الإشراف على النكاح
قال الله تعالى: «فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف» (البقرة، 2/232)
قولُه تعالى: «أزواجهن» في الآية مَجازٌ يُقصَد به من يتقدم لخطبتها، لأن المرأةَ هي في ذاتها زوجٌ لزوجها. كما قال الله تعالى في آية أخرى:
«والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف» (البقرة، 2/234).
وخيرُ ما تفعله المرأةُ حِينَئذٍ هو الزواجَ مرة أخرى، إلا أنَّ اتِّفاقَها مع رجلٍ على ذلك غيرُ كافٍ لتمام العَقدِ إذا تجرد هذا الإتفاق عن موافقة ولي أمرها. فكلُّ مجتمعٍ له أصول ونظام يستند إلى عقيدة، وعادات، وتقاليدِ ذلك المجتمع. وعبارة “المعروف” في الآية تَحمِل هذا المعنى.
كان العربُ قديمًا يَخطُب أحدهم المرأةَ مِن أبيها أو وَلِيِّها، فتُعطَى صَداقها، وينعقد نِكاحُها من قبل وليها. والنصارَى يَعقِدونه في الكنيسة، واليهودُ في البِيعة. وفي المُجتَمعات العَلمانيّة ينعقد بإشراف السُلُطاتِ المَعنِيّة.
والآيةُ تُحَرِّم منعَ المرأةِ مِن العمل بقَرارها إذا كان بالمَعروف. والمعروفُ اسمٌ لكلِّ فِعلٍ يُعرَف بالعقل أو الشرعِ حُسنُه.[1] وفي القرآن والسنة أحكامٌ تتعلق بهذا الموضوع، منها أقوالُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم التي تبين أنَّ الوَلِيَّ يُشرِف على النكاح بالمعروف. فعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاحَ إلا بولي».[2]
وعن عائشةَ قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أيُّما امرأةٍ نكحت بغير إذن مَواليها فنِكاحها باطلٌ، ثلاثَ مراتٍ. فإنْ دَخَلَ بها فالمَهرُ لها بما أَصاب منها، فإنْ تَشاجَروا فالسُلطانُ وَلِيُّ مَن لا وَلِيَّ له».[3]والوَلايةُ: «قولٌ مُلزِمٌ على الغَيرِ ابتداءً ».[4]
وعن خَنْساءَ بنتِ خِذامٍ الأنصاريّةِ أنَّ أباها زَوَّجَها وهي ثَيِّبٌ فكَرِهَتْ ذلك، فجاءَت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذَكَرَتْ له فرَدَّ عليها نكاحَ أبيها. فنَكَحَتْ أبا لُبابةَ بنَ عبدِ المُنذِرِ.[5]
وعن عائشةَ أنَّ فتاةً دَخَلتْ عليها فقالت: «إنَّ أبي زَوَّجني ابنَ أخيه ليَرفَعَ بي خَسِيستَه وأنا كارهة»، قالت: «اجلِسي حتى يأتيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأَخبَرتْه، فأرسلَ إلى أبيها فدَعاه، فجَعَلَ الأمرَ إليها، فقالت: «يا رسولَ الله! قد أَجَزْتُ ما صَنَعَ أبي، ولكنْ أردتُّ أَنْ تَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إِلَى الْآبَاءِ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ ».[6]
وكثير من البنات يغلبهن الحياء من أنْ يَكُنَّ طَرَفا في عَقد النكاحِ، بل يَصعُب في بعض الأحيان معرفةُ رأيِهن في الموضوع، وفي هذا الشأن جاء عن النبيِّ: «الأيِّمُ أَحَقُّ بنفسها من وليِّها، والبكرُ تُستَأذَنُ في نفسها». قيل يا رسول الله! إن البِكر تستحيي أن تتكلم». قال: «إذنُها سكوتُها».[7]
«الثَيِّبُ تُعرِب عن نفسها، والبكرُ رضاها صَمتُها».[8]
لقد أخذ أصحابُ المذاهبِ المشهورةِ الآيات والأحاديث بأحكام مُسْبَقةٍ، وأَبْدَوا آراءَ مختلفة. أما الحنفية فمِن مِنظارِ الحُرِّيّة رَأَوْا أن للمرأة حقَّ مباشرةِ العقدِ بنفسِها دُونَ وليِّها.[9] أما المالكية والشافعية والحنابلة فاعتمادا على رُؤية العُرف أَخرَجُوا الوليَّ من دائرة الإشرافِ على عقد النكاح إلى أنْ يكون طَرَفًا فيه بنفسه، لأنهم يَرَونَ أنَّ الوليَّ إذا لم يكن طرفا في العقد كان العقدُ باطلا، وأنَّ المرأةَ لا تُمَثِّل نفسَها ولا غيرَها في العقد. قالوا: «النكاح لا يَصَحُّ إلا بولي. ولا تَملِكُ المرأةُ تزويجَ نفسِها ولا غيرِها، ولا توكيلَ غيرِ وليِّها في تزويجها، فإن فَعَلَتْ لم يَصِحَّ النكاحُ. وللأب تزويجُ ابنتِه البكرِ دون استئذانها».[10] والظاهريةُ قَدَّموا الحديثَ وبَنَوا عليه مذهبهم فقالوا: «ولا يَحِلُّ للمرأة نكاحٌ –ثَيِّبًا كانت أو بكرًا– إلا بإذن وَلِيِّها … فإنْ أَبَى أولياؤُها مِن الإذن لها زَوَّجها السلطانُ».[11] «وأما البكرُ فلا يجوز لها نكاحٌ إلا باجتماع إذنِها وإذنِ أبيها».[12]
ونعرض الآن أدلة القائلين بهذه الأقوال:
أ. أدلة الحنفية
إتَّخذَ المذهبُ قولَ أبي حنيفة أساساً يعتمدُ عليه. وقولُ أبي حنيفةَ نفسُه يَعتمِدُ على هذه الآياتِ الثلاثِ:
«فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره» (البقرة، 2/230).
«فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن» (البقرة، 2/234).
(فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) (البقرة، 2/232).
إعتبَرَ أبو حنيفةَ المرأةَ طَرَفًا في العقد لأنها جاءت فاعلا لفِعلِ النكاحِ في الآياتِ المذكورةِ، إلا أنه لم يَتَنَبَّه إلى ما اشتُرِط من المعروف في الآيتين الأخيرتين فبقي بعيدا عن الأحاديث المتعلقة بالموضوع، فأدى ذلك إلى التأويل التالي: «أضافَ العقدَ إليهنَّ في هذه الآياتِ فدَلَّ على أنها تَملكُ المباشرةَ في عقد النكاح. والمُرادُ بالعَضْل المَنعُ حِسًّا، بأنْ يَحبِسَها في بيتٍ ويَمنَعَها مِن أنْ تَتَزوَّجَ. وهذا خِطابٌ للأزواجِ، فإنَّه قال في أَوَّلِ الآيةِ: (وإذا طلقتم النساء)».[13]
والمرأة إذا انقَضَت عدتُها فقد انقطع كلُّ شيءٍ بينها وبينَ زوجها، وليس له الحقُّ في الإشراف على زواجِها الجديد. لذا لا يُمكن قَبولُ قول أبي حنيفة.
تقول الأحناف في المرأة التي تُزَوِّج نفسَها دون إذن وليِّها: «وإذا زَوَّجَت نفسَها مِن غير كُفءٍ فقد أَلحقَتْ الضررَ بالأولياء فيَثبُتُ لهم حقُّ الاِعتراض … وإنْ كانت قَصَّرَت في مَهرها فزَوَّجت نفسَها بدون مهر مِثلِها كان للأولياء حقُّ الإعتراض حتى يأخذ لها مهر مِثلِها أو يُفَرَّقَ بينهما … إنها أَلحَقَت الضررَ بالأولياء فيكونُ لهم حقُّ الإعتراض … وبيانُ ذلك أنَّ الأولياءَ يَتَفاخَرون بكَمال مهرِها ويُعَيَّرونَ بنُقصان مَهرِها … ومع لُحُوق الضرر بالأولياء فيه إلحاقُ الضرر بنِساءِ العَشِيرةِ أيضا، فإنَّ مَن تَزَوَّج منهن بعدَ هذا بغير مهرِها فإنما يُقَدِّرُ مهرُها بمهر هذه، فعَرَفنا أنَّ في ذلك ضررًا عليهن، وإنما يَذُبُّ عن نساء العشيرة رجالُها فكان لهم حقُّ الإعتراض».[14]
ب. أدلة المالكية والشافعية والحنابلة
إعتمد أصحابُ هذه المذاهبِ على العُرف في فهم الآيات والأحاديث. وفي المجتمعات العربية “يخطب الرجلُ إلى الرجل وَلِيَّتَه أو ابنتَه فيُصدِقها ثم يَنكِحُها”.[15]
ومن حق الرجل أن يكون طَرَفا في عقد النكاح ولكن المرأة لا حق لها في ذلك؛ فوَلِيُّها هو الذي كان يُباشره عنها فيَعقِدُه. واستدلوا على ما قالوا بقولُه تعالى: «فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف».
قالوا: « … فإنَّ عَضْلَها الاِمتناعُ مِن تَزويجِها، وهذا يدل على أنَّ نِكاحَها إلى الوَلِيِّ».[16] ولو لم يكن لديهم الحكم المسبق لَما فهموا الآية على هذا النَحو، لأن الله تعالى يقول: «فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن»، والعضل هو منع من يقدر على شيء ما، إذ فاعلُ النِكاحِ النساءُ، وهذا يَعنِي جَوازَ كون المرأة طرفا في العقد. ومَنعُ شَيءٍ مِن أنْ يُفعَلَ غيرُ الإمتناع عن فعلِه، فلا يكون العضلُ هو الإمتناعَ. بمعنًى آخر لا يمنع من الفعل إلا من يستطيعه أما من لا يستطيع فعل شيء فلا معنى لمنعه منه، وعلى هذا النحو تفهم الآية.
ويقولون في قوله تعالى: «أن ينكحن أزواجهن»: «أضافه إليها لأنها مَحَلٌّ له. إذا ثَبَتَ هذا فإنه لا يَجوز لها تزويجُ أحد».[17]سواء عن طريق الولاية أو التوكيل.
والذي جعل المرأةَ طرفا في النكاحِ هو اللهُ تعالى، إلا أن عُرفَ العربِ اتخذت أساسا وفاعلا مؤثرا في الموضوع. ولذلك جُعل قولُ الله تعالى الواضِحُ مَجازًا، فتسلسلت الأخطاء.
والذين نظروا إلى المرأة على أنها محل النكاح جعلوا الصداقَ المَدفوعَ كالبَدَل عنها، وبَنَوا كلَّ مذهبِهم مِن النكاح إلى الطلاق على هذا الأساس الخطأ.
ولم يَرَ أحدٌ من أصحاب هذه المذاهبِ أنّ للمرأة حق الإفتداء، أي حقَّها في إنهاء الحياة الزوجية بالإفتداء، واستعاضُوا بنظام الخُلع وتَعَرَّضُوا له بالدراسة والبحثِ. والخلعُ فِراقٌ يوقِعه الزوجُ مُقابلَ مالٍ تَدفعُه له زوجتُه لهذا الغَرَضِ.
وما جاء مِن آراء في الخلع يلقي الضوءَ على الموضوع حتى يُفهَم على وجهٍ أفضلَ. يقول الشِربينيُّ من الشافعية: «والمعنى فيه أنه لمَّا جاز أن يَملِكَ الزوجُ الإنتفاعَ بالبُضْع بعِوَضٍ، جاز أن يُزيلَ ذلك المِلكَ بعوض كالشراء والبيع، فالنكاحُ كالشراء، والخلعُ كالبيع».[18]
وقال ابنُ تيمية ليثبت أن الخلع غير الطلاق:
«هو فِداءٌ تَفتدي به المرأةُ نفسَها مِن زوجِها كما تفتدي الأسيرةُ نفسَها من أَسرِها؛ وهذا الفداءُ ليس من الطلاق الثلاثِ … ولهذا جاز عند الأئمة الأربعة والجُمهورِ من الأجنَبيِّ: فيَجوز للأجنبي أن يَختلِعَها، كما يجوز أن يَفتديَ الأسيرةَ؛ كما يَجوز أن يَبذُلَ الأجنبيُّ لسَيِّدِه العبدِ عِوَضًا ليُعتِقَه؛ ولهذا ينبغي أن يكون ذلك مشروطا بما إذا كان قَصدُه تخليصَها لمصلحتها من رِقِّ الزوجِ،كما يُفتَدَى الأسيرُ … فإنّ المقصودَ به رفعُ مِلك الزوج عن رِقِّ المرأة لتَعود خالصةً من رِقِّه، ليس المقصودُ منه نقلَ ملك إليها».[19]
وقد أَنزَل هؤلاء المرأةَ إلى أَحَطَّ من درجةِ العبيدِ، فالعبدُ إذا أُعتِق مَلَكَ نفسَه، أما هي إذا تَخلَّصَتْ مِن رِقِّ زوجِها –على قولهم– دَخَلَتْ في رِقِّ وَليِّها. فجعلُ المرأة محل النكاحِ، وإعطاؤُها الصَداقَ كأنه بَدَلٌ عن سلعةٍ، كلُّ هذا لا يُمكن قَبولُه لأن المرأةَ ليست سلعةً تُباعُ وتُشتَرى.
قال الله تعالى: «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة» (البقرة، 2/228).
هذه الآيةُ تَنفي أن تكون المرأةُ أَمَةً لزوجها لأن العبدَ لا يُمكنه أن يُساويَ سَيِّدَه في الحقوق أبدًا.
وقال الله تعالى: «وآتوا النساء صدقاتهن نحلة». والصَدُقات جمع صَدُقة، وهي ما يُعطى للمرأةِ من مَهرِ. وهي مُشتَقَّةٌ من الصِدقِ، والصدقُ مُطابَقةُ القول الضميرَ والمُخبَرَ عنه معا.[20] والصدقات مِقدارٌ من المال يَدفعه الأزواجُ لأزواجهم دليلاً على ما يُولُونَهُنَّ مِن تَقديرٍ. وفي الآية قولُه تعالى: «نحلة»، والنِحلةُ عَطِيّةٌ على سبيل التَبَرُّع.[21] فعلى هذا كلِّه، لا يُمكن أن يُجعل الصَداقُ بَدَلاً عن شيء ما.
وقد ترك أصحاب المذاهب بعض الأحاديث الصحيحة المتعلقة بالموضوع، لأنهم أخذوا الآية بحكم مسبق مشروط، منها ما روي عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ فتاةً دَخَلَتْ عليها فقالت: «إنَّ أبي زَوَّجَني ابنَ أخيه ليَرفعَ بي خَسِيستَه وأنا كارهةٌ»، قالت: اجلِسي حتى يأتيَ النبيُّ صلى عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها فقالت يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن تعلم النساء أنه ليس لآبائهن من الأمر شيء.[22]
ومن الأحاديث التي اعتمدتها المذاهبُ الثلاثة هذا الحديثُ الذي جاءت فيه المرأةُ فاعلَ النكاح أيضا، وهو ما نَقلتْه عائشةُ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيُّما امرأةٍ نَكَحَتْ بغير إذنِ مَوالِيها فنكاحُها باطلٌ، ثلاثَ مراتٍ. فإن دَخَلَ بها فالمَهرُ لها بما أصاب منها، فإن تَشاجَرُوا فالسُلطانُ وَليُّ مَن لا وَلِيَّ له».[23]
وآراءُ المالكية أيضا لا يمكن قبولُها إذ يَرَونَ أن للأبِ إجبار ابنته البكرَ على الزواج فيقولون: «وله الجَبرُ ولو لأَعمَى أو أقلَّ حالاً أو مَآلاً منها، أو قَبيحِ مَنظَرٍ أو برُبُعِ دينارٍ، ولو كان مَهرُ مِثلِها قِنطارًا … و جَبرُ البِكر ولو عانِسًا بَلغتْ ستينَ سنةً أو أكثرَ لا ذي عاهةٍ كخَصِيٍّ مَقطوع ذَكَره أو أُنثَيَيْنِ قائمِ الذكرِ حيث كان لا يُمني فلا يُجبِرُها على الأَصَحِّ. ودَخَلَ تحتَ الباب المَجنونُ والمبرص والمجذم أو العِنِّين والمَجبُوبُ والمُعترَضُ».[24]
وكذلك الحالُ في المذهب الشافعي؛ فهو يرى للأب الحق في تزويجَ ابنته بدون إذنها، إلا أنه يستحسن إذنها استِئمارَها تطييبا لها.[25]
ت. أدلة الظاهرية
لم يَعتَمد هذا المذهبُ على الآياتِ في موضوع الإشراف على النكاح، وإنما على الأحاديث، فكانت النتيجةُ أنْ صار هذا مانعا من فهم الأحاديث فهما صحيحا. وأصولهم في هذا: «… لَمَّا بَيَّنَّا أنَّ القرآنَ هو المصدر الأساسي في الشرائع، نظرنا فوَجَدنا فيه إيجاب طاعة ما أَمَرَنا به رسولُ الله، ووَجَدْنا أنَّ الله عز وجل بقوله فيه واصِفا لرسوله: «وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى» أفصح لنا بذلك بأن الوحي ينقسم إلى قسمين؛ أحدهما: وَحيٌ مَتلُوٌّ مُؤَلَّفٌ تأليفا معجز النظام وهو القرآنُ، والثاني: وحي مَروِيٌّ مَنقولٌ غيرُ مُؤَلَّفٍ ولا معجز النظام، ولا متلوٌٍّ، لكنّه مَقروءٌ، وهو الخبر الوارد عن رسول الله، وهو المُبَيِّن عن الله عز وجل مُرادَه».[26]
لو كانت السُّنةُ تَشرحُ لنا كلَّ ما أراده الله تعالى مِنَّا لَمَا بَقِيَتْ لنا حاجةٌ إلى القرآن. وهذا من عدمِ التَفَطُّن في الفرقِ بينَ الكتابِ والسنةِ. وقد قال الله تعالى: «لتبين للناس ما نزل إليهم» (النحل، 16/44)، ولم يَقُلْ: «لتُبَيِّنَ للناس ما يَجبُ تَبيِينُه». وقد نتج من هذا الخطأ أخطاء كثيرة.
أما عن موضوعنا فيقول ابن حزم: «معنَى قولِه عليه الصلاة والسلام: «والثَيِّبُ أَحَقُّ بنفسِها مِن وليِّها»[27]أي أنه لا يَنفُذُ عليها أَمرُه بغير إذنِها، ولا تَنكِحُ إلا مَن شاءت. فإذا أرادتِ النكاحَ لم يَجُزْ لها إلا بإذنِ وليِّها، فإن أَبَى أَنكَحَها السلطانُ على رَغمِ الوليِّ الآبِي».[28]
إنه إذا لم يكن للولي حق الإعتراضِ فما معنَى كونِه وليّا ؟ أيكون في دين الله تعالى ما ليس له معنًى ولا حِكمةٌ ؟
ويقول في موضِعٍ آخَرَ: «وأما البِكرُ فلا يجوز لها نكاحٌ إلا باجتماع إذنِها وإذنِ وليِّها».[29] فيُفهَم من هذا أنه إذا لم يَجتمعْ إذنُها وإذنُ أبيها على رجل واحد لم يَقعْ نكاحٌ. هذه هي النتائجُ التي لا مَفَرَّ منها إذا أُهمِلَ ميزانُ المعروف.
ولو أنَّ ابنَ حَزمٍ نظر إلى الآيات أَوَّلاً ثم إلى الأحاديثِ على أنها شارحةٌ للآيات ثانيًا لَعَرَفَ معنَى وُجودِ الوليِّ، ولبنى مَذهبَه في النكاح على هذا الأساس. ولكن حين أهمل المنهَجيّة لم يعط للآيات المتعلقة بالموضوع حقَّها من البحث.
ث. الخاتمة
الآيات والأحاديث المَذكورة توجب الإشرافَ على النكاح بالمَعروفُ، وهذا الإشرافُ مَوكولٌ إلى الولي. وإذا ما حدث سوء تفاهم أو الإختلاف تدخلت السلطات المعنية بالأمر، فإذا لم يوجَد مانعٌ من زواجهما انعقد النكاح براضاهما وقبولهما بحُضورِ الشاهدين على الأقل.
لكن المذاهب حين تناولت الموضوع مِن زوايا مختلفة تولد عن ذلك الكثيرُ مِن الضيق والحرج.
ولما سمح الأحناف بانعقاد النكاح بحضور شاهدين دون إشراف ولي أدى هذا إلى دخوله في المَدارِس والجامعات، والمَعامِل، وغيرِها من الأماكنِ سِرًّا. فإذا رَضِيَت البنت وأقرّت النكاح بقولها «نعم» بحضور شاهدَينِ كان ذلك كافيا لعقدِ النكاح.
أمَّا مذهبُ الشافعيةِ والمالكيةِ والحنابلةِ فكان السبب في وجود مال معين يبذل على وجه خاص للولي عند النكاح. وبما أنَّ العقد باطلٌ إذا لم يكن الوليُّ طَرَفًا فيه لزم إقناعه، وأسهل أسلوب لذلك هو المال المبذول له. وهنا لزم عدم الخلطِ بين هذا المالِ وبينَ الصَداقِ، فالصداقُ يُعطَى للمرأة، بينما المالُ المذكور يكون لوليِّها مِن أبٍ أو أخٍ أو عَمٍّ أو غيرِهم …
ولو لم تهمل الآياتِ والأحاديث، لما كان اضطر الفتى والفتاة للزواج هاربين من أهلهما، ولم يكن هناك مال معين يبذل علاوة على الصداق.
[1] مفردات ألفاظ القرآن مادة: عرف.
[2] الترمذي، النكاح، باب 14 رقم 1101؛ إبن ماجه، النكاح، باب 15 رقم 1880؛ مسند أحمد 6/260.
[3] سنن أبي داود، النكاح، باب 20 رقم 2083؛ الترمذي، النكاح، باب 14 رقم 1102؛ إبن ماجه، النكاح، باب 15 رقم 1879؛ مسند أحمد 6/66.
[4] المبسوط للسرخسي، 16/124.
[5] ابن ماجه، النكاح باب 12 رقم 1873 واللفظ له؛ النسائي، النكاح، باب 35 واللفظ له. سنن أبي داود، النكاح، باب 26 رقم 2101. واسم الخنساء ورد ذكره عند النسائي وأبي داود.
[6] النسائي، النكاح، باب 36 ؛ ابن ماجه، النكاح، باب 12 رقم 1874؛ سنن أبي داود، النكاح، باب 26 رقم 2096؛ مسند أحمد 4/136.
[7] مسلم، النكاح، 66، 67، 68- (1421)؛ سنن أبي داود، النكاح، باب 26 رقم 2098، 2099؛ إبن ماجه، النكاح باب 11 رقم 1870؛ النسائي، النكاح، باب 33، 34.
[8] إبن ماجه، النكاح، باب 11 رقم 1872.
[9] المبسوط للسرخسي، 5/13.
[10] المغني لابن قدامة 7/337.
[11] المحلى لابن حزم 9/25.
[12] المرجع السابق 7/25-38.
[13] المرجع السابق 5/11-12.
[14] المرجع السابق 5/13-14.
[15] البخاري، النكاح، باب 36.
[16] المغني لابن قدامة 7/338.
[17] المرجع السابق 7/338.
[18] مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني 3/262. مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر 1377هـ/1958م.
[19] مجموع الفتاوى لابن تيمية 32/306-307.
[20] مفردات ألفاظ القرآن، مادة: صدق.
[21] مفردات ألفاظ القرآن، مادة: نحل.
[22] النسائي، النكاح، باب 36 ؛ إبن ماجه، النكاح، باب 12 رقم 1874؛ سنن أبي داود، النكاح، باب 26 رقم 2096؛ مسند أحمد 4/136.
[23] سنن أبي داود، النكاح، باب 20 رقم 2083؛ الترمذي، النكاح، باب 14 رقم 1102؛ ابن ماجه، النكاح، باب 15 رقم 1879؛ مسند أحمد 6/66.
[24] الشرح الكبير لسيدي أحمد الدردير بحاشية الدسوقي 2/222-223.
[25] الأم للشافعي 5/13-15بالتصرف.
[26] الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/93.
[27] مسلم، النكاح، 66، 67، 68- (1421)؛ سنن أبي داود، النكاح، باب 26 رقم 2098، 2099؛ إبن ماجه، النكاح باب 11 رقم 1870؛ النسائي، النكاح، باب 33، 34.
[28] المحلى لابن حزم 9/25-38.
[29] المحلى لابن حزم 9/25-38.
You should really moderate the commentary on this site
كلام علمي لا غبار عليه جزاكم الله خيرا
أريد لفت النظر إلى قول في مقالة (الكتاب والسنة أم الكتاب والحكمة) للدكتور الكريم عبد العزيز بايندر عندما أعطى مثالا عن العبادة أنه على المرأة الصلاة وهي حائض علما أني قرأت في نفس موقعكم أنه فقط عليها الصوم أما الصلاة فلا لأنه لا صلاة بدون طهارة، فأحببت التنويه حتى لا يقع تناقض ، وإن كنت مخطئة فأرجو تصحيح معلوماتي ولكم جزيل الشكر
شكرا جزيلا لك أختنا الكريمة ليلى:
نعم ما ذكرته صحيح ذلك أن المقالة التي قال فيها الدكتور عبد العزيز أن الحائض تصوم ولا تصلي هي رأيه القديم، أما في رأيه الجديد فيقول أنها تصوم وتصلي، لأنه لم يجد دليلا من القرآن على منعها من الصلاة، ولأنه لما سئل نبينا عن المحيض أجاب الله تعالى أنه ينبغي اعتزال النساء فيه، ولم يذكر غير ذلك، ولو كن يمنعن من الصلاة لذكر ذلك سبحانه، هذا هو آخر آراء الشيخ.
الحقيقه أن الإسلام صعب جدددا… لماذا لاتكون مواضيع المرأه واضحه؟؟ لماذا كل هذا التعقيد؟؟ لماذا علينا أن نبحث ونغوص ونتعمق حتى نعرف ماهو الصواب لأي موضوع يخص النساء؟؟ الزواج يحدث في كل وقت وحين ويوم وسنه وقرن.. فلماذا كل هذه الاختلافات؟؟ لماذا لاتكون هناك آيات صريحه وأحاديث صريحه تقطع كل هذا وتريحنا وتريح الجميع؟؟؟