2. الحُرِّيَّة :
اختيارُ الدِّين والاعتقاد بإرادةٍ حُرَّةٍ سُنَّةٌ من سُنن الله تعالى التي لا تبديل فيها، وهي معنى قول جميع الأنبياء لأقوامهم «أنِ اعبدوا اللهَ ما لكم من إلهٍ غيرُه». لأنَّ العبادةَ في اللُّغة تعني الطَّاعةَ وهي الانقيادُ وامتثالُ الأوامر.[1] أي لا تعبدوا إلَّا الله، وعلى هذا فإنَّ النِّظامَ الثيوقراطيَّ مُخالِفٌ تماماً لدعوة الأنبياء والمُرسَلين؛ لأنَّه نظامٌ يأمُرُ النَّاسَ أن يكونوا عباداً للحُكَّام لا للهِ تعالى.
الأوَّل: حُرِّيَّةُ العقيدة والعبادة :
الإيمانُ هو جوهرُ الدِّين، وأصلُ الإيمان هو القَبولُ من صميم القلب، أي التَّصديق بالقلب، ولا يعلمُ ما في القلب من التَّصديق إلَّا اللهُ وصاحبُ هذا القلب، فقلبُ الإنسان حُرٌّ، فلا يُجبَرُ أحدٌ على قبول عقيدةٍ ما؛ لأنَّ الجبر على قبول العقيدة مُخالِفٌ للفِطرة. قال اللهُ تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (البقرة، 2 / 256).
وكذلك لا يُجبَرُ أحدٌ على العبادة؛ لأنَّها لا تصحُّ إلَّا بالنيَّة، وهي إصدارُ القرار من القلب في إجراء فعلٍ ما، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: “إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات”. ولا يعرف الهدَف والقصدَ من العبادة إلا اللهُ تعالى وصاحبُ العبادة؛ فمن الممكن أن يُجبَرَ أحدٌ على إقامة الصَّلاة فيتظاهرُ مُصلِّياً بأن يركع ويسجد، ولكن إذا لم ينوِ الصَّلاةَ لم يكُنْ مُصلِّياً، ولا فائدةَ من ركوعه وسجوده.
ليست هناك من حاجةٍ لطقوسٍ مُعيَّنةٍ أو حفلةٍ تُعقدُ ليُصبحَ الشَّخصُ مُسلماً، يكفي أن يُؤمنَ بما يجبُ الإيمانُ به من القلب، أمَّا في الدِّيانة النَّصرانيَّة فيجبُ التعميدُ ليُصبحَ الشَّخصُ نصرانيَّاً، ومثلُ هذه الطُّقوس تجعلُ المُنتسبين الجُدد تحت الوطأة الرُّوحيَّة لرجال الدِّين.
ليس من شأن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عقدُ الحفلات لقبول النَّاس في الدِّين، وما عليه إلَّا أن يقومَ بدعوتهم وبعد ذلك فمَنْ شاءَ فليؤمِنْ ومَنْ شاءَ فليكفُر. قال اللهُ تعالى: «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (القصص، 28 / 56).
الثَّاني: حُريَّةُ الإنسان في أن يعيش وفقَ اعتقاداته :
حُريَّةُ الاعتقاد لا تعني شيئاً في الحقيقة لأنَّها عملُ القلب الذي لا يُمكن السَّيطرةُ عليه، ولكن يُمكنُ القولُ بحريَّة الدِّين؛ لأنَّ ما يُفهَمُ من كلمة الدِّين هو جميعُ الأوامر والنَّواهي ذات المصدر الدِّينيِّ، وبمعنىً أكثرِ وضوحاً هي حُريَّةُ الإنسان في أن يحيى حسبَ ما يعتقدُ، أي وفقَ إيمانه.
بناءً على هذا التَّصوُّر فلا بُدَّ أن تكونَ المواطنَةُ والعدالةُ هي ما يحكُم علاقةَ الدَّولة تجاه مواطنيها وليس الإنتماءَ الدِّينيَّ أو الفكريَّ، وفي نظام الدَّولة عند المسلمين فقد عاشَ النَّاسُ حسب اعتقاداتهم المُختلفة، ولم يكن هناك ثمَّة إهانةٌ أو تحقيرٌ لعقيدةٍ من العقائد أو لأصحابها الموجودين في الدَّولة، ونضربُ مثالاً على ذلك هو سماحُ الدَّولة العُثمانيَّة بفتح الخمَّارة وتربية الخنزير لغير المسلمين؛ لأنَّه ليس إثماً في دينهم، بينما كان ممنوعاً على المسلمين، وفي ظلِّ هذا الفهم قبلتِ الدَّولةُ العُثمانيَّةُ اليهودَ الذين جاؤوا من إسبانيا هاربين، ووفَّرتْ لهم إمكانيَّةَ العيش في سلمٍ وطُمأنينةٍ، وقد أسَّسوا في تركيا جمعيَّةً خيريَّةً كذكرى لذلك وسمَّوها “وقف السَّنة 500 الميلاديَّة”.
أضف تعليقا