الملاحدة
أ.د. عبد العزيز بايندر
في إحدى المحاضرات دار بيني وبين أحد كبار السن الحوار التالي، وكان الحوار حول الملاحدة، وقد دونت هذا الحوار بما أسعفتني ذاكرتي، وذلك لما رأيت من أهميته. كنيت نفسي بالشيخ والسائل بالحاج.
الحاج: جميع الإنذارات والتهديدات في القرآن الكريم موجهة إلى المشركين ولم أر تهديدا أو إنذارا موجها إلى الملاحدة؛ فما رأيك بهذا؟
الشيخ: كل كافر مشرك في نفس الوقت؛ ذلك أن الكافر هو من يخفي الإيمان الموجود في قلبه كما بينا ذلك في الحوار السابق. ومنهم الملاحدة حيث يخفون ما في قلوبهم من الإيمان كذلك. وعلى هذا فإن كلمة الكافر في القرآن الكريم تشمل المشركين والملاحدة على حد سواء.
كلمة الملحد تعني غير المؤمن بالله تعالى؛ فعدم الإيمان به تعالى يكون على شكلين اثنين؛ أحدهما: عدم قبول وجوده تعالى. والآخر: عدم الانقياد لأوامره تعالى، ورفض أحكامه وعدم تعظيمه.
الحاج: أقصد الملاحدة الذين لا يؤمنون بوجود الله.
الشيخ: الملاحدة ينقسمون إلى قسمين؛ قسم يعيش في الدول الإسلامية، وقسم آخر يعيش في الدول غير الإسلامية, وعلى سبيل المثال يطلق الملحد في الغرب على من ينكر الكنيسة.
الحاج: وكيف ذلك؟ وهل الكنيسة إله؟
الشيخ: يظن المسلمون أن الكنيسة مثل المساجد. ولكن الحقيقة أن الكنيسة عند المسيحيين جزء من الهرم الذي يمثل الآلهة عندهم. مثلا في المذهب الكاثوليكي يعتبرون الله تعالى أعلى الهرم الإلهي ثم يأتي بعده على الترتيب عيسى والروح القدس ومريم العذراء والحواريون والبابا والأساقفة والكهنة. ولكل واحد منهم حق التصرف بسم الله، تعالى عما يقولون علوا كبيرا. وكلهم يعتبر نصف إله ونصف إنسان إلا الروح القدس فهو إله خالص. والكنيسة تمثل عيسى والروح القدس ومريم العذراء والحواريين. وعلى هذا الإله الحقيقي عندهم هو الكنيسة لأنها صاحب التصرف المطلق. ومعظم ملاحدة الغرب ينكرون هذا النوع من الإله.
الحاج: لو كنت منهم لما قبلت تلك الآلهة المزعومة. وما عرفته الآن أن بين المسجد والكنيسة بون شاسع.
الشيخ: المسجد مكان العبادة وتدريس العلوم الدينية ويقام فيه بعض الخدمات الاجتماعية والثقافية. أما الكنيسة عند المسيحيين فهي “جمعية لها أعضاء ذووا سلطات، وجسد المسيح السري”. أو “جماعة منظورة وشراكة روحية”[1]. أي أن لها طبيعتين؛ إحداهما لاهوتية والأخرى ناسوتية. “الكنيسة بالنسبة للمسيح بمثابة السر، أي العلامة والأداة في الاتحاد الصميم بالله ووحدة الجنس البشرى برمته”: غاية الكنيسة الأولى هي أن تكون سر الاتحاد الصميم بين البشر والله. ذلك أن الشراكة بين البشر تتأصل في الاتحاد بالله. والكنيسة هي أيضا سر وحدة الجنس البشرى. وفيها ابتدأت هذه الوحدة إذ إنها تجمع بشراً “من جميع الأمم والأعراق والشعوب واللغات” (الرؤيا 7: 9)؛ والكنيسة في الوقت نفسه “علامة وأداة” لتحقيق هذه الوحدة الكاملة، تلك الوحدة التي من شأنها أن تأتى أيضا[2].
موظفوا الكنسية عباد المسيح ومماثلون له. لأن أقوالهم هي أقوال المسيح، وإحسانهم هو إحسانه كذلك. وقد أُعطي لهم ذلك ليعطوا غيرهم[3].
الحاج: أنهم يكونون عبادا لعيسى أي المسيح لأنهم اتخذوه إلها من دون الله؛ وهذا لا يقبله العقل. ولكن سؤالي هل الكنيسة تمثل الرب؟
الشيخ: هم لا يصرحون بذلك ولكن الحقيقة نعم؛ فالكنيسة عندهم تمثل المسيح وكذلك تمثل الله رب العالمين؛ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. فهم يؤمنون أن الكنيسة تتصرف باسم الله في قبول الناس للدين المسيحي وإخراجهم عنه وغفران ذنوب العصاة. وإدخال المؤمنين الجنة والمذنبين جهنم.
ويظهر من الحوار التالي الذي جرى بيني وبين قس بروتستانتي، أن الكنيسة عندهم بمثابة الله:
قلت:ما أهم شرط ليصير الإنسان مسيحيا؟
قال:المعمودية[4].
قلت: والذي يؤمن بجميع العقائد الإيمانية للكنيسة ويؤدي العبادات، ويشارك في الطقوس الدينية، ويساعد الكنيسة بشكل منتظم، ولكنه لم يتعمد، هل يعتبر مسيحيا؟
قال: لا،لأنه ولد مثل أي إنسان آخر بالخطيئة التي ارتكبها آدم. لا خلاص له منها ومن غيرها من الخطايا إلا بالتعميد، وبه يدخل الإنسان في شعب الله.
قلت: إذا طلب الشخص التعميد من الكنيسة ورفضت الكنيسة. فما مصير هذا الشخص؛ الجنة أم النار؟
قال: النار، لأنه لم يُعمَّد.
قلت:إذا عُمِّد الطفل، وحين كبر رفض الكنيسة وعاش حياة مليئة بالخطيئة، فما مصيره ؛ الجنة أم النار؟
قال:الجنة؛ لأنه تعمَّد وكان من شعب الله.
قلت: وقد أسلم اليوم كثير من المسيحيين في أماكن شتى، هل هم مسلمون؟
قال: لا، إنهم مسيحيون، لأننا لم نخرجهم من الكنيسة!
قلت: وهل الإنسان بحاجة لموافقتكم للخروج من المسيحية؟ حتى ولو كان مُعمدا وهو طفل؟
قال: نعم.
قلت: هذا هو دينكم، يكون الدخول فيه بإذنكم والخروج كذلك؟ إذن هو ليس بدين الله بل دين الكنيسة….
لا يوجد جواب.
الحاج: لو ما عرفت الإسلام لأصبحت ملحدا مثل ملاحدة أوروبا. كيف يمكن لمؤسسة أن تضع نفسها بمنزلة إله؟
الشيخ: وهل الكنيسة وحدها تضع نفسها بمنزلة الإله! ألا يوجد الكثير عندنا من أمثال هؤلاء من رجال الدين والمؤسسات الدينية؟ ولكن لا نريد هنا أن ندخل في هذا الموضوع.
الحاج: أُنظر إلى من أعرفه ملحدا يتعامل مع الآخرين في غاية الجمال. أتساءل عما إذا كان اعتقاده مثل اعتقاد الملحد الغربي أم لا؟
الشيخ: لا توجد عندنا مؤسسة تضع نفسها بمنزلة الإله. والقول هنا بعدم الإيمان بالله يكون بمثابة من يهدم الجدار عندما يكون الباب مقفلا أو كمن يحرق اللحاف غضبا من البعوض. فلا يمكن تصور عدم إيمانهم بالله، لأنه لا حجة لهم بذلك كحال الغربيين الذين يعتقدون أن منظومة الكنيسة هي التي تمثل الإله. الحال عندنا مختلف لأن الإسلام يطلب منا أن نومن بما تمليه علينا فطرتنا لا على ما تصوغه الهيئات والمؤسسات الدينية، والحقيقة أنهم يخفون ويسترون ما في قلوبهم من الإيمان، وهذا هو معنى الكفر.
الحاج: وأنا أرى كذلك. لأنهم حين يقعون في الضيق إما يدعون الله وحده أو يعصونه. وإذا دل هذا فإنما يدل على أنهم يؤمنون بوجود الله تعالى. لأن الدعاء أو العصيان لا يكون إلا تجاه من هو موجود بالفعل.
الشيخ: وأمثال هؤلاء ما يرونه صحيحا يعدونه حقائق عالمية، ويجبرون أنفسهم على التعامل مع الآخرين بالتي هي أحسن ليتظاهروا بذلك أنهم ناس طيبين، وهذا نابع من ضيق الأفق وسوء المزاج. قال الله تعالى: « أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» (الفرقان، 25 / 43-44).
والملحد كمن ينكر أباه، لأنه لا يمكن إنكار وجود الخالق الواحد وهو الله. كما أن من ينكر أباه يبحث عنه حين يقع في الضيق كذلك من ينكر وجود الخالق. وسبب كفر هؤلاء وإلحادهم هو أنهم لا يريدون أن يتدخل الخالق في شئون حياتهم بالأمر والنهي، وبالتالي فهم يرون أن أفضل طريقة للتهرب من أمر الله سبحانه هو تكذيبهم لأنبيائه وعدم إيمانهم برسله. قال الله تعالى: « أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ» (الجاثية، 45 / 23 – 27).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] التعاليم الدينية والأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية الفصل 771.
[2] التعاليم الدينية والأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية الفصل 775.
[3] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، الفصل: 776.
[4] المعمودية هي طقس مسيحي يمثل دخول الإنسان الحياة المسيحية، وأن المعمودية المسيحية هي توضيح معرفة المؤمن بموت المسيح ، دفنه وقيامته. (أنظر: تعاليم الدينية والأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية).
أضف تعليقا