أ. الحزب القائمُ على أساس الدِّين :
نرى أنَّ مُصطلحَ “الحزب الإسلامي” مصطلحٌ غيرُ صحيح، فليس هنالك حزبٌ إسلاميٌّ، ولكن يُمكنُنا أن نُسمِّيه بـ “حزب المسلمين”، وبين التَّسميتين بونٌ شاسعٌ؛ فالإسلامُ دينٌ هدفُه هدايةُ النَّاس إلى طريق السَّعادة في الدَّارين، فلا يجوزُ أن يكونَ وسيلةً لنيل المنافع الدُّنيويَّة، وقد قالَ كلُّ واحدٍ من الأنبياء والرُّسُل: «وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ» (الشعراء، 26 / 180).
الذين يُعارضون الدِّين خلطوا في الحقيقة بين الأمرين؛ تبليغِ الدِّين والصِّراعِ على السُّلطة، ومن هنا نعرفُ أهمَّيَّةَ الحوار الذي جرى بين موسى عليه السَّلام وفرعون مصر، قال اللهُ تعالى: «وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ» (الأعراف، 7 / 104-105). وقال: « أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؛ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ؛ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ؛ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ؛ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ؛ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ؛ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» (الشعراء، 26 / 17-26).
نرى في هذه الآيات بوضوحٍ أنَّ فرعون يُحاولُ تقديمَ موسى كمَنْ يُصارع على السُّلطة بالرَّغم من وضوح ما يُريده موسى وهو أن يُرسِل معه بني إسرائيل، فيقول: «فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ». أمَّا الملأُ من قوم فرعون: «قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى» (طه، 20 / 63). وفرعون يعرفُ جيِّداً أنَّ موسى عليه السَّلام لا يُريدُ منه غيرَ أن يُرسلَ معه بني إسرائيل، لأنَّ قولَ الحقِّ ليس من مصلحته، لذلك تصرَّفَ كأنَّه لمَسَ أنَّ لموسى أهدافاً أُخرى، فبدأَ بتغرير شعبه وتأليبهم عليه.
لذا ليسَ من الصَّحيح أن يكون الإسلامُ وسيلةً للوصول إلى الحُكم، لأنَّ هذا يؤدِّي إلى أن يتَّخذَ الحُكَّامُ مواقفَ تلقائيَّةً تتميَّزُ بالسَّلبيَّة تجاه الإسلام لكي لا يفقدوا ما في أيديهم من السُّلطة السِّياسيَّة، كما أنَّ استخدامَ الإسلام وسيلةً للوصول إلى الحُكم يُحرِّكُ ويُنشِّطُ المُولعين الطَّامحين إلى السُّلطة، وفي نهاية المطاف يُعلنُ البعضُ عداءَه للإسلام ليحفظَ عرشَه، هذا من ناحية، ومن النَّاحية الأُخرى يجعلُ بعضُ الطَّامحين من الدِّين الإسلاميِّ وسيلةً لتحقيق الأهداف في الوصول إلى الحُكم، والنَّتيجةُ أنَّ كِلا الطَّرفين شكَّلا مانعاً من التَّفكير الصَّحيح حول الإسلام.
لا يوجدُ حزبٌ للإسلام، ولكن من الممكن أن يكون للمسلمين حزبٌ أو أحزابٌ كثيرةٌ، وهم يطرحون برامجَهم، حيث يستطيعون أن يُثبتوا من خلالها أنَّهم على قدر المسؤوليَّة، ويشتركوا مع الأحزاب الأخرى في المنافسة ليصبحوا حزباً حاكماً.
والحزبُ الفائزُ له الحقُّ في تشكيلِ الحكومة، يحكُمُ باسمه وليس باسم الدِّين، فإنْ أحسنَ في الحُكم فلإدارته أجرُها، وإنْ أساءَ فلإدارته وزرها، ذلكَ أنَّه لا يصدُرُ من الإسلام خطأٌ، أمَّا المُسلم فمنَ المُمكن أن يُخطئ.
حُريَّةُ الدِّين قضيَّةٌ مُهمَّةٌ للغاية، والاعترافُ بحريَّة الاعتقاد دون حريَّة الدِّين لا يعني شيئاً، لأنَّ الاعتقادَ من عمل القلب، أمَّا الدِّين فليسَ كذلك، وعند إطلاق كلمة “الدِّين” يُفهَمُ منها جميعُ أوامره ونواهيه. فالحُريَّةُ الدِّينيَّةُ تعني أنْ يحيى الإنسانُ حسب ما يعتقد، والإسلامُ يُوفِّرُ للإنسان أن يحيى حسَبَ ما يعتقدُ، ويُحرِّم الضُّغوطَ على دينٍ ما أو تحقيره أو إهانته.
وفي ظلِّ هذا الفهم أذنَتْ الدَّولةُ العُثمانيَّةُ بفتح الخمَّارة وتربية الخنازير لغير المسلمين، ومنعتْ المُسلمين عن ذلك، وقد وجَدَ غيرُ المسلمين حريَّتَهم الدِّينيَّة في ظلِّ الدَّولة العثمانيَّة، لذا لجأَ إليها اليهودُ الذين هربوا من إسبانيا وعاشوا أسعَدَ أيَّام حياتهم في ظلِّها، وقد أنشأَ اليهودُ مؤسَّسةً خيريَّةً باسم (المئة الخامسة) لتكونَ ذكرى لتلك الأحداث.
أمَّا اليوم فلم يبقَ من ذلك الجوِّ المُتسامح شيئاً؛ لأنَّ الملحدين وغيرَ المُتديِّنين من أصحاب الصَّدارة في الحياة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة قد نبذوا التَّسامح وسلكوا طريق التَّطرُّف والتَّشدُّد، وقد تظَاهَرَ بعضُ المُلحدين بأنَّهم مُسلمون، فازدادتْ المشاكلُ تعقيداً.
إنَّ الأحزابَ السِّياسيَّةَ التي أُسِّسَّتْ منذ العام 1946 م أصبحتْ تتنافسُ في استغلال الشُّعور الدِّينيِّ عند الشَّعب للحصول على مزيدٍ من الأصوات الانتخابيَّة، لكنَّ تلك الأحزاب ليست سواءً فمنها ما يُدارُ من أصحاب النَّوايا الحسنة، كما أنَّ منها مَنْ تُريدُ استغلال الشُّعور الدِّينيِّ للوصول إلى مبتغاها.
وقد جاء في المادَّة 24 من الدُّستور التركيِّ ما يلي: “ليس من حقِّ أحدٍ أن يستغلَّ الدِّينَ أو الشُّعورَ الدِّينيَّ أو الأماكنَ الدِّينيَّةَ”.
فاستغلالُ الدِّين للوصول إلى السُّلطة نفاقٌ، ومن الصَّعب أن يُميَّزَ بين النِّفاق وبين التَّديُّن الحقيقيِّ، لا سيَّما حينما يحدث الاختلافُ والتَّنازعُ في الأمور الدِّينيَّة فتسنحُ الفرصةُ أمام المنافقين للطَّعن في الدِّين والإساءة إليه؛ حتَّى إنَّهم ليتَّهمون المؤمنين الحقيقيِّين بأنَّهم يستغلَّون الدِّين، وهذا قلبٌ للحقيقة رأساً على عقب، وهو ما يحدثُ الآن في تركيا.
كما أنَّ هناك مَنْ يُعادي كلَّ ظاهرةٍ دينيَّةٍ باسم العلمانيَّة، ويعملُ جاهداً على إبعاد النَّاس عن الدِّين بمنع التَّعليم الدِّينيِّ باسم الحداثة والمُعاصرة، وقد يُبرِّرُ فعلَه بأنَّه ضدُّ الاستغلال الدِّينيِّ مُتظاهراً أنَّه يحترم الدِّين، ظنَّاً منه أنَّ هذا الموقف سيُقلِّلُ من ردود الفعل الغاضبة عليه، ولكنَّ العاقبة تأتي بعكس ما يريد، حيث تزدادُ ردودُ الفعل حدَّةً كلَّما شَعَرَ المُسلمون بنفاقه واستهزائه بهم. وقد كان النِّفاقُ مُشكلةً في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما أخبرنا بذلك القرآنُ الكريم. قال اللهُ تعالى: «وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (النساء، 4 / 81).
ومن المعلومِ أنَّ الدِّينَ عالميٌّ لا يقف عند حدود الزمان والمكان، وبعبارةٍ أُخرى فإنَّ للدِّين قواعدَ لا تتغيَّرُ وإنْ تغيَّرتِ الأماكنُ والأزمنةُ، أمَّا سياساتُ الدُّول وقوانينُها فإنَّها تتغيَّرُ حسب الزمان والمكان وفقاً للاحتياجات والظروف الطَّارئة، والدَّولةُ المُعترِفة بحريَّة الدِّين فإنَّها تُنظِّمُ قوانينَها وفقاً لما يتطلَّبُه مفهومُ الحريَّة الدِّينيَّة، فليس من المنطقيِّ أن تفرضَ الدَّولةُ قانوناً يُلغي شعيرةً دينيَّةً، لأنَّه من المستحيل أن يقبل المُتديِّنُ التعديلَ في دينه.
ولمزيدٍ من التَّوضيح نضربُ هذا المثال: وَرَدَ في الآية 31 من سورة النُّور الأمرُ للمؤمنات بتغطية رؤوسهنَّ، وهو أمرٌ قد لقي قبولاً عند كلِّ المؤمنين والمؤمنات منذ نزول الآية حتى يومنا هذا بدون أدنى خلاف، وجلُّ المسلمات في تركيا والبلدان الأخرى يُغطِّينَ رؤوسَهنَّ، لذلك فإنَّ منعَ المسلمات من غطاء رؤوسهنَّ هو تعدٍّ على الحُريِّة الدِّينيَّة، وقد أحدَثَ ذلك احتجاجاتٍ واسعةً في بعض البلدان، وما تزالُ تلك الاحتجاجاتُ وستبقى ما دامَ القرآنُ الكريمُ موجوداً، كما أنَّه ما يزالُ هناك مَنْ يستغلُّ هذه القضيَّةَ ما دامت الاحتجاجاتُ موجودةً، حيثُ يُدافعُ حزبٌ عن غطاء المسلمات رؤوسهنَّ ويُعارضُ ذلك حزبٌ آخر !
إنَّ محاولةَ الملحدين وغيرِ المُلتزمين الهادفين إلى حصرِ الدِّين في الضَّمائر والقلوب دون إبراز شعائره هي طريقُهم لإيجاد بيئةٍ مُناسبةٍ تُطبَّقُ فيها العلمانيَّة كنظامٍ لادينيٍّ مُعادٍ للدِّين، فلا يبقى بعدئذٍ مجالٌ للعقل أن يُفكِّرَ إلَّا وفقاً لما تهواه الأنفس.
وفي هذه الحالة المُضطربةِ تُعقَدُ الانتخاباتُ، ويُصوِّتُ النَّاخبون للأحزاب حسب الشُّعور والعاطفة، لا حسبَ ما تُقدِّمُه تلك الأحزابُ من خدماتٍ للمواطنين لتطوير البلد؛ فما يهمُّ أكثرَ النَّاخبين هو أن يُوفِّرَ الحزبُ الفائزُ للمُتديِّنين الإمكانيَّاتِ اللازمةَ لأداء شعائر الدِّين فقط، أمَّا الملحدون ومَنْ معهم من المنافقين فأكبرُ همِّهم منعُ النَّاس عن ذلك وإبعادُهم عن الدِّين. وبهذا يفوز الطَّرفان المُتناقضان من الأحزاب ويدخلان البرلمان للعمل معاً ويترتَّبُ على ذلك فسادٌ سياسيٌّ عريضٌ.
أمَّا المُخلصُ من السِّياسيِّين إمَّا أن يختفيَ كُليَّاً بسبب مواصلته خدمة المواطنين بإخلاص، أو أن يُغيِّرَ موقفَه السِّياسيَّ حسب المصالح.
حسب مفهومنا للدَّولة، لا يُمكنُ استغلالُ الدِّين ما دامت الدَّولةُ لا تتدخَّلُ في أمور الدِّين، وبهذا لا نُلقي بأيدينا إلى التَّهلكة، وفي حال كهذا يُفتحُ الطَّريقُ أمام المُخلصين من السِّياسيِّين لخدمة الدَّولة، ويقلُّ عددُ الأحزاب السِّياسيَّة لأنَّه لا يبقى هناك شعورٌ دينيٌّ ليُستغلَّ، كما تتولَّدُ الحاجةُ لتدريب السِّياسيِّين المُخلصين، وهو أمرٌ ليس بسهلٍ؛ إذ إنَّه يحتاج إلى المعرفة الكافية والخلفيَّات الثقافيَّة والكوادرِ المؤهَّلةِ.
أمَّا استغلالُ الشُّعور الدِّينيِّ فليس بأمرٍ صعبٍ، فيلجأُ إليه العابثون فيفوزُ فيه أصحابُ الأصوات العالية والمُتفنِّنون في الكذب وخداع النَّاس.
أضف تعليقا