا يَسْجُدُوا لِلّٰهِ الَّذ۪ي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. اَللّٰهُ لَاۤ اِلٰهَ اِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظيمِ» (النمل، 27 / 24).
يأمرنا الله تعالى أن نعبده مخلصين له الدين.[6] ويقول إنّ هذا ما تطلبه الفطرة. وقد عبّر الله تعالى عن الدين بالفطرة، فقال: «فَاَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنيفًا فِطْرَةَ اللّٰهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ ذٰلِكَ الدّينُ الْقَيِّمُ وَلٰكِنَّ اَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (الروم، 30/ 30). ولو يخلو الإنسان من التحامل والأحكام المسبقة ومن السلوك الشهواني لاستسلم لأمر الله تعالى استسلاما كاملا ولشعر بالطمأنينة. وقد جاء في هذا السياق آيات كثيرة منها قوله تعالى: «لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّكَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَإِلاَّ فِي ضَلاَلٍ» (الرعد، 13 / 14).
وبسط الكفين إلى الماء ليبلغ إلى الفاه لا يعني شربه، ولا يذهب العطش. فلا بد من بذل الجهود اللازمة ليذهب العطش. وفي آية أخرى قال الله تعالى: « ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا رَجُلًا فيهِ شُرَكَاۤءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ بَلْ اَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. اِنَّكَ مَيِّتٌ وَاِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ اِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيٰمَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ» (الزمر، 39 / 29). والآية تضرب المثل برجل مملوك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع: كل واحد منهم يدعى أنه عبده، فهم يتجاذبونه في مهن شتى، وإذا عنّت له حاجة تدافعوه، فهو متحير في أمره، قد تشعبت الهموم قلبه وتوزعت أفكاره، لا يدرى أيهم يُرضى بخدمته؟ وعلى أيهم يعتمد في حاجاته. كما تضرب الآية المثل بمملوك آخر: قد سلم لمالك واحد وخلص له، فهو معتنق لما لزمه من خدمته، معتمد عليه فيما يصلحه، فهمه واحد وقلبه مجتمع، أى هذين العبدين أحسن حالا وأجمل شأنا؟
وفهم العلاقة الوثيقة بين الدّين والفطرة مهم جدا في فهم القرآن الكريم. كما أنّ الفطرة تمنع انتشار الخرافة والمفهوم الخاطئ للدّين في المجتمع، لأن الدّين الذي يخالف الفطرة السليمة لا يمكن أن يكون دين الله تعالى.
2. الآيات والفطرة
يقول الله تعالى: «كَمَاۤ اَرْسَلْنَا فيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ اٰيَاتِنَا وَيُزَكّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» (البقرة، 2 / 151)؛ «سَنُريهِمْ اٰيَاتِنَا فِي الْاٰفَاقِ وَفيۤ اَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ اَنَّهُ الْحَقُّ» (فصلت، 41 / 53) ؛ «وَفِي الْاَرْضِ اٰيَاتٌ لِلْمُوقِنينَ وَفيۤ اَنْفُسِكُمْ اَفَلَا تُبْصِرُونَ» الذاريات، 51 / 20-21).
تنقسم آيات الله إلى قسمين؛ الأول: الآيات الكوينة؛ والثاني: الآيات الكتابية. والآيات الكونية مخلوقة؛ والآيات الكتابية منزلة. ولا فرق بين من قرأ آيات الله المسطورة في الكتاب وتفكر فيها ومن وصل إلى النتائج الصحيحة بدراسة آيات الله المنثورة في الكون. فكلاهما بذل الجهود للوصول إلى الحكمة، ومن وصل إلى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.
3. الكتاب والفطرة
كما تنقسم آيات الله إلى قسمين؛ الأولى: الآيات الكونية والأخرى: الآيات الكتابية، فكذلك الكتاب ينقسم إلى قسمين؛ الأول مخلوق والثاني منزل. الكون كتاب يحتوي على آيات الله المخلوقة. كما أشار إليه تعالى بقوله: «قَالَ الَّذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ اَنَ اٰتيكَ بِهِ قَبْلَ اَنْ يَرْتَدَّ اِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَاٰهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنيۤ ءَاَشْكُرُ اَمْ اَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَاِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَاِنَّ رَبّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» (النمل، 27 / 40).
«الَّذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ» وهو علم من درس آيات الله المنثورة في الكون وتدبرها، وقد اكتشف من سنن الله تعالى في الكون بعدما بذل جهدا كبيرا للوصول إلى هذه السنن والقوانين، ومن الممكن أن كان بداية هذا الجهد هو قراءة كتاب الله المسطور، فوجد فيه معالم الطريق لدراسة الآيات الكونية. ومهما اختلفت الطرق فالنتيجة واحدة. ربما كانت البداية من آية والوصول إلى السنن والقوانين كان من آية أخرى، فالآيات والسنن كلها لله تعالى. كما أنّ النتائج الصحيحة تتحقق من خلال دراسة الآيات الكونية والكتابية معا، تلك هي سنة الله تعالى. وحين رأى سليمان عليه السلام العرش قال: «هٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنيۤ ءَاَشْكُرُ اَمْ اَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَاِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَاِنَّ رَبّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ».
4. الآيات التي تتحدث عن الفطرة
والتعبير عن الدين بالفطرة تعني أنه على الإنسان أن يحيى حسب الفطرة أي وفق سنن الله وقدره في الخلق. أي أن الإنسان مأمور بما هو مجبول عليه. والآيات التي تشير إلى خلق كل شيء بقدر،[7] ودراسة أقدار الأشياء،[8] والنظر إلى ما يجري في الكون من العمليات الدقيقة.[9] وإلى أن الذي يخشى الله هو الذي يعرف بأسرار الكون والعارف بعظيم قدرة الله تعالى؛[10] والآيات التي تحث الدراسة الإجتماعية والنفسية والتاريخية[11] هذه الآيات كلها تدلّ على أن القرآن الكريم اهتم بالفطرة.
وفي هذا السياق، آيات كثيرة تحمل معاني عميقة وتلفت النظر إلى خلق الإنسان والسموات والبحار والحيوانات والنباتات، كما توجد آيات كثيرة تثبت وجود الله تعالى. وفي مثل تلك الآيات دلالة فطرية على أنه لا إله إلا الله، وأن الحمد والشكر لله تعالى وحده، وأنه لا استعانة إلا به تعالى. كما أنها آيات تحدد الأهداف للمؤمنين.
5. نقد الموقف الإتباعي في ظل الفطرة والدين
وبسبب عدم النظر إلى الآيات الكونية ودراستها على مدى العصور الطويلة أصبح المسلمون يتبعون كل جديد في العالم الغربي، كما فقدوا القدرة على الإنتاج فباتوا يستعملون منتجات غربية. وهذا الحال جعل المسلمين يفقدون الثقة بأنفسهم. ورؤية المسلم نفسه أنه محكوم بتلقي العلوم من العالم الغربي بدلا من إنتاج المعلومات أدى إلى صدمة شديدة في جميع طبقات المجتمع، وكردِّ فعل لهذا الموقف فقد ظهر من يقول أن كلّ ما أوجد الغرب من علوم وتقنيات "هو موجود في القرآن". ومن الواضح أنه طريق محفوف بالمخاطر بالرغم ما يعطيه للمسلمين من راحة نفسية، والمسلمون هم الذين يتلقون العلوم من الغرب بدلا من إنتاج المعلومات وهم لا يبذلون جهدا في ظل القرآن لمعرفة ما وصل إليه الغرب من التطورات العلمية. إنّ جعل الكتاب الذي يؤمنون به تابعا لنظريات هي ذاتها بحاجة للتصحيح ومفتوحة للنقد، هو بمثابة حمل قنبلة يتحكم بها شخص آخر.
والنظريات والعلوم التي وصل إليها الغرب معلومات ناقصة، لأنهم أهملوا الدراسة في الآيات المسطورة المنزلة. أي أنهم لن يصلوا إلى القمة ودرجة الطمأنينة من العلوم والتطورات.
ومن ناحية أخرى فإنّ الإنتاج هو وظيفة المسلمين، وعلى المسلمين أن يكونوا متبوعين وليس تابعين، وهذه وظيفة كل مسلم.[12] وعلى المسلم أن يقرأ الكتابين معا؛ الكتاب الكوني والكتاب المنزل. وأن ينتج العلوم ويضع الأهداف من أجل الناس كافة. كما لا بد من تدريس وتدريب المتخصصين في كل المجالات، وإقامة المؤسسات وإنشاء فرق العمل لتعمل فيها.
6. العمل الفريقي ومميزاته
إنّ ضرورة دراسة الآيات الكونية والكتابية معا، يحتِّم أن يكون العمل فريقيا. وفريق العمل الذي يتكون من المتخصصين، يوفر الفرصة لبيان سنن الله تعالى التي وضها، وقد بين القرآن الكريم أهمية العمل الفريقي، قال الله تعالى: « كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (فصلت، 41 / 3).
وقد أشار القرآن الكريم إلى ما يتميز به هذا الفريق: وهو الإتقان، والتعقل، والتعلم، والتفقه، والإيمان، والتذكر، والشكر، والتقوى، والتفكر، والتعبد.[13]
7. الفطرة والعالمية
يخاطب القرآن الكريم جميع البشرية، وأحكامه قيمية تنطبق مع طبيعة الإنسان إلى أن تقوم الساعة، وأن الزمان غير قادر على جعل أحكامه غير فعالة أو عديمة القيمة. وأحكامه صالحة في كل مكان يعيش فيه الإنسان، ولا يوجد مكان ولا زمان لا يمكن تطبيق أحكامه فيهما. فالتغيير في سنن الله تعالى يكون حسب سننه أيضا. إنّ الماء يغلي على حرارة 100 درجة مئوية إذا كان على ارتفاع قريب من سطح البحر، وهذا سنة من سننه تعالى. والتغير في درجة غليان الماء حين يزداد الإرتفاع عن سطح البحر يكون حسب سنة أخرى من سنن الله تعالى. كما يوجد فرق بين الضغط الهوائي وبين النقطة التي يغلي فيها الماء. حيث يقل الضغط الهوائي حين يزداد الإرتفاع وتنخفض درجة غليان الماء. الله سبحانه هو الذي وضع هذه السنن والقوانين.
وأصل تيار الفهم التاريخي للنصوص يعود إلى الفهم الخاطئ للكتاب؛ فحصر القرآن الكريم بأماكن وعصور ولغة معينة، هو عدم الفهم بأن القرآن الكريم هو كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
8. التعايش بين العلوم والدين
الخطأ الفاضح الذي وقع فيه كل من رجال العلوم ورجال الدين هو فصل الدين عن العلم. وهو مما لا يمكن قبوله. والسبب في هذا الفصل هو تشويه الأذهان بالرؤية الإبداعية. حيث أهمل اليوم وتجاهل تماما كون النتائج العلمية التي تحققت في المختبر العلمي هي من سنن الله تعالى.
9. الخاتمة
وقد بين الله تعالى في كثير من الآيات القرآنية أهمية الفطرة وبين أن دين الله تعالى هو الفطرة. فالفطرة هي المبادئ والقوانين التي تحكم جميع الكائنات. دين الله تعالى هو الحياة المنسجمة تماما مع ما وضعه الله تعالى من المبادئ والقوانين. وكون الدين هو الفطرة فهذا يعني الشمول، وأنّ جميع الناس مكلفون باتباعه، وأما الكافرون فقد جحدوا به واستيقنته أنفسهم ظلما علوا.
[1] أنظر: سورة التوبة، 9 / 36؛ وسورة يوسف، 12 / 75.
[2] أنظر: سورة البقرة، 2 / 132؛ وسورة آل عمران، 3 / 19.
[3] أنظر سورة البقرة، 2 / 256.
[4] أنظر: سورة التوبة، 9 / 33.
[5] أنظر: الأنعام، 6 / 137؛ الروم، 30 / 32؛ غافر، 40 / 26.
[6] الأعراف، 7 / 29؛ يونس، 10 / 22؛ الزمر، 39 / 3.
[7] أنظر، القمر، 54 / 49.
[8] أنظر، الروم، 30 / 41.
[9] أنظر، الملك، 67 / 1.
[10] أنظر، فاطر، 35 / 28.
[11] أنظر، الروم، 30 / 33؛ الأنبياء، 21 / 37؛ الحج، 22 / 8.
[12] أنظر، الزمر، 39 / 12.
[13] أنظر، البقرة، 2 / 118، 164، 130؛ الأنعام،6 / 98-99، 126؛ الأعراف، 7 / 58؛ يونس، 10 / 6، 24، 67؛ الأنبياء، 21.
أتمنى لكم النجاح والسداد و أعز الله الإسلام و المسلمين بكم
شكرا على المعلومات