2. القرآن والثيوقراطيَّة :
لا يوجدُ في القُرآن الكريم حكمٌ خاصٌّ يتعلَّقُ برئيس الدَّولة والمعاونين له من الوزراء وكبار الموظَّفين، كما أنَّه لم يضعْ نظاماً خاصَّاً يتعلَّقُ بإدارة الدولة، كما لم يأتِ من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أمرٌ أو وصيَّةٌ تتعلَّق بهذا الشَّأن، وإذا دلَّ هذا على شيءٍ فإنمَّا يدلُّ على عدم إعطاء القُدسيَّة للحُكَّام، وأنَّهم ليسوا معصومين، أمَّا الثيوقراطيَّة فهي مُخالِفةٌ لِمَا جاءَ في القُرآن الكريم، فهي تعني أنَّ الحُكَّامَ مُقدَّسون ومعصومون وغيرُ مسؤولين عمَّا يفعلون لأنَّهم مُمثِّلون لله ومُشاركون له في الحُكم. وقد اعتبرَ القُرآنُ مثلَ هذا النِّظام شركاً بالله. قال اللهُ تعالى: «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا» (الإسراء، 17 / 111).
ونعرفُ من القرآن الكريم أنَّ النَّاسَ جميعاً مسؤولون عمَّا يفعلون، ولا يخرجُ من هذه القاعدة الأنبياءُ والرُّسل. قال اللهُ تعالى: «فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ؛ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ؛ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ؛ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ» (الأعراف، 7 / 6 – 9).
والنِّظامُ الثيوقراطيُّ يرى أنَّ ظُلمَ الظَّالم ليس من ذنبه، بل هو عقابٌ من الله تعالى للنَّاس ، مع أنَّ الله تعالى ينهى عن الظُّلم والرُّكون إلى الظَّالمين فيقول: «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ» (هود ، 11 / 113).
كما يجبُ مُساندةُ المظلوم ضدَّ الظَّالم. قال اللهُ تعالى: «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ؛ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (الشُّورى، 42 / 41، 42).
والمُشرِكُ هو الذي يقولُ إنَّ سلوكَه السَّيءَ لا يصدرُ إلَّا وفقاً لإرادة الله تعالى. قال اللهُ تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ» (النَّحل، 16 / 35).
النِّظامُ الثيوقراطيُّ يُقرِّرُ الطَّاعةَ المُطلقةَ للحُكَّام؛ لأنَّ طاعتَهم طاعةٌ لله تعالى، وقد اعتبرَ القرآنُ الكريمُ هذا من الشِّرك أيضاً؛ لأنَّ طاعةَ مَنْ يضعُ قانوناً يُخالفُ أحكامَ الله تعالى هي تأليهٌ له وإشراكٌ له مع الله تعالى، وقد عرفنا أنَّ الشِّركَ هو تقسيمُ ما يختصُّ به اللهُ تعالى من حُكمٍ أو صفةٍ بين الخلق، كما أنَّه ظُلمٌ لا يغفره اللهُ تعالى. قال اللهُ تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا» (النساء، 4 / 48).
القواعدُ المُتعلِّقةُ بالإدارة :
إنَّ القواعدَ التي جاءَ بها القرآنُ الكريمُ في إدارة الدَّولة هي قواعدُ عالميَّةٌ، ولها مُبرِّرٌ في كلِّ النُّظُم، وغيابُها يؤدِّي إلى الاضطراب والفوضى، ومَنْ خالفَ تلك القواعدَ مُخالفةً صريحةً وقَعَ في الحرج، وكلُّ نظامٍ ينطلقُ من تلك القواعد في إدارة الدَّولة فهو نظامٌ مثاليٌّ يُوافقُ نجاحاً كبيراً . ونودُّ الآن الوقوفَ على بعض تلك القواعد بالمقارنة مع النِّظام الثيوقراطيِّ:
1. العدالة :
يأمُرُ القرآنُ الكريمُ بالعدالة المُطلقة، لذا يجبُ على كلِّ حاكمٍ أن يكونَ عادلاً تجاه كلِّ فردٍ من أفراد المجتمع بغضِّ النَّظر عن دينه وقومه وعمره ووضعه الاجتماعي. قال اللهُ تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (النحل، 16 / 90).
أمَّا الثيوقراطيَّة فلا توجدُ فيها العدالةُ؛ لأنَّ الحاكِمَ العادِلَ يُمثِّلُ الإلهَ عندما يعدلُ في الرَّعيَّة، وكذلك الظَّالمُ المُستبدُّ بعثَه اللهُ ليُعاقبَ النَّاسَ بسبب ذنوبهم، فالحديثُ عن العدل في مثل هذا النظام يكونُ لغواً.
2. الحُرِّيَّة :
اختيارُ الدِّين والاعتقاد بإرادةٍ حُرَّةٍ سُنَّةٌ من سُنن الله تعالى التي لا تبديل فيها، وهي معنى قول جميع الأنبياء لأقوامهم «أنِ اعبدوا اللهَ ما لكم من إلهٍ غيرُه». لأنَّ العبادةَ في اللُّغة تعني الطَّاعةَ وهي الانقيادُ وامتثالُ الأوامر.[1] أي لا تعبدوا إلَّا الله، وعلى هذا فإنَّ النِّظامَ الثيوقراطيَّ مُخالِفٌ تماماً لدعوة الأنبياء والمُرسَلين؛ لأنَّه نظامٌ يأمُرُ النَّاسَ أن يكونوا عباداً للحُكَّام لا للهِ تعالى.
الأوَّل: حُرِّيَّةُ العقيدة والعبادة :
الإيمانُ هو جوهرُ الدِّين، وأصلُ الإيمان هو القَبولُ من صميم القلب، أي التَّصديق بالقلب، ولا يعلمُ ما في القلب من التَّصديق إلَّا اللهُ وصاحبُ هذا القلب، فقلبُ الإنسان حُرٌّ، فلا يُجبَرُ أحدٌ على قبول عقيدةٍ ما؛ لأنَّ الجبر على قبول العقيدة مُخالِفٌ للفِطرة. قال اللهُ تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (البقرة، 2 / 256).
وكذلك لا يُجبَرُ أحدٌ على العبادة؛ لأنَّها لا تصحُّ إلَّا بالنيَّة، وهي إصدارُ القرار من القلب في إجراء فعلٍ ما، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: “إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات”. ولا يعرف الهدَف والقصدَ من العبادة إلا اللهُ تعالى وصاحبُ العبادة؛ فمن الممكن أن يُجبَرَ أحدٌ على إقامة الصَّلاة فيتظاهرُ مُصلِّياً بأن يركع ويسجد، ولكن إذا لم ينوِ الصَّلاةَ لم يكُنْ مُصلِّياً، ولا فائدةَ من ركوعه وسجوده.
ليست هناك من حاجةٍ لطقوسٍ مُعيَّنةٍ أو حفلةٍ تُعقدُ ليُصبحَ الشَّخصُ مُسلماً، يكفي أن يُؤمنَ بما يجبُ الإيمانُ به من القلب، أمَّا في الدِّيانة النَّصرانيَّة فيجبُ التعميدُ ليُصبحَ الشَّخصُ نصرانيَّاً، ومثلُ هذه الطُّقوس تجعلُ المُنتسبين الجُدد تحت الوطأة الرُّوحيَّة لرجال الدِّين.
ليس من شأن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عقدُ الحفلات لقبول النَّاس في الدِّين، وما عليه إلَّا أن يقومَ بدعوتهم وبعد ذلك فمَنْ شاءَ فليؤمِنْ ومَنْ شاءَ فليكفُر. قال اللهُ تعالى: «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (القصص، 28 / 56).
الثَّاني: حُريَّةُ الإنسان في أن يعيش وفقَ اعتقاداته :
حُريَّةُ الاعتقاد لا تعني شيئاً في الحقيقة لأنَّها عملُ القلب الذي لا يُمكن السَّيطرةُ عليه، ولكن يُمكنُ القولُ بحريَّة الدِّين؛ لأنَّ ما يُفهَمُ من كلمة الدِّين هو جميعُ الأوامر والنَّواهي ذات المصدر الدِّينيِّ، وبمعنىً أكثرِ وضوحاً هي حُريَّةُ الإنسان في أن يحيى حسبَ ما يعتقدُ، أي وفقَ إيمانه.
بناءً على هذا التَّصوُّر فلا بُدَّ أن تكونَ المواطنَةُ والعدالةُ هي ما يحكُم علاقةَ الدَّولة تجاه مواطنيها وليس الإنتماءَ الدِّينيَّ أو الفكريَّ، وفي نظام الدَّولة عند المسلمين فقد عاشَ النَّاسُ حسب اعتقاداتهم المُختلفة، ولم يكن هناك ثمَّة إهانةٌ أو تحقيرٌ لعقيدةٍ من العقائد أو لأصحابها الموجودين في الدَّولة، ونضربُ مثالاً على ذلك هو سماحُ الدَّولة العُثمانيَّة بفتح الخمَّارة وتربية الخنزير لغير المسلمين؛ لأنَّه ليس إثماً في دينهم، بينما كان ممنوعاً على المسلمين، وفي ظلِّ هذا الفهم قبلتِ الدَّولةُ العُثمانيَّةُ اليهودَ الذين جاؤوا من إسبانيا هاربين، ووفَّرتْ لهم إمكانيَّةَ العيش في سلمٍ وطُمأنينةٍ، وقد أسَّسوا في تركيا جمعيَّةً خيريَّةً كذكرى لذلك وسمَّوها “وقف السَّنة 500 الميلاديَّة”.
3. إعمالُ العقل :
يتميَّزُ الإنسانُ عن الحيوان بعقله وبقدرته على فعل الخيرات، إلَّا أنْ يتَّبعَ شهواتِه؛ فاتِّباعُ الشَّهوات يُغيِّرُ فهمَه وتفكيرَه ونظرتَه إلى الأشياء، لذا أكثَرَ القرآنُ الكريمُ الدَّعوةَ إلى إعمال العقل، ولم تردْ كلمةُ “العقل” في القرآن الكريم، ولكن وردتْ أفعالٌ مُشتقَّةٌ منها 48 مرَّةً، وكلُّها تُفيدُ إعمالَ العقل. منها قوله تعالى: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ» (يونس، 10 / 100).
وقد وردتْ كلمةُ “الفؤاد” مع مُشتقَّاتها 16 مرَّة، وكلمة “ألباب” جمع “لب” مع مُشتقَّاتها 16 مرَّةً كذلك، وكلمة “اللُّب” تعني العقل الخالصَ من الشَّوائب دون غيره؛ لأنَّ أسيرَ شهواته وأمنياته _في الحقيقة_ يملكُ عقلاً، ولكنَّه لا يستطيعُ إعمالَه بشكلٍ صحيحٍ، حتَّى لو أعمَلَه لمْ يرضَ بالنتيجة، فعقلُه ليسَ خالصاً من الشَّوائب، ولإعمال العقل بشكلٍ صحيحٍ فلا بُدَّ من التخلُّصِ أوَّلاً من قيد الرَّغبات وأسر الشَّهوات.
والنِّظام الثُّيوقراطيُّ يُريد من المواطنين عدمَ إعمال عقولهم بتدخلُّهم في شؤون الدَّولة كما نرى ذلك واضحاً في قول جون كالفين: “إذا كان في النِّظام العامِّ ما يلزمُ إصلاحُه، فصاحبُ السُّلطة الوحيدة في هذا المجال هو الحاكمُ وحده، ولا ينبغي لأحدٍ من أفراد المجتمع أن يتدخَّلَ فيما ليس من شأنه فيُحدِثَ الاضطرابات، أعني أنَّه لا ينبغي لأحدٍ أن يقومَ بعملٍ إلَّا إذا أُمِرَ به؛ فإنْ أَمرَه الحاكمُ أصبحَ مسؤولاً مُصرَّحاً له من قبل السُّلطة العامَّة، والحكَّامُ الذين يحكمون وفقاً للمصلحة العامَّ يُمثّلون حقيقةً سيادةَ الإله”.
أمَّا القُرآنُ الكريمُ فالدَّعوةُ فيه واضحةٌ بأن يهتمَّ كلُّ واحدٍ من أفراد المجتمع بما يحدثُ حولَه وأن يقومَ بالإصلاح، وقد صرَّحَ أنَّ السُّكوتَ عن الخطأ يُوجِبُ اللَّعنةَ كما قالَ اللهُ تعالى: «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ؛ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ» (المائدة، 5 / 78، 79). وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رأى منكم مُنكراً فليُغيِّرْه بيده، فإنْ لم يستطعْ فبلسانه، فإن لم يستطعْ فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان».[2]
4. الخوفُ من الله وحده :
قال اللهُ تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» (المائدة، 5 / 44). «أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (التوبة، 9 / 13).
أمَّا في النِّظام الثّيوقراطيِّ فإنَّ الخوفَ من الحُكَّام واجبٌ كالخوف من الله تعالى، يقولُ جون كالفين: “والذي لا يقبلُ سُلطةَ الحاكم الذي هو أبو الدَّولة وراعي الشَّعب وحامي السِّلم ورئيسُ العدالة ومحامي الأبرياء يُعتبَرُ مجنوناً”.[3] فقد اعتبرَ عدمَ قبول سُلطة الحاكم بشكلٍ مُطلقٍ ضرباً من الجنون !
5. الوقوفُ ضدَّ الخطأ :
قال اللهُ تعالى: «وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا» (النساء، 3 / 104).
ونضربُ فرعونَ مصرَ مثالاً على الحاكم المُستبدِّ الظَّالم، فقد أنشَأَ مملكةً قويَّةً، واستخفَّ قومَه فأطاعوه، واستعبدَهم تبعاً لذلك، وقد ذَكَرَ اللهُ تعالى أمرَ فرعون وما كان عليه من طُغيانٍ وضلالٍ، فقال: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ؛ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ» (هود، 11 / 96-97). والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعلِّمُ أصحابَه عدمَ الرُّضوخ للحكَّام الظَّالمين، بل يجبُ جهادُهم بكلمة الحقِّ حتَّى يعودوا للرُّشد، فقد رُوِيَ أنَّ رجلاً سألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وقد وَضَعَ رجلَه في الغرز: أيُّ الجهاد أفضل؟ قال: «كلمةُ حقٍّ عند سُلطانٍ جائرٍ».[4]
أمَّا النِّظامُ الثُّيوقراطيُّ فقد ذهَبَ إلى تقديس ظُلم الحُكَّام بالزعم أنَّه من الله تعالى ليُعاقبَ النَّاسَ على ذنوبهم، وهذا النِّظامُ يَعتبِرُ قولَ كلمة الحقِّ عند سُلطانٍ جائرٍ إثماً لأنَّ الثيوقراطيَّةَ ترى أنَّ الحاكمَ على صوابٍ في كلِّ ما يفعل، فلا يجوزُ الخروجُ عليه. يقول جون كالفين: “وجميعُ الحُكَّام مهما كانت طبائعُهم يستحقُّون هذا التَّعظيمَ والاحترامَ والولاء (ولاء التَّديُّن)… وربَّما تقول: نفهمُ ممَّا سَبَقَ أنَّ التَّعظيمَ والاحترامَ لمَنْ يعدِلُ من الحُكَّام؛ ولكنَّكَ مخطئٌ في كلامك؛ ذلك لو أنَّا لاقينا الاضطهادَ من الظَّالم، أو نَهَبَ أموالَنا المُترفون الجشعون أو أهملَنَا الكُسالى من الحُكَّام أو أُوذينا من وُلاة العهد مع أنَّنا أبرياءٌ فلنتذكَّرْ أنَّ كلَّ ذلك بسبب ذنوبنا؛ لأنَّه لا شكَّ أنَّ الإلهَ أرادَ أن يُعاقبَنا بسبب سيِّئاتنا تلك، وإيمانُنا بهذا الفكر يجعلُنا نصبرُ على طاعة المُلوك بالرَّغم من إيذائهم إيَّانا، وإذا علِمنَا أنَّ إصلاحَ تلك السَّيئات ليسَ واجباً ، فما علينا إلَّا أن نستعينَ بالإله الذي بيده قلوبُ جميع الملوك”.[5]
وما عرفناه من تعاليم القُرآن الكريم أنَّ كونَ الشَّخص في مقام الحُكم لا يعني ذلك أنَّه معصومٌ أو أنَّ سلوكَه سيكونُ حتماٌ موافقاٌ للمبادئ التي جاء بها القرآنُ الكريم. بل إنَّ المُخطِئَ يلقى جزاءَه من أيِّ صنفٍ كان. وقد حكى لنا القرآنُ حالَ فرعون مع قومه وموقفَ موسى عليه السَّلام من ذلك: «وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ؛ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ» (الزخرف، 43 / 51، 52)؛ «وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ؛ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ» (غافر، 40 / 26، 27). لقد قامَ موسى عليه السَّلام بإنذار فرعون بما أوحى اللهُ إليه، ولكنَّ فرعونَ ازدادَ طُغياناً، وهذا يدُلُّ على وجوب العمل لمنع الظُّلم بقدر الإمكان بعيداً عن التَّحريض السِّياسيِّ، ولكنَّ النِّظامَ الثيوقراطيَّ لا يقبلُ بهذا.
أضف تعليقا