قال الله تعالى: “تلك آيات الكتاب المبين” (يوسف، 21/2 ؛ الحجر، 15/1، الشورى، 26/2 ؛ القصص، 28/2 ؛ الدخان، 44/2). هذه الآية قد افتتحت بها كثير من سور القرآن الكريم. و في آية أخرى قال الله تعالى: “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ” (النحل، 16/89).
فالقرآن الكريم مبين من الله تعالى للناس، وهو يشبه بسطه الرزق لعباده. والمشترك بينهما هو عدم الحصول على أيهما دون بذل الجهد وتحري الخير منهما، فكما أنه لن يعيش الشخص حياة كريمة إلا بالعمل والانتاج، فكذلك لا يمكن فهم آيات الكتاب العزيز على الوجه الصحيح دون بذل الجهد والتمعن والتدبر والتفقه في أحكامه ومعانيه، يقول الله تعالى: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ” (الروم، 30/40).
الرزق: هو كل ما يتمتع به الإنسان من مأكل، ومشرب، ومسكن، ومطر، وعلم. والإنسان يحتاج إلى بذل جهد كبير أو يسير للحصول على ضروريات الحياة، ولا يتصور عاقل أن تتحقق مطالبه إن لم يسع لتحقيقها. فانظر مثلا؛كم نبذل من الجهد لتأتي قطعة الخبز إلى المائدة! كم من الأيدي عملت؟ وكم من الجهود بُذلت؟ ابتداء بالزراعة والحصاد وانتهاءً بتقديمها على موائدنا وما بينهما من الأعمال اللازمة. إنّ الله _ جلّ شأنه_ خلق البذور، والتراب، والماء، والشمس، أي أنه _سبحانه_ خلق كلَّ ما نحتاج إليه في الحصول على الرزق. ولا يبقى للإنسان إلا القيام بترتيب الأمور للحصول على رزقه. يقول الله تعالى: “إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ” (الإسراء، 17/30).
والاستفادة من القرآن الكريم مثل الاستفادة مما بسط الله تعالى من أسباب الرزق. وكثير من الآيات لا تحتاج إلى التفسير. غير أننا نحتاج إلى بذل جهد وافر للوصول إلى معاني بعض الآيات. وقد تكفل الله تعالى ببيان القرآن حيث وضح لنا طريقة الوصول إلى كيفية تفسير الآيات. قال الله تعالى: “لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ” (القيامة، 75/16-19)
و يعرف القرآن الكريم عند العامة؛ أنه كتاب ديني يضع أحكاما محدودة فيما يتعلق بالعقائد، والعبادات، والأخلاق، بيد أن الآيات التي تتعلق بتلك الأحكام لا تتجاوز الألف، مع أن كل واحدة من تلك الآيات قد تتعلق بمواضع أخرى. ومن الخطأ تحديد القرآن بحدود معينة بعد أن بين الله تعالى أنه قد بين فيه كل شيء، حيث قال سبحانه “ما فرطنا في الكتاب من شيء”.
وللوصول إلى تفسير القرآن الكريم لا بد من معرفة المناسبات والروابط بين الآيات، وهي تشبه مناسبة الأرقام فيما بينها، فهناك أرقام من صفر إلى تسعة، ويتم بها كل ما نريد من الحسابات والإحصائيات. ويمكن للإنسان الحساب بهذه الأرقام على قدر معرفته بالمناسبات فيما بينها. فالبعض قد يعرف على قدر ما يحتاج إليه من الحسابات اليومية من شراء المستلزمات المعيشية؛ والبعض الآخر قد يكون عندهم معرفة أوسع بحيث يستعمل الحاسوب الآلي، والتقنيات الفضائية وما إلى ذلك من التقنيات الحديثة. وبالتالي فأنّ باستطاعة كل إنسان أن يستفيد من تلك الأرقام على قدر معرفته الشخصية. وكذلك الإستفادة من القرآن الكريم؛ حيث إن البعض يقرأ القرآن الكريم من أجل الثواب فقط، وقد سماهم القرآن بـ ال «أميين».[1] وعند البعض الآخر ملكة تبلغهم معرفة التفسير والبيان، وهؤلاء يسمون بـ «الراسخون في العلم».
وفي حادثة إحضار عرش بلقيس من اليمن لخير مثال على ما نقول. فقد كان سليمان عليه الصلاة والسلام يعرف منطق الطير، وكان له سلطنة يحكم بها على الجيش المكون من الطير، والجن، ومن غيرهم. وقد خرجت بلقيس من اليمن إلى القدس مستسلمة لسليمان عليه الصلاة والسلام بعد أن عرفت عدم قدرتها على مقاومة جيشه، وكان لها عرش عظيم، وحينما عرف سليمان عليه الصلاة والسلام أن بلقيس في الطريق إليه، جمع الملأ وقال لهم: «.. يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ » (النمل،17/38-40).
فالذي عنده علم من الكتاب جاء بعرش بلقيس من اليمن إلى القدس بطرفة عين، وهذا الجني قد استمد علمه من التوراة، لأنه كان لدى نبي من أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى وهو سليمان عليه الصلاة والسلام، فلا يمكن أن يفهم من «الكتاب» غير « التوراة».
والتعبير بـ «الذي عنده علم من الكتاب» بدل التعبير بـ «الذي يعرف الكتاب» مهم للغاية؛ إذ لا يلزم معرفته للكتاب كله، بل كان كافيا أن يعرف الآيات المتعلقة باختصاصه، وهي معرفة الإتيان بالأشياء البعيدة. واليوم هناك محاولة في استشعاع الأشياء، (محاولة إرسال الأشياء باستعمال قوة الأشعة) ولكن لا يتخيل في الوقت الحاضر إحضار الأشياء البعيدة بهذه الطريقة.
والذين يعدون القرآن كتابا دينيا بحتا، لا يمكنهم معرفة تلك الآيات، لذا عانى المفسرون من صعوبات في فهم بعض الآيات. حيث ظن بعضهم أنها كرامة، والبعض الآخر قالوا إنها من معجزات سليمان عليه الصلاة والسلام، فوقعوا في التناقض.
المعجزة هي علامة نبوة نبي ؛ والكرامة هي إكرام الله تعالى لعبده بإظهار بعض الخوارق علي يديه. وبالتالي فالمعجزة والكرامة كلتاهما من الله، ولا يجوز ادعاؤهما لأي أحد. قال الله تعالى: «وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ» (الرعد، 13/38).
وفي حادثة إحضار العرش لفتة لا بد من الإشارة إليها. قال الذي عنده علم من الكتاب لسليمان عليه الصلاة والسلام «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ » إذ لم يكن هذا من قبيل المعجزة أو الكرامة، وإنما هو العلم المحض من كتاب الله تعالى كما بينته الآية. وهذا العلم لا بد وأنه يوجد في القرآن الكريم مثله أو أعظم، ويمكن الوصول إلى هذا العلم بإستقراء الأساليب التي بينها القرآن الكريم.
أ. تفسير القرآن بالقرآن
قال الله تعالى: «الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» (هود، 11/1).
فالقرآن الكريم مبين بنفسه، وقد وضح لنا النبي صلى الله عليه وسلم بسنته أي بتطبيقه ما أوحي إليه بين المؤمنين. وقد بين لنا القرآن الكريم كيفية الاستفادة من الكتب السماوية السابقة. كما أن الآيات التي تلفت النظر إلى العلاقة بين الإسلام والفطرة تدل على أهمية الفطرة في فهم القرآن الكريم. كما أن للغة العربية أهمية كبرى لأن القرآن الكريم نزل باللغة العربية. فبهذا المنهج يمكن الوصول إلى فهم القرآن الكريم فهما صحيحا.
المحكم: ما أُحكم من الكلام، وما كان واضح الدلالة بحيث لا يحتمل شبهة في اللفظ ولا في المعنى. فالآيات المحكمة مبينة من الله تعالى، فتكون هي المفسرة للآيات الأخرى. وعلى هذا تنقسم آيات القرآن الكريم إلى آيات محكمات وأخرى مفصلات (متشابهات). والآية التي تتحدث عن هذا الموضوع هي قوله تعالى: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ..» (الزمر، 39/23).
المتشابه: يطلق على شيئين بينهما التشابه. ومَثَانِيَ جمع مثنى أو مُثنى أو مثن. فآيات القرآن يتشابه بعضها مع بعض، وتتكرر على شكل المثاني. وهذا يدلُّ على وجود التشابه والعلاقات الثنائية بين كثير من الآيات، والآيات المتشابهات لا يسهل فهمها على كل إنسان. يقول الله تعالى: «كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (فصلت، 41/3).
«قوم يعلمون» هم الذين يجدون المناسبات بين الآيات المتشابهات، والقوم: جماعة الرجال في الأصل دون النساء. وفي القرآن يراد به الرجال والنساء جميعا.[2] وكون القرآن عربيا يتطلب أن يكون في القوم من يعرف اللغة العربية إلى درجة الامتياز والتفوق. كما تدل على ذلك الآية «الراسخون في العلم» أي: أنهم قد بلغوا من العلم إلى درجة الثبات. قال الله تعالى: «هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ» (آل عمران، 3/7).
التأويل: من الأول، أي: الرجوع إلى الأصل، ومنه: الموئل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه. والموضوع الأصلي المستهدف من الآيات المتشابهات هو الآيات المحكمات. والذي أول المتشابهات هو الله تعالى بإرجعها بالروابط والمناسبات إلى المحكمات، والمحكمات إلى المتشابهات وَأما الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فيبحثون عنها و يجدونها ولذا قال الله تعالى: ” وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ “.
«فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ» أي أنهم لا يراعون المناسبات والعلاقات الثنائية بين الآيات ويُؤوِّلونها على حسب هواهم بنية إيقاع الفتنة بين المسلمين.
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ربما أخطأوا في إقامة العلاقة وفهم المناسبات بين الآيات وهذا لا يصدر منهم عن سوء نية، وهم ليسوا ممن ذمهم الله تعالى في الآية السابقة, لأنهم لا يبتغون الفتنة ولا يؤولون الآيات على حسب هواهم.
وهم “يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا” أي: الله الذي أنزل الآيات منها محكمات وأخر متشابهات هو الذي أولَّ بعضها ببعض، أي: أرجع بعضها إلى بعض حيث ربط بينها بالمناسبات والعلاقات الثنائية ونحن نحاول ونبذل الجهد لنجد الروابط التي أقامها الله تعالى بين تلك الآيات.
والذي لا يفهم المناسبات والعلاقات الثنائية أعطى لكلمة المتشابه، والمثاني معنى يخالف المراد، فأُوِّلَ كثير من الآيات تأويلا خاطئًا، فجرّت هذه التأويلات الخاطئة كثيرا من الناس ورجال الفكر والمؤسسات التشريعية إلى صعوبات في الفهم وبالتالي إلى إستنتاجات خاطئة. وعلى سبيل المثال؛ موضوع الطلاق، والنكاح، والولاية في النكاح، والربا، فهذه الموضوعات قد أخذت نصيبها الوافر من التأويلات الخاطئة. كما يوجد آيات كثيرة لم تفسر أو فسرت تفسيرا يخالف المعنى المراد. كما نجد ذلك في تفسير قوله تعالى: “سمعنا وعصينا” والآية الخامس عشرة من سورة الحج؛ وهي قوله تعالى: «مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ».
إنّ عدم رؤية التضامن والتناسق بين القرآن والسنة النبوية ما هو إلا نتيجة لغياب المناسبات والروابط والعلاقة الثنائية بين الآيات. وكثير من العلماء اعتبروا السنة النبوية مصدرا ثانيا مستقلا للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم، فازداد بذلك انقطاع الروابط بين القرآن والسنة النبوية. كما أدى هذا الموقف من العلماء إلى القول بأن القرآن يخالف الحديث النبوي أو أن الحديث يشرع من الأحكام غير ما شرعه القرآن. كما رأينا ذلك الانقطاع بين آية الربا والأحاديث التي تتحدث عن بيع الملح والذهب والفضة والقمح والشعير والتمر. وحتى بلغ الأمر بالبعض أن يقول بأن الحديث ينسخ القرآن الكريم.. والحق أنّ القرآن لا ينسخ الحديث ولا ينسخ الحديثُ القرآن. ولكن يمكن القول بأن القرآن ينسخ بعضه بعضا والحديث كذلك.
والمشاكل والصعوبات التي نشأت من عدم إقامة الربط بين الحديث والقرآن الكريم أدت إلى فهم خاطئ، وجعلت بعض العلماء لا يعطون لبعض الأحاديث النبوية حقها من الاهتمام. ومن ناحية أخرى ظن البعض أنّ مصدر الصعوبات هو القرآن الكريم؛ قائلين إن القرآن محدود بالزمان والمكان الذي أنزل فيهما؛ فأوَّلوا الآيات تأويلا خاطئًا وأبعدوا المسلمين عن القرآن الذي يكفل لهم الحياة الطيبة، ويضمن لهم سعادة الدارين. والخطأ المشترك عند كثيرين هو تلقيهم كل ما في المؤلفات القديمة وأخذهم مِمّن عُدَّ عالماً وعدم النظر في الكتاب والسنة. ولو أنهم نظروا إلى الآيات لما وقعوا في الخطأ.
ونقف الآن على بعض المصطلحات الهامة في تفسير القرآن الكريم مثل المحكم، والمتشابه، والمثاني، والتأويل، وذلك بالمقارنة بين معانيها التي فهمها العلماء ومعانيها التي نفهمها في سياق الآيات القرآنية.
المحكم: ما أحكم من الكلام، ولا يحتمل شبهة في المعنى ولا في اللفظ.[3] والآيات المحكمات تفيد حكما قاطعا ولا يوجد فيها الخلاف.
المتشابه: أصلها من الشِّبْهُ و الشَّبَهُ و الشَّبِـيهُ: الـمِثْلُ، والـجمع أَشْباهٌ. و أَشْبَه الشَّيْءُ الشيءَ: ماثله.[4] وقد وردت هذه الكلمة بهذا المعنى في ثمانية مواضع من كتاب الله العزيز، وهذه الآيات كالتالي:
1. «وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (البقرة، 2/25).
2. «قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ» (البقرة، 2/70)
3. «وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (البقرة، 2/118).
4. «وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (الأنعام، 6/99).
5. «وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (الأنعام، 6/141).
6. «قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» (الرعد، 13/16).
7. «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ» (الزمر، 39/13).
8. «هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ» (آل عمران، 3/7).
وقد قال العلماء في الآيات السبعة السابقة أن “المتشابهات” بمعنى المتماثلات، ولكنهم قالوا: إن المتشابهات: في الآية السابعة من آل عمران بمعنى «أنه لم يفصل فيهن القول كفصله في المحكمات، وتتشابه في عقول الرجال ويتخالجها التأويل»[5]
على أن المحكمات “هن أم الكتاب وأخر متشابهات فالقسم الكبير من القرآن متشابهات. لأن الأم دائما قليل، أما الآخر فكثير. فالقول السابق عن المتشابهات يحمل في طياته أن معظم القرآن غير مفهوم. وهذا كلام لا يقبل؛ لذا حاول بعض العلماء أن يضع حدا للمتشابهات بدون أن يستند إلى أي دليل. وقد روى الطبري عن ابن عباس قوله: «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب»، المحكمات: ناسخه، وحلالُه، وحرَامه، وحدوده وفرائضُه، وما يؤمن به ويعمل به = قال: «وأخر متشابهات»، والمتشابهات: منسوخه، ومقدّمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يُعمل به.[6]
أما الراغب الأصفهاني فقال: المتشابه على ثلاثة أضرب: (1) ضرب لا سبيل للوقوف عليه، كوقت الساعة، وخروج دابة الأرض، وكيفية الدابّة ونحو ذلك. (2) وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته، كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة. (3) وضرب متردد بين الأمرين يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم، ويخفى على من دونهم.[7]
وألماليلي حمدي يزير حاول أن يوضح الموضوع توضيحا علميا، فقال: التشابه هو المماثلة بين شيئين متساويين ويقال عن كل واحد منهما المتشابه حيث يصعب التفريق بين كل من المتشابه عن الآخر. وفي التشبيه والمشبه والمشبه به يكون أحد الطرفين أقوى من الآخر في وجه الشبه. أما في التشابه فيتساوى كلا الطرفين في وجه الشبه. فتختفي الفوارق من شدة التشابه، فيصعب التفريق بينهما كما في هذه الآية: «إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا» (البقرة، 2/70). «تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُم» (البقرة، 2/118). «وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً» (البقرة، 2/25). فالتشابه سبب في عدم التمييز وهو المعنى اللازم لكلمة التشابه.[8]
وهذا التفسير الذي نقله ألماليلي حمدي يزير عن فخر الدين الرازي ليس تفسيرا علميا كما ادعاه، وقد نقله عن فخر الدين الرازي.[9] وعندما فسر ألماليلي الآيات السابقة كان بعيدا عن ذلك الخطأ القائل بأن المتشابه هو ما يفهم معناه. وقال في تفسير الآية الخامسة والعشرين؛ وهل الفواكهة في الدارين من جنس واحد؟ كلا ليست من جنس واحد، وهو التشابه فقط، يشبه بعضها بعضاً بوجه ما، ويفترق في الحقيقة بفوارق كثيرة.[10] أي ليس فيها الاشتباه بمعنى الخلط.
وتفسيره للآية السبعين من سورة البقرة كالتالي: «اشتبه علينا البقر، ولم نعرف البقر المقصود، كلما نسأل عن وصف يأتي بأوصاف قد توجد في الأبقار الأخرى».[11] والأوصاف التي توجد في الأبقار الأخرى هي أوصاف متشابهة.
أما في الآية الثامنة عشرة بعد المائة فيقول: «كما ترى أن قلوب هؤلاء كمثل قلوب من سبقهم، فتشابهت مشاعرهم وأفكارهم».[12] والتشابه هنا في الشعور والأفكار، وليس عدم التمييز بينهم من كل جهة.
وقد جاء المفسرون والأصوليون بشيء آخر غريب للغاية؛ حيث قالوا إن القرآن كله محكم مستدلين بالآية الأولى من سورة هود. وقال بعضهم إن القرآن كله متشابه مستدلا بالآية الثالثة والعشرين من سورة الزمر، وقال آخرون إن القرآن منه المحكم و منه المتشابه مستدلين بالآية السابعة من سورة آل عمران.[13]
ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان في المتشابه. غير أنه روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم”.
وهذا الحديث كذلك لم يبين المتشابه. لذا من الضروري أن نفهم منها معناها اللغوي المعروف بين الناس. قال الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (إبراهيم، 14/4).
ومما سبق يتبين أن فهم العلماء للمتشابه لا يستند إلى القرآن ولا إلى الحديث ولا اللغة العربية ولا إلى أي من الحقائق العلمية. كما يجعل هذا الفهم من القرآن الكريم كتابا غير مفهوم سوى آيات قليلة منه، بالرغم من كونه كتابا مبينا كما دلّ على ذلك قوله تعالى: «تلك آيات الكتاب المبين» لذا لا يمكن قبول هذا الفهم بأي حال من الأحوال.
والمتشابه يطلق على شيئين متماثلين، وهو يختلف عن التشبيه، فالتشبيه ليس لإفادة التماثل بل لإفادة القوة والتأثير في المعنى. عندما يقال: «رجل كالأسد» أو «ولد كالثعلب» يقصد بها تشبيه الرجل بالأسد في الشجاعة، والولد بالثعلب في المكر. والحقيقة أنّ الرجل لا يشبه الأسد كما لا يشبه الولد الثعلب. أي لا يلزم التشابه التام بينهما. والأشياء المشتبهات تكون في الجنس، والنوع، والصنف وبهذه الطريقة تعرف الأشياء، وتتكون المعرفة ويُتوصل إلى الأهداف الجديدة.
ونفهم من الآية السابعة من سورة آل عمران والآية الثالثة والعشرين من سورة الزمر أن آيات القرآن الكريم متشابهات. لأنه يفسر بعضُها البعض الآخر. إذن نتعلم القرآن كما نتعلم الأشياء، نقسم الآيات المتشابهات إلى مجموعات لنعرف معاني القرآن الكريم. وعلى أن التشابه يكون بين شيئين على الأقل فهذا يؤكد وجود العلاقة الثنائية بين الآيات القرآنية، كما يؤيد ذلك كلمة «المثاني».
و«مثاني» جمع مثنى أو مثنى أو مثن.[14] وقد ذكرت كلمة «مثاني» في الآيات الأربع التالية:
1. «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ» (النساء، 4/3).
2. “قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ” (سبأ، 34/46).
3. «الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (الفاطر، 35/1).
4. «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ» (الزمر، 39/23).
وذكرت كلمة “مثاني” في قوله كعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» (الحجر، 15/87). فـ «ال» التعريف في كلمة «المثاني» هنا تشير إلى المثاني المذكورة في سورة الزمر. ونفهم من هاتين الآيتين أن الآيات كلها مثاني.
إن الآية السابعة والثمانين من سورة الحجر قد لفتت النظر إلى المثاني السبع وهي آيات سورة الفاتحة. فالفاتحة خلاصة القرآن وأعظم سوره. عن أبي السعيد المعلى: قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله «استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم» (الأنفال، 8/ 24). ثم قال: إني لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته. ما أنزل الله مثلها في التوراة ولا في الإنجيل.[15]
إذا لم تربط العلاقات بين الآيات لا تفهم المثاني فهما صحيحا. قال كثير من العلماء إن المثاني بمعنى التكرار أي تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام والحكم، مختلفة البيان في وجوه من الحكم، متفاوتة الطرق في وضوح الدلالات، من غير اختلاف في أصل المعنى، ولا يمل من تكراره، وترداد قراءته وتأمله واعتباره، مع أن جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده[16] وقال فخر الدين الرازي: «وبالجملة فأكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين مثل: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمجمل والمفصل، وأحوال السموات والأرض، والجنة والنار، والظلمة والنور، واللوح والقلم، والملائكة والشياطين، والعرش والكرسي، والوعد والوعيد، والرجاء والخوف، والمقصود منه بيان أن كل ما سوى الحق زوج ويدل على أن كل شيء مبتلى بضده ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو الله سبحانه».[17] وهذا كلام جميل ولكن لا يصلح في تفسير القرآن.
التأويل: من الأول، أي: الرجوع إلى الأصل، ومنه: الموئل للموضع الذي يرجع إليه، ولذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا.[18] وقد ذكرت هذه الكلمة في القرآن الكريم أربع مرات طبقا لأسلوب المثاني.
1. تأويل ما حدث لموسى مع الخضر
صحب موسى عليه السلام الخضر،[19] ولم يستطع الصبر على بعض التصرفات التي صدرت منه. فقد ركبا سفينة فقام الخضر بخرقها، ثم قتل طفلا، ثم دخلا قرية ولم يقم أهلُها بإستضافتِهما بالرغم من حاجتهما للمساعدة، ومع ذلك بادر الخضر بإقامة جدار آيلٍ للسّقوط دون أن يأخذ عليه أجرا. وحين اتخذ الخضرُ القرار بأن يفترقا. قال لموسى: «سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا» نبأه بما يلي: « أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً. وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً. فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً. وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً» (الكهف، 18/65-82).
وكانت حَيرةُ موسى عليه السلام تتلاشى عند تأويل كل حادثة، أي عند ردها إلى الغاية المُرادة منها.
2. تأويل الرُؤيا
ويطلق التأويل على تعبير الرؤيا. ومثاله تعبير يوسفُ عليه السلام لرؤيا الملكُ حين كان في السِجن حيث قصّ علينا القرآن الكريم قولَ الملك: « إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ».
فقالوا له: «أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ». وقال أحد اللَّذَين كانا معه في السجن بعد أن ادّكر بعد أمة « أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ».
فجاء يوسفَ، فأوَّل له يوسفُ الرؤيا وقال له: «تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» (يوسف، 12/43-49).
وتُؤوَّل الرُؤَيا بالنظر في حوادث الحياة اليومية وفيما تُشبِهه من رُموزٍ في الرُؤى.فينظر المعبر إلى تلك العلاقة الخفية بين حوادث الحياة وما يراه النائم في رؤياه، فكل رمز يدل على حدث، وكما يُعرَفُ التأويل بحسن الربط بين هذه الرموز وما تعبر عنه في واقع الحياة المُشَاهد، أما الذين لا ينظرون في هذه الصلة فلا يستطيعون التأويل. كما لم يستطع رجال الملك أن يعبروا له رؤياه.
3. تأويل الدنيا
الدنيا مكان الامتحان، وكل ما في هذه الدنيا له علاقة بما سيكون في الآخرة. ومن لا يستطع أن يقيم العلاقة المثلى بين الدارين فإنه سيكون من أهل النار_ والعياذ بالله _، ولا يدخل الجنة وإن كان يأمل بدخولها. قال الله تعالى: «وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ. الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ. وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ» (الأعراف، 7/50-53).
كما رأينا من خلال الآيات السابقة أن التعبير عن العلاقة بين الدارين الدنيا والآخرة يسمى تأويلا. الدار الآخرة هي الأصل الباقي. وما يعطى في الآخرة من المكافئة يشبه بما في الدنيا. قال الله تعالى: “مَنْ جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ” (الأنعام، 6/160).
4. تأويل الآيات
قال الله تعالى: «هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ» (آل عمران، 3/7).
لم يكن التأويل في هذه الآية راجعا إلى الأصل بل إلى الفروع المبينة للأصل كما كان في الأحداث الثلاثة السابقة. وقد قيل إن الأصل في قوله تعالى «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ» الآيات المحكمات، أما الآيات المتشابهات فهي مبينة لها. والذي جعل العلاقة بين الآيات وربط بعضها ببعض هو الله تعالى، فهو الذي أوّل الآيات. ووضع بين الآيات التشابه لنصل إلى تأويلها بتتبع العلاقات والروابط الموجودة بينها. والتأويل الذي وصلنا إليه بدون النظر إلى العلاقات والروابط التي وضعها الله بين الآيات فهو ليس تأويلا من الله، بل هو تأويل مجرد عن الدليل. والزائغ هو من يهمل تلك العلاقات مع العلم بها، فيكون بذلك ضالاً مُضلاً؛ لأنه يصدّ الناس عن دين الله تعالى باسم الدين؛ يقول الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (البقرة، 2/159-160).
وفي التأويل موضوع أصلي وآخر مبين للأصل. والخلفية التي لم يعرفها موسى عليه الصلاة والسلام في حادثة الخضر هي الأصل. وما شاهده موسى من الأحداث هو المبين للأصل.
ورؤيا الملك كان مبينا لما سوف يحدث في المستقبل. والملأ ما استطاعوا تأويل الرؤيا لأنهم ما ربطوا الرؤيا بالأحداث.
وكل شيء في الدنيا له علاقة بما في الآخرة. وهي تخبر الإنسان بما سيكون في الآخرة.
فالتأويل إذن؛ هو الوصول إلى التفسير عن طريق إقامة العلاقة بين الأصل والفرع المبين للأصل. ولتأويل الآيات كذلك لا بد أن نقيم العلاقة بين الأصل (المحكم) وبين الفرع المبين له (المتشابه). و هذا الطريق يوصلنا إلى تأويل الآيات تأويلا صحيحاً.
قال علماء التفسير «المتشابه هي الآيات التي لا يدركها العقل»[20] لذا أعطوا لكلمة التأويل معناً آخر، فأشكل عليهم فهم الآية السابعة من آل عمران، وهي قوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا»
فسر هذه الآية أكثر العلماء والذين يقال عنهم “الجمهور” بأن المتشابهات هي التي لا يعلم تأويلها إلا الله، ولا طائل من البحث عنها عقيدة ولا شريعة. والذين يجرون وراءها ويجعلونها موضوع الجدل، ينتهي بهم الحال إلى المراء، وإلى التخليط، وإلى التعقيد دون الوصول إلى الحقيقة. وهم يجهدون أنفسهم في أمر موكل إلى علم الله، ولا يخفى ما يتركه ذلك في نفوسهم من قلق وتوتر. أما الراسخون الذين بلغوا إلى درجة الثبات في العلم يقولون آمنا به، كل من عند ربنا، بلا تأويل، وعلى هذا فالمتشابهات؛ هي مما استأثره الله تعالى بعلمه. فلا مجال لأي عالم من السبيل لمعرفتها.
ولم يسلم القول السابق من الاعتراض عليه، حيث ذهب بعض العلماء إلى القول بأن تأويل هذه الآيات المتشابهات لا يعلمه الا الله والذين تثبتوا في العلم وتمكنوا منه، وهؤلاء يقولون: إننا نؤمن بالقرآن كاملاً، لا نفرق بين مُحكمه ومتشابهه. وما يعقل ذلك ويفقه حكمته الا ذووا البصائر المستنيرة، والعقول الراجحة. وعلى هذا فالعلماء يعلمون المتشابهات.[21] وكيفية وصولهم إلى هذه المعرفة يكمن في المعنى الذي تحمله كلمة التأويل.
أما الماتريدي فقال: هو ترجيح أحد المعنيين المحتملين مع عدم القطع به، وعدم إشهاد الله عليه.[22]
وقال محمد أبو زهره: هو ترك المعنى الظاهر من اللفظ والحمل إلى المعنى الخفي.[23]
وقال زكي الدين شعبان: هو الحكم بأن المراد من اللفظ هو المعنى الخفي استنادا لدليل يمنع من قصد المعنى الظاهر.[24]
فالتأويل على هذه التعريفات: هو ترك المعنى الظاهر للألفاظ والأخذ بمعناها الخفي. فهذا يدل على أن كثيراً من الآيات غير مفهوم. وخلاصة الكلام في هذا الموضوع؛ أن مفهوم التأويل عند العلماء لا يستند إلى حقائق علمية، وهو يتعارض مع حقيقة كون القرآن كتابا مبينا.
ب. تفسير رسول الله للقرآن الكريم
قال الله تعالى: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (النحل، 16/44).
وقال تعالى في آية أخرى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» (الأحزاب، 33/21).
إنّ خير من يفهم كلام الله هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فالقرآن الكريم عليه أنزل، وقد تولى عليه الصلاة والسلام بيان القرآن الكريم في حياته، وذلك بمعرفتة العلاقات والروابط بين الآيات، فقد كان عليه الصلاة والسلام ملهم البيان. ولما أخبر الله تعالى عن خطأ (العلماء) الذين لا يؤتمن جانبهم، أكد أن بيانه صلى الله عليه وسلم مُصدَّق؛ إذ إنه لا يصدر عنه بيان خطأ، فهو لا ينطق عن الهوى ولا يتقول على الله الأقاويل. قال الله تعالى: « وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ » (الحاقة، 69/44-47). «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» (المائدة، 5/67).
يفهم من الآيات أنّ التبليغ: هو أداء رسالة الله إلى الناس أداءً تاما دون زيادة أو نقصان، ويشمل ذلك تعليم الناس ما أوحي إليهم وبيانه لهم. فالتبليغ هو الوظيفة الكبرى للنّبي. لذا ختم الرسول صلى الله عليه وسلم كلّ جملة قالها في خطبة حجة الوداع بقوله «ألا هل بلّغت؟» وكررها ثلاثا، وأجاب الصحابة قائلين «نعم بلغت».
وليس من السهل معرفة الحديث الذي يشرح آية معينة. ومثلما يوجد التشابه بين الآيات، كذلك يوجد التشابه بين السنة والآيات. فانطلاقا من هذا التشابه يمكن الحصول على الآية المقصودة من الحديث. وهناك كثيرُ من الأحاديث تُركت ظنا من البعض مخالفتها للقرآن، أو بأنها متناقضة مع الأحاديث الأخرى. ولكن إذا وصلنا لفهم الآية التي يشرحها هذا الحديث بذاته لا يبقى مجال لهذا التناقض والمخالفة. ومثال ذلك حديث الشُّفعة: حيث روي عن جابرِ بنِ عبد الله ﺭﺿﻲ ﺍﷲﻋﻨﻬﻤﺍ أنه قال: «قَضَى النبيُّ ﺻﻠﻰ اﷲ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ بالشُّفعة في كلِّ ما لم يُقسَم، فإذا وَقَعت الحدودُ وصُرِفَت الطرُقُ فلا شُفعةَ».[25]
وعُرِّفت الشفعةُ في المجلة بأنها: «تَمَلُّكُ المشتري لعَقارٍ مَبيعٍ مقابل الثمن».[26] وذلك بأن يشترك اثنان في قِطعةٍ من الأرض، فيبيعُ أحدُهما حِصَّتَه دون أن يستأذن من شريكه، فيكون لهذا الشريك _ إذا لم يكن راضيا عن البيع _ حق في شراء حصة شريكه بثمن المباع استنادا لحق الشفعة. ومع ذلك فإنه لا يَحِقُّ للشفيع أن يأخذ حصة شريكه في الأرض جبرا من صاحبها الجديد؛ لأن الله تعالى حَرَّم هذا بقوله: «يا أيُّها الذين آمنوا لاَ تأكلوا أموالَكم بينكم بالباطلِ إِلا أن تكون تجارةً عن تَرَاضٍ منكم» (النساء، 4/29).
ومن المعلوم أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكنه أن يَأتيَ ببيان مخالفٍ للقرآن. وعلى هذا تكون الشفعة حالة استثنائية اقتضاها منطق العدل. فالله تعالى يقول: “وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرتُمْ إِلَيْهِ” (الأنعام، 6/119).
لقد بينت الآية الكريمة أنّ للمضطر أحكاما خاصة تمكنه من مواقعة المحظور، ولكنها _ في الوقت نفسه _ لم تبين من هو المضطر، فهنا يأتي أهمية بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للمضطر ؛ فقد بيّن من هو وما يجب عليه أن يفعل.
إن بيع أحد الشريكين حصته من العَقار المشترك إلى أجنبي يوقع صاحبه في الحرج، فحق الشفعة التي اقتضاها منطق العدل طريق لرفع الحرج. ومن اشتراه يُلزَم بهذا الحق، ويتحمل ما يترتب عليه من آثار.
فالسنة ليست مصدرا مستقلا عن القرآن، بل هي تابعة للقرآن الكريم. قال الله تعالى: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» (يونس، 10/15). وقال تعالى: «اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ » (الأنعام، 6/106).
كما رأينا من هذه الآيات، فإن السنة تابعة للقرآن الكريم، ولا ينبغي أن توصف بغير هذا. وبناءً عليه لا يجوز التفريق بين التابع والمتبوع، كما لا ينبغي إعطاء التابع حكما مستقلا عن المتبوع. فيجب تناول كل موضوع أو قضية أو شأن من شؤون الأفراد والجماعة في وَحدةٍ مُتكامِلةٍ من الكتاب والسنة، وحينئذٍ يَتبيَّن لنا ويظهر جلياً أن أقوال وأفعال الرسول ﺻﻠﻰ اﷲ ﻋﻠﻴﻪ وسلم والتي تُركِت ظنًّا أنها مُخالفة لأصل عام أو متناقضة في نفسها- أنها تشرح موضوعات أُخرى. من أجل هذا يجب التَأنِّي في موضوع السنة، والبحث عما يرتبط بها من آيات القرآن الكريم. وبهذا المنهج يمكن التحرز من الأحاديث الموضوعة.
ت. الاستفادة من الكتب السابقة في تفسير القرآن الكريم
القرآن الكريم مصدق لما بين يديه من الكتاب. قال الله تعالى: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ. مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ» (آل عمران، 3/3-4).
إنّ من المعروف بداهة أنّ الوحي إلى جميع الأنبياء صدر من مشكاة واحدة، فإن كان الأمر كذلك فلا بد من أن تكون سلسلة الوحي متكاملة من أول الأنبياء إلى آخرهم، وعليه فآيات القرآن الكريم تحمل في مضمونها ما أوحي إلى نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى. وقد ظهر هذا جلياً في قوله تعالى ذكره: «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ» (الشورى، 42/13). ومما ينبغي الإشارة إليه أنّ بعض آيات القرآن الكريم نزلت على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء، وهذه الآيات تشتمل على الأحكام المخففة. يقول الله تعالى: “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (البقرة، 2/106).
وقد نسخ القرآن الكريم الكتب السماوية السابقة. فالنسخ في اللغة؛ «إِبطال الشيء وإِقامة آخر مقامه».[27] والقرآن الكريم هو آخر الكتب نزولا وبه قد نسخ سبحانه الكتب السابقة، فهو ناسخ ومهيمن على ما أنزل الله من كتاب، فاتِّباع القرآن الكريم هو اتباع للتوراة والإنجيل وما أنزل على النبيين قبل محمد صلى الله عليه وسلم. يقول الله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الأعراف، 7/157).
وفي الكتب السابقة معلومات عن أهل الكتاب تمكننا من معرفة كيفية إقامة العلاقة معهم. قال الله تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (آل عمران، 3/64).
ويمكننا أن نحصل على معلومات من الكتب السماوية السابقة تتعلق بالمجتمعات القديمة. قال الله تعالى: «ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً. إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً» (الإسراء، 17/6-7).
والتوراة أكبر حجما من القرآن الكريم. وبعض الموضوعات التي جاءت في القرآن الكريم مختصرة، وردت في التوراة مطولة. ويمكن الاستفادة مما جاء في التوراة في تفسير الآيات المتعلقة بالموضوع. وعلى سبيل المثال؛ جاء في التوراة أن الأوائل من المجتمع اليهودي كانوا يعبدون بقرة اسمها «أبيس». ونرى في سورة البقرة أن الله تعالى أمر اليهودَ بذبح البقرة، وأنهم كانوا يبحثون عن الذرائع ليَفِرُّوا من ذبحها. (البقرة، 2/67-71). وإذا جمعنا هذا إلى ذلك يسهل لنا فهمُ تلك الآيات، و سبب عبادتِهم العِجل الذي صنعوه منتهزين غِياب موسى عليه السلام لفترة قصيرة.[28] كذلك نفهم سبب اشتراط إراقة دم الأضحية في عيد الأضحى.
قال الله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ» (البقرة، 2/93).
لقد فسرنا كلمتي «سمعنا وعصينا» بـ «سمعنا و تمسكنا بقوة» غير أن كلمة «عصينا» قد فسرت في كتب التفسير بمعنى العصيان، فأُشكِلَ على كثير من المفسرين فهم الآية، لأنه لا يمكن أخذ الميثاق مع العصيان. وإذا نظرنا إلى التوراة نجد أن كلمة «عصينا» جاءت بمعنى التمسك بقوة، وهو أحد معاني هذه الكلمة. ومن أراد المزيد يرجى الرجوع إلى موضوع «التمسك بالقوة والعصيان».
ومن خلال المطالعة في الكتب السماوية السابقة نعرف الكيفية والكمية في تصديق القرآن إياهم. وهي من أهم الجوانب في الاستفادة من الكتب السماوية السابقة. فيمكن بذلك التحرز ممّا أُضيف إليها بأيدى الناس.
ث. أهمية اللغة العربية في تفسير القرآن
قال الله تعالى: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم» (إبراهيم، 14/4)..
وقال تعالى: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» (الشعراء، 26/93-195)
اللغة العربية لها أهمية بالغة في فهم القرآن الكريم لأنه نزل بلسان عربي مبين. وقد كثرت اليوم التطبيقات الخاطئة لقواعد اللغة العربية. والآية السابقة خير مثال على ذلك. حيث قال المفسرون في تفسيرها ” وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء (إضلاله) ويهدي من يشاء (هدايته) وهو العزيز الحكيم ” أي: إن المشيئة من الله فقط، ولا دخل للعباد في موضوع الهداية والضلالة. وهنا علينا أن نطرح سؤالا؛ وهو إذا كان الأمر هكذا، فلماذا أرسل الله كل رسول بلسان قومه ليبين لهم، وما هي الفائدة في بيان الرسول لهم بلسانهم؟ وهل يصح هذا الأمر التناقضي في كلام الله تعالى؟ وهو العزيز الحكيم.
ومصدر التضاد إرجاع الضمير المستتر في «يشاء» إلى لفظ الجلالة، وهذا مخالف للقواعد اللغوية. والصحيح أن الضمير المستتر في «يشاء يعود إلى «من» القريب. ولإعادة الضمير إلى البعيد لا بد من القرينة ولا يوجد هنا قرينة. والتفسير الصحيح للآية: ” وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء (الضلالة) ويهدي من يشاء (الهداية). أي:أن العبد هو الذي يختار الهداية أو الضلالة. والله تعالى خلق الناس وأعطاهم حرية الاختيار، لذا يستحقون الثواب أو العذاب على ما يختارون. قال الله تعالى: «هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً. إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً. إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً» (الإنسان، 76/1-5).
ج. القرآن الكريم والفطرة
الفطرة؛ تعني مبادئ وقوانين الخلقة والتغيير والتطور، وهي التي تُكَوِّن البِنيةَ الأساسية للكائنات. أي أنّ السماوات والأرض والبشر والحيوان والنبات وغيرها من الأشياء تتكون وتعمل وفق تلك القوانين والمبادئ.. كما أنها _ أي الفطرة _ المبدأ الأساسي في العلوم والتكنولوجيا والعلاقات الاجتماعية، ومخالفة الفطرة يفسد التوازن الإجتماعي، ويؤدي إلى ظهور الفساد في جميع مناحي الحياة. أنظر إلى قوله تعالى وهو يصف النتائج المترتبة على الخروج عن الفطرة التي فطر الناس عليها: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » (الروم، 30/41)..
وإذا أراد الإنسان أن ينضبط على ميزان الفطرة فليس له إلا النظر من حوله، حيث يرى أنّ كلّ ما خلق الله من سماوات وأرض وما فيهما يسير وفق منهج الله القويم؛ حيث التناسق والتناغم بين مفردات هذا الكون، ولا يشذ عن هذه الفطرة إلا كثير من الناس وهم رغم كثرتهم إلا أنهم لا يشكلون سوى ذرة صغيرة من منظومة هذا الكون الهائل. قال سبحانه «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ » (الحج، 22/18).
وأما الدين فينظم علاقة الإنسان بربه. كما ينظم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وعلاقته بالطبيعة لا سيما علاقته بالبيئة التي يعيش فيها. والمبادئ التي جاء بها الدين يطلق عليها كذلك الفطرة. قال الله تعالى:
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (الروم، 30/30).
ونعرف الفطرة من آيات الله تعالى، وهي ليست محدودة بما أنزل الله تعالى من كتاب، بل تشمل تلك الآيات المنشورة في الكون والآفاق.[29] قال الله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (فصلت، 41/ 53).
والمعرفة التي نحصل عليها من آيات الآفاق والأنفس، نستحضرها في أذهاننا ونهيء أنفسنا للإستفادة منها. وهذه المعرفة تسمى «الذكر» وإستحضارها في الذهن يسمى أيضا «الذكر»[30] وتلتقي تلك المعرفة مع كتاب الله تعالى بتمام التناسق والانسجام. لذا كل من يقرأ القرآن الكريم يزداد ثقة وطمأنينة.
وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى التذكر. والتذكر هو تنشيط وتفعيل ما هو موجود في الذهن. وعندما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه «أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ» (الأنعام، 6/80). معناه؛ ألا تقارنوا ما قلته بما عندكم من المعرفة فتعرفوا أنكم مخطئون، فتعودوا إلى رشدكم. فهو دعوة لهم منه إلى محاسبة النفس.
والذكر كذلك اسم مشترك للكتب المنزلة من الله تعالى. قال الله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ » (الرعد، 13/28). وقال الله تعالى عن القرآن الكريم: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (الحجر، 15/9).
فالذي يقرأ القرآن الكريم بتدبر يجد أن الذكر الموجود في القرآن مطابق للذكر الموجود عنده ( أي ما اختُزل في ذاكرته من المعلومات والمعارف). لذا قال الله تعالى: «الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد، 13/28).
وصحة معلومات الإنسان متوقفة على مدى تطابقها مع الآيات القرآنية، فكلما استوعب الإنسان الآيات القرآنية والكونية ازداد علمه وتوسعت آفاقه وازداد إيمانه ثقة وطمأنينة.
إنّ الكائنات _ سوى الإنسان _ لا تخالف الفطرة. والإنسان هو من يخالف الفطرة ويفسد توازن البيئة؛ لأن الله خلقه وأعطى له العقل والإرادة والقدرة، ولذلك فإنه يستطيع أن يفعل ما يشاء.
إنّ المنافع والآمال والرغبات كلها أسباب تؤدي إلى مخالفة الإنسان للفطرة. وإذا ما خالف الإنسان الفطرة فإنه سيشعر بالضيق والانزعاج بداية الأمر، ويفقد هذا الإحساس تدريجياً كلما توغل في المعصية واعتاد على مخالفة الفطرة، وما يلبث إلا أن يعتاد هذه المخالفة ويأخذ طابعا جديدا ليبدأ بعد ذلك يتذوق المعصية ويتلذذ بفعل الحرام. ورغم ذلك فإنه يشعر بهذا الضيق بين الفينة والأخرى، لكنه لا يعيره اهتماما هروبا من محاسبة النفس، لأن محاسبة النفس قد تؤدي به إلى الرجوع عن تيهه وضلاله ومكتسباته من الحرام. قال الله تعالى: « لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (التوبة، 9/110).
الذنوب والخطايا هي السلوك المخالف للفطرة. والصواب هو ما وافق الفطرة إلا أنّ الوصول إلى الصواب والاستمرار عليه يتطلب بذل الجهد وتسخير الإمكانات بما يرضي الله تعالى. لذا يعدل الإنسان من الصواب إلى الخطأ مع علمه بذلك. قال الله تعالى:
«فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» (الشمس، 91/ 8-10).
والمخالف للفطرة ينزعج في البداية، ثم إما أن يترك المخالفة أو يستمر فيها. وهو ينزعج لأن الله تعالى يلهمه بأنه عاص. وهذا إنذار؛ تقول له نفسه الملهمة أنت على الخطأ، فلهذا ينزعج حين يعصي.
والتقوى تصون النفوس من الوقوع في الخطأ. والسلوك الموافق للتقوى يريح الإنسان. وهذا الشعور ما هو إلا إلهام من الله تعالى له بأن هذا الفعل موافق للفطرة.
عن وابصة بن معبد الأسدى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لوابصة:« جئت تسأل عن البر والإثم؟ ». قال قلت: نعم. قال: فجمع أصابعه فضرب بها صدره وقال:« استفت نفسك، استفت قلبك يا وابصة – ثلاثا – البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك فى النفس وتردد فى الصدر وإن أفتاك الناس أو أفتوك ».[31]
ولا يقع في مثل هذا الخطأ إلا من اتبع هواه ولم يستعمل عقله. قال الله تعالى: «… وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ» (يونس، 10/100).
والفطرة مصدر العلم كذلك. والعلماء المتخصصون في الرياضيات والتقنيات لا يصدرون القوانين، وإنما يحاولون ويبذلون الجهد لكشف ما في الآيات من قوانين، وهذا هو الاتباع للفطرة. وعلماء الاجتماع وعلماء الإحصاء من يكشفون القوانين بقراءتهم لتلك الآيات كذلك. ولكن بعضهم يحاول إعطاء المجتمع صورا خاصة حسب أهوائهم بعيدا عن الحقيقة، وهذا الموقف منهم يؤدي إلى التطبيقات المخالفة للفطرة، وتظهر الآثار السيئة لتلك التطبيقات بعد حين، مما يؤدي إلى فساد التوازن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وبالتالي فإن الضرر الذي ينتج عن مخالفة الفطرة يكون كبيرا ومستمرا.
والنتائج المعرفية التي وصل إليها العلماء يمكن استعمالها لإفساد البيئة والمجتمعات خلافًا للفطرة. كما نعيش اليوم من فساد بيئي واجتماعي جراء إعمال هذه النتائج بمسالك مخالفة للفطرة. والابتعاد عن الفطرة هو تعدٍ للحدود التي جاء بها القرآن الكريم. قال الله تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (الروم، 30/41).
كل ما جاء به القرآن الكريم متناسب مع الفطرة تمام التناسب، فلا خلاف بينهما؛ لأن الإسلام هو دين الفطرة. فيستفاد منها في فهم القرآن، كما يستفاد من القرآن الكريم في معرفة الفطرة. ومظن الخلاف بين القرآن الكريم والفطرة هو عدم فهم القرآن الكريم، وعدم إقامة الروابط والعلاقات بين القرآن الكريم والفطرة. والأمثلة على ذلك كثيرة.
[1] قال الأصفهاني وقوله تعال «ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني » (البقرة، 2/78) قال مجاهد: معناه: إلا كذبا، وقال غيره إلا تلاوة مجردة عن المعرفة. من حيث إن التلاوة بلا معرفة المعنى تجري عند صاحبها مجرى أمنية. أنظر مفردات ألفاظ القرآن مادة:مني.
[2] مفردات ألفاظ القرآن، مادة: قوم.
[3] مفردات ألفاظ القرآن مادة: حكم.
[4] مفردات ألفاظ القرآن مادة: شبه.
[5] أصول الفقه لمحمد أبو زهره، استانبول، ص. 134. تاريخ الطبع غير معروف.
[6] تفسير الطبري، 3/172.
[7] مفردات ألفاظ القرآن مادة: شبه.
[8] حق ديلي قرآن ديني لألماليلي محمد حمدي يازر 2/1037..
[9] فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، 3/138..
[10] حق ديلي قرآن ديني لألماليلي محمد حمدي يازر 276/1.
[11] حق ديلي قرآن ديني لألماليلي محمد حمدي يازر 383/1.
[12] حق ديلي قرآن ديني لألماليلي محمد حمدي يازر 481/1.
[13] فخر الدين الرازي446/9.
[14] البيضاوي، تفسير البيضاوي، 2/323..
[15] الترمذي، فضائل القرآن، 1.
[16] انظر تفسير الطبري 10/628-629.
[17] تفسير الكبير للرازي 9/446..
[18] مفردات الفاظ القرآن مادة: اول.
[19] لم يرد في القرآن اسم الخضر، ولكن جاء ذكره الحديث الذي رواه البخاري، العلم 44..
[20] أصول الفقه لمحمد أبو زهره ص134.
[21] النسفي، عبد الله بن أحمد بن محمد، مدارك التنزيل وحقائق التأويل، بيروت، 1989، 1/203.
[22]حق ديلي قرآن ديني لألماليلي محمد حمدي يازر، 1/28.
[23] المرجع السابق ص 135.
[24] أصول العلوم التشريعية في الإسلام لزكي الدين شعبان، (المترجم إلى اللغة التركية ابراهيم كافي دونمز) أنقرة 1990، ص. 320.
[25] البخاري، الشفعة2.
[26] المجلة، م 950.
[27] لسان العرب مادة: نسخ.
[28] أنظر إلى الآيات رقم 51، و54، و92، و93 من سورة البقرة.
[29] أنظر: آل عمران، 3/58؛ الأعراف، 7/63؛ الحجر، 15/ 6، 9؛ النحل، 16/44؛ الأنبياء، 21/2، 50، 105؛ الفرقان، 25/18؛ يس، 36/1؛ ص، 38/8؛ القمر، 54/25.
[30] مفردات ألفاظ القرآن مادة: ذكر.
[31] سنن الدارمي، كتاب البيوع، 2.
أرجو من موقعكم الكريم أن يصدر تفسيرا كاملا للقرآن الكريم. وشكرا لكم
نعم ، اتمنى ذلك .هل لديكم خطه لتفسير القران بما يفتح الله عليكم به ، نحن بأمس الحاجه الى مثل هذا العمل .
شكرا جزيلا على الاهتمام بهذا الموضوع
والحقيقة أن تفسيرا متكاملا للقرآن العظيم قد أنجز في مركزنا لكن باللغة التركية، وكلنا أمل أن تتيسر الإمكانيات لإخراجه باللغة العربية وباقي اللغات المشهورة.
والله ولي التوفيق وهو المستعان