مفهوم الحكمة عند الإمام الشافعي
أ د. عبد العزيز بايندر
تمهيد
الحكمة من المفاهيم الأساسية في الإسلام. وفي سورة الأنعام[1] ذكر الله تعالى ثمانية عشر نبيا ثم قال: «وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؛ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ؛ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ» (الأنعام، 6 / 87-89).
إن النّبوات قديمة في البشرية، وهي لخير الإنسان وإسعاده، وقد اتّصل أولهم (من آدم عليه الصلاة والسلام) بآخرهم (إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم) في دعوة واحدة هي الدعوة إلى توحيد الله وترك الشّرك والوثنية، والأمر بمكارم الأخلاق، وتنظيم الحياة الإنسانية على نحو من المودّة والمحبّة والألفة والتعاون، وجمع الكلمة وتوحيد الصّف، والتّرفع عن الخلافات والمنازعات.
وقد أكرمهم الله تعالى بالنّبوة والحكمة والفطنة إلى الحجة الدامغة. قال الله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (آل عمران، 3 / 81).
الحكم والحكمة مصدران من حكم يحكم. ومن الحكم ما هو صحيح و ما هو خطأ. أما الحكمة لا تطلق إلا على ما كان صوابا. فهي مصدر نوعي. أي أنها تعني إصدار حكم صحيح. وإذا استعملت اسما فإنها تأتي بمعنى الحكم الصحيح كما تأتي بمعنى الهيئة النفسية التي يستطيع بها الإنسان إصدار حكم صحيح.
وقد أخبرنا الله تعالى من أحكام الأنبياء بقوله: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» (البقرة، 2 / 213).
ومن لم يحكم بكتاب الله تعالى ضل عن سواء السبيل. قال الله تعالى: « إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا[2] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ . وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (المائدة، 5 / 44-45).
وقد أمر الله تعالى النصارى أن يحكموا بما أنزل الله تعالى أي بالإنجيل. قال الله تعالى: «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون» (المائدة، 5 / 47).
كما أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يحكم بما أنزله إليه. قال الله تعالى: « وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ .أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ[3] وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (المائدة، 5 / 49-50).
وجملة القول، أن الأنبياء مأمورون بتبليغ ما أوحى الله إليهم وتطبيقه والحكم به. فالحكمة، هي تطبيقات الوحي الإلهي من قبل النبي في الحياة الإجتماعية اليومية. وبعبارة أخرى فإن الحكمة هي سنن الأنبياء.
ومن خلال مطالعتنا لموضوع الحكمة وجدنا أنه لم يتحدث فيها من الفقهاء غير الإمام الشافعي رحمه الله. وقد تحدث عن الحكمة والسنة والعلاقة بينهما. وإليكم الآن أراء الإمام الشافعي رحمه الله…
1. علاقة الحكمة بالسنة عند الشافعي
يقول الشافعي: “سمعتُ مَنْ أرْضى من أهل العلم بالقُرَآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. لأن القُرَآن ذُكر وأُتْبِعَتْه الحكمة، وذكرَ الله منَّه على خَلْقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يَجُزْ – والله أعلم – أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنةُ رسول الله.”
“وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتَّم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرضٌ، إلا لكتاب الله، ثم سنة رسوله”.[4]
ثم استدل الشافعي على قوله بأن السنة هي بمنزلة الكتاب بقوله تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا» (الأحزاب، 33 / 36).
وقوله تعالى: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» (النساء، 4 / 59).
وقوله تعالى: « وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا» (النساء، 4 / 69). وقوله تعالى: « يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» (الأنفال، 8 / 20).
وقد استدل الشافعي على رأيه بالأحاديث؛ منها:
عن أبي رافع رضي الله عنه، أنَّ رسول الله قال: لاَ أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأُمْرُ مِنْ أمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ به أَوْ نَهَيْتُ عنه، فيقولُ لاَ أَدْرِي ماَ وَجَدْنَا فِي كِتَاِب اللهِ اتَّبَعْناَهُ.[5]
وقال الشافعي في السنة: فلم أعلم من أهل العلم مخالفاً في أن سُنن النبي من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين. والوجهان يجْتَمِعان ويتفرَّعان.
أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبَيَّنَ رسول الله مثلَ ما نصَّ الكتاب.
والآخر: مما أنزل الله فيه جملةَ كتاب، فبيَّن عن الله معنى ما أراد؛ وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.
والوجه الثالث: ما سنَّ رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب.
فمنهم من قال: جعل الله له، بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يَسُنَّ فيما ليس فيه نص كتاب.
ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سُنَّته لتبيين عدد الصلاة وعملها، على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سنَّ من البُيُوع وغيرها من الشرائع، فما أحلَّ وحرَّم فإنما بيَّن فيه عن الله، كما بَيَّن الصلاة.
ومنهم من قال: بل جاءته به رسالةُ الله، فأثبتتْ سنَّتَه.
ومنهم من قال: أُلْقِيَ في رُوعه كلُّ ما سَنَّ، وسنَّتُه الحكمةُ: الذي أُلقي في رُوعه عن الله، فكان ما ألقي في روعه سنتَه.[6]
وخلاصة القول، قال الشافعي إن الحكمة هي السنة. وهي وحي مثل القرآن الكريم. فلا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ رسوله، بل هو لازم بكلِّ حال. كما قال إن القرآن لا ينسخ السنة ولا تنسخ السنة إلا السنة مثلها.[7]
2. المآخذ على أراء الشافعي
وقد رأينا من خلال مطالعتنا لآراء الشافعي في موضوع الحكمة والسنة، أنه وقع في أخطاء يمكن تلخيصها في النقاط التالية: القول بأن الحكمة من خصوصيات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، متجاهلا المناسبات والموازنات بين الآيات المتحدثة عن الحكمة. ولم ينتبه إلى الفرق بين النبي والرسول، واعتبر السنة وحيا مثل القرآن الكريم وبالتالي لم يستطع معرفة العلاقة الوثيقة بين الكتاب والسنة والوفاق التام بينهما.
تخصيص الحكمة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
قال الشافعي: وسنة رسول الله مُبَيِّنَة عن الله معنى ما أراد، دليلاً على خاصِّه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه، فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله صلى الله عليه وسلم.[8] مع أن الله تعالى بين أنه يعطي الحكمة لجميع الناس وعلى رأسهم الأنبياء. قال الله تعالى: «يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْأُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ[9] إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ[10]» (البقرة، 2 / 269). وقال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» (لقمان، 31 / 12).
لا نجد في القرآن الكريم ما يدل على نبوة لقمان، ولو كان نبيا لم يؤته الحكمة فحسب بل لآتاه الكتاب والحكمة معا. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحكمة: ” لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَىهَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ،[11] وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا”.[12]
وعن ابن عباس، قال: ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وقال: “اللهم علمه الحكمة”.[13]
تغافل الشافعي عن الميزان بين الآيات
الميزان، من الوزن: معرفة قدر الشيء.[14] وقد جاء الميزان في الآية التالية بمعنى الحكمة: قال الله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ» (الشورى، 42 / 17).
وفي قوله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (الحديد، 57 / 25)، ورد الميزان بمعنى الحكمة مبينا أن الهدف هو القسط. والقسط هو إعطاء النصيب بالعدل.
ويوجد الميزان في آياته المنثورة في الكون؛ أي ما يحيط بنا من الكائنات. قال الله تعالى: «وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ . أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ . وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ» (الرحمن، 55 / 7-9) يأمرنا الله تعالى في هذه الآية بالميزان والقسط في علاقتنا مع الطبيعة.
كما رأينا فإن الميزان هو معنى آخر للقسط والعدل. لذلك ينبغي أن لا تؤدي العداوة لشخص ما أن نترك القسط والعدل معه. قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» (المائدة، 5 / 8-9).
وفي التعايش مع أصحاب الآراء المختلفة لا بد أن يكون الميزان (الحكمة) يمثل المعايير الأساسية في العلاقات الإجتماعية. قال الله تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. (الممتحنة، 60 / 8-9).
ولحماية الميزان وجب الجهاد ضد من يحاربنا أو أخرجنا من ديارنا أو ظاهر علينا في إخراجنا من بلادنا بسبب ديننا. ورغم إيجاب الجهاد إلا أنه لا يجوز التجاوز عن الحد اللازم. وقد علّمنا القرآن الكريم في سورة البقرة في ستِّ آيات ستَّ قواعد في القتال في سبيل الله، لمعرفة أسباب مشروعية القتال وغاياته وآدابه وزمنه…
وأول هذه القواعد: أن الله تعالى أذن بالقتال في سبيله لردّ العدوان وحماية الدعوة والميزان وحرية الدين ونشره في العالمين، قال الله تعالى: «وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْوَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ» (البقرة، 2 / 190).
القاعدة الثانية في القتال: القتال حين الاعتداء يجوز في أي مكان، قال الله تعالى: «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» (البقرة، 2 / 191).
القاعدة الثالثة: أنه لا يبدأ المسلمون قتال غيرهم في المسجد الحرام في مكة حتى يبدأ الأعداء، فإن قاتلهم أعداؤهم، جاز القتال وردّ العدوان، حتى ينتهي المعتدون عن عدوانهم لأن الشّر بالشّر، والبادئ أظلم، قال الله تعالى: «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (البقرة، 2 / 191-192).
لقاعدة الرابعة: لتشريع القتال في الإسلام غايتان: الأولى: منع الفتنة في الدين، وضمان حريته، والثانية: إقرار السّلم واستتباب الأمن والطمأنينة، قال الله تعالى: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ» (البقرة، 2 / 193).
القاعدة الخامسة: أن الإذن بالقتال في الشهر الحرام: ذي القعدة من قبيل القصاص والمعاملة بالمثل، فإن مشركي مكة انتهكوا حرمة هذا الشهر الحرام، وردّوا المسلمين عن العمرة يوم الحديبية، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء، وكراهتهم القتال في الأشهر الحرم: الشهر الحرام بالشهر الحرام وهتكه بهتكه، فمن عظّمه عظّمناه، ومن انتهك حرمته انتهكناه، والقتال فيه في هذا العام كالقتال من المشركين في العام السابق، فالواجب القصاص والأخذ بالمثل، قال الله تعالى: «الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (البقرة، 2 / 194).
القاعدة السادسة والأخيرة: إن القتال في سبيل الله يتطلب التضحية بالنفس والمال، ويتوقف القتال كغيره على المال، فيجب الإنفاق في سبيله لأن الإنفاق في الحروب وسيلة النصر وطريق الفوز والغلبة، وترك الإنفاق مهلكة للأمة، ومضيعة للجماعة، قال الله تعالى: «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (البقرة، 2 / 195).
ولنتبع الحكمة علينا أن ندرس مجموع الآيات التي توضح العلاقة مع غير المسلمين في هذا النطاق، ذلك أن دراسة المناسبات بين الآيات وأخذها على مجموعها من مقتضيات الحكمة. فانعدام الحكمة وأخذ الآيات على انفرادها أدى إلى خلل وأخطاء كبيرة في العلاقة مع غير المسلمين.[15]
بناءً على ما ذكرنا يمكن أن نعرف الحكمة على النحو التالي:
دراسة ما بين آيات الله من الميزان وإعطاء كل شيء حقه. وهذا التعريف ينطبق على العلم كذلك؛ لأن كلا من الميزان والقسط يوجد في آيات الله السماوية والأرضية.
وتبليغ الآيات: هو بمثابة توفير ضروريات الحياة كالماء والغذاء والطاقة. أما الحكمة فهي كالاستفادة من تلك المصادر. وليس من السهل الحصول على كلٍ من الميزان والقسط الموجود في الكون على وجه الكمال. ولكن يمكن الحصول على قدر كبير منه بالتجارب الحديثة وما توارثنا من العلوم والتجارب عبر التاريخ. وانعدام الميزان عند الاستفادة من المصادر الحيوية يعرف على الفور. وكذلك انعدام الميزان في الموضوعات الدينية يظهر بسهولة. عن وابصة بن معبد الأسدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوابصة: جئت تسأل عن البر والإثم؟ قال: قلت: نعم، قال: فجمع أصابعه فضرب بها صدره، وقال: استفت نفسك، استفت قلبك يا وابصة – ثلاثا – البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة.[16]
وهناك بعض الأشياء لا تعجب الإنسان ولكنها كالدواء لا بد منها لصحة الجسم، إذا وصفت من قبل طبيب معتمد. وهكذا الموضوعات الدينية، فبعض الأوامر الدينية واجبة الإمتثال لا لأنها مرغوب بها وتطيب للنفس، بل على أساس أن الله تعالى أمر بها وهو العليم الخبير. قال الله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْشَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْوَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (البقرة، 2 / 216).
الاستفادة من المصادر الحيوية والغذائية والدوائية يعتمد على التجار كوسطاء بين المنتج والمستهلك وهذا موروث عبر التاريخ. وعلى الرغم من أهمية هذه المصادر في قوام الإنسان ودوامه على هذه الحياة إلا أنه وجد من يستغله من أجل تحقيق مكاسب مادية . واستغلال الإنسان لم يقف عند حد استغلاله في طعامه وشرابه ودوائه بل وجد من يستغله دينيا لتحقيق أطماع دنيوية وسلطوية، وأخطر ما يُستغل به الإنسان هو الاستغلال الديني، لأنه يكون بإسم الله تعالى. لذا لم يترك الله تعالى بيان القرآن الكريم لأحد من الخلق، بل قال إنه هو الذي يُبين، ووضع في القرآن الكريم طرقا وأساليب للوصول إلى بيانه تعالى، وما على الناس إلا البحث عن تلك الأساليب والطرق. قال الله تعالى: «الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ[17]؛ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» (سورة هود، 11 / 1-2).
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يصل إلى بيان الله تعالى للقرآن الكريم بتلك الأساليب والطرق. ولكن من الممكن أن يخطئ النبي صلى الله عليه وسلم في الوصول إلى البيان الصحيح. قال الله تعالى: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (سورة النساء، 4 / 176).
الفتوى: هي إظهار ما أشكل من الأحكام الشرعية وكشفه وتبيينه.[18] والفتوى الواردة في هذه الآية هي في حق الكلالة. والذي يدرس الآية السابعة إلى الثانية عشرة من سورة النساء وكذلك الآية الثلاثة والثلاثين من نفس السورة يمكن له أن يصل إلى تلك المعلومات. ولكن المسلمين استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم عجزوا من إقامة الميزان بين الآيات، وقد أفتى الله قبل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يحتمل أيضا أن يخطئ في الفتوى. لذا قال الله تعالى في آخر الآية: «يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ».
النبي هو من تلقى الوحي من الله تعالى، أما الرسالة فهي قيام ذلك النبي بتبليغ ما أوحي إليه وتطبيقه في قومه واستنباط الأحكام منه. فالأحكام المستنبطة من الوحي لا يقع فيها خطأ أما الأحكام المعتمدة على الرأي يقع فيها الأخطاء فيتم تصويبه من الله تعالى بالوحي. كما حدث في أسرى بدر. والفرق بين الرسول والنبي مهم جدا وإهماله يؤدي إلى عدم فهم الآيات الكثيرة فهما صحيحا. وقد أُهمل هذا الفرق عند الشافعي رحمه الله
3. غفلة الإمام الشافعي عن الفرق بين الرسول والنبي
وهذه الغفلة ليست من الإمام الشافعي فحسب بل هي غفلة معظم الفقهاء. وعلى رأيهم فإن الرسول هو من أُرسل بكتاب جديد وبشريعة جديدة. أما النبي من أمر بتبليغ رسالة من سبقه من الرسل وتبليغ شريعته إلى قومه. فهم يقولون إن كل رسول نبي وليس العكس.[19]
وفي الحقيقة أن الله تعالى قد أنزل على جميع الأنبياء كتبا. وعلى سبيل المثال النبي إسماعيل عليه الصلاة والسلام حسب العقائد التقليدية لم يؤت له كتاب. وعلى هذا فإنه نبي فقط وليس برسول. ولكن يخبرنا الله تعالى في الآيات المذكورة سابقا من سورة الأنعام أنه أوتي كتابا وحكمة. كما يخبرنا الله تعالى في الآية التالية أنه كان رسولا أيضا؛ قال الله تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَصَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا» (سورة مريم، 19 / 54).
والرسول هو من كان وظيفته تبليغ كلام المرسِل إلى المرسَل إليه دون أن يكون له دخل في التصرف.[20] ينقسم الرسل إلى قسمين؛ الأول: الرسول النبي. والثاني: رسول وليس بنبي. فكل نبي مأمور بتبليغ كتاب الله فهو رسول في الوقت نفسه. وهناك رسل ولم يُرسَلوا من الله تعالى. وقد عبر القرآن الكريم عن الذي أرسله ملك مصر إلى يوسف عليه السلام بالرسول. بقوله تعالى عن ملك مصر: «وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِيبِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُالنِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ …» (سورة يوسف، 12 / 50).. كما عبر القرآن عمن أرسلته بلقيس إلى سليمان عليه السلام بالمرسل. بقوله تعالى عن بلقيس «وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ» (سورة النمل، 27 / 35).
وإذا لم يكن الرسول مرسلا من الله تعالى لا يقال عنه نبيا. وعلى هذا فكل نبي رسول وليس العكس، على خلاف ما هو معروف في كتب العقائد التقليدية. والرسل من غير الأنبياء يقومون بالتبليغ فقط. كما في قوله تعالى: «كَذَّبَتْقَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ» و«كَذَّبَتْعَادٌ الْمُرْسَلِينَ» (سورة الشعراء، 26 / 105، 123). فالمرسلون في هاتين الآيتين هم من قاموا بالتبليغ ممن آمن بنوح وهود عليهما الصلاة والسلام.
ومن المعروف أن الله أرسل نوحا إلى قومه كما أرسل هودا إلى قومه عاد. فلا شك أن الذي قام بالتبليغ هو ممن آمن بهما من قومهما.
وقد خُتمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا نبي بعده، ولا كتاب منزل بعد القرآن الكريم. قال الله تعالى: «مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِنرَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا» (سورة الأحزاب، 33 / 40).
أخبرنا الله في هذه الآية أنه خاتم النبيين، وليس خاتم الرسل؛ لأن الرسل من غير الأنبياء موجدون في كل مكان وزمان ولا يزالون يبلغون رسالة الله تعالى حتى يرث الله الأرض ومن عليها. قال الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَامِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُمَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (سورة إبراهيم، 14 / 4).
وقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم بلسان عربي لأن محمدا صلى لله عليه وسلم أرسل في قوم يتكلمون بالعربية. لكنه كتاب هداية إلى الناس كافة. قال الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِبَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» سورة سبأ، 34 / 28).
وقال أيضا: «قُلْيَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِيلَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُفَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِوَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (سورة الأعراف، 7 / 158).
وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالته لأنه لا يستطيع أن يبلغها إلى جميع أنحاء الدنيا حال حياته، فضلا عن انتهاء مهمته بموته صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: “بلغوا عني ولو آية”.[21]
وهكذا، يجب علينا تبليغ القرآن الكريم بجميع اللغات نيابة عن رسول الله، ليصبح كل من يبلغ القرآن كرسول لرسول الله، ولا ينبغي إهمال هذه المهمة لأنها مظنة انتشار الإسلام وبقاؤه حيا. وقد حذرنا الله تعالى من سوء العاقبة المترتبة على عدم تبليغ الرسالة بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» (سورة البقرة، 2 / 159).
واجب الرسول هو تبليغ ما أنزله الله عليه من الكتاب. قال الله تعالى: «فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ» (سورة النحل، 16 / 35). وقال أيضا: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» (سورة المائدة، 5 / 67).
وطاعة الرسول طاعة لمن أرسله؛ لأنه يبلغ ما أوحي إليه بدون زيادة ولا نقصان. لذا قال الله تعالى: «من يطع الرسولفقد أطاع الله» (سورة النساء، 4 / 80).
وكذلك لا يُحلُّ الرسولُ شيئا ولا يحرم إلا ما قد أحله الله أو حرمه. قال الله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَالرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْفِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْعَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ…» (سورة الأعراف، 7 / 157).
والنبي يقوم بتبليغ الكتاب بموجب وظيفته وهو حين يبلغ الرسالة يطلق عليه اسم الرسول؛ ولا يصدر منه الخطأ في التبليغ فهو محفوظ في حالة أدائه الرسالة. أما ما ليس له علاقة بتبليغ الرسالة من الأفعال والتصرفات فيمكن أن يصدر منه الخطأ، ولكن سرعان ما يتم تصويبه بالوحي ويعاتبه الله تعالى على أخطائه وهو نبي، فلا يجوز له أن يحرم شيئا أو يحله وهو نبي؛ أي كشخص موحى إليه دون أن يعتمد على الوحي. قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (سورة التحريم، 66 / 1).
وقد عاتب الله تعالى على نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في موضوع أسرى البدر. حيث قال الله تعالى: «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (سورة الأنفال، 8 / 67-68).
وقد وُجه إليه صلى الله عليه وسلم هذا العتابُ الشديد لما صدر منه من تفريط فيما أخبره الله تعالى به في الآية الرابعة من سورة محمد التي تنص على عدم جواز الأسر حتى تضع الحرب أوزارها. قال الله تعالى: «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا» (سورة محمد، 47 / 4).
قد الحق الفرس بالروم هزيمة في عقر دارهم. وقد أخبر الله تعالى أن الروم سيعيدون الكرة على الفرس وسيغلبونهن في بضع سنين (من ثلاث سنوات إلى تسع سنوات)، وحينئذ سيفرح المؤمنون بما يكافئهم الله بالنصر. قال الله تعالى: «الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ . وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (سورة الروم، 30 / 1-6).
وكان أبو سفيان في طريق العودة من الشام إلى مكة ومعه قافلة تحمل الأموال التجارية التي هي في الأصل أموال المهاجرين. وقد انتشرت الأخبار عن الحروب التي تحدث بين الروم والفرس. وقد خرج المسلمون ليعيدوا أموالهم من أبي سفيان، حسب ما وعدهم الله تعالى في الآية السابعة من سورة الأنفال، وفي نفس الوقت خرج أهل مكة لحماية القافلة لأنهم علموا أن الله تعالى أنزل آية يعد فيها المسلمين بإعادة أموالهم، وكان قد نجح أبو سفيان في إنقاذ القافلة، ليتفاجأ المسلمون بجيش مكة حيث لم يكونوا يتوقعون ذلك، كما أخبرنا الله تعالى عن ذلك بقوله: «وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» (سورة الأنفال، 8 / 7-8).
وفاتت القافلة على المسلمين، والتقوا مع جيش مكة ببدر. ولو أنهم التزموا القواعد التي وضعها الله تعالى لتعقبوا جيش مكة حتى يدخلوها فاتحين وليقطعوا بذلك دابر المشركين ، لأن الله تعالى قال: «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» (سورة الأنفال، 8 / 7-8).
وقد جاهد المسلمون في بدر والحقوا بالعدو ضربة قاسية، وكان عليهم أن يتبعوا من هرب من المشركين حتى يثخنوهم. ولكنهم اختاروا الأسر وعادوا إلى المدينة المنورة. وكان الأسر بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان على الصحابة أن يذكروه بالآية التي تمنع الأسر ولكنهم لم يفعلوا ذلك، لذا عوتبوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال الله تعالى معاتبا له ولأصحابه: «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (سورة الأنفال، 8 / 67).
وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم من كل أسير أربعة آلاف درهم. وروي عن الإمام الشافعي أنه أخذ من بعض الأسرى أقل من ذلك، وأطلق سراح البعض الآخر. وحين نزلت الآية المتعلقة بالأسرى وأخذهم الفدية تحرج الصحابة من استعمال الغنيمة والفدية التي أخذوها من أسرى المشركين. فأنزل الله تعالى: «فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (سورة الأنفال، 8 / 69).
من يتدبر القرآن جيدا يجد أنّ الأمر بطاعة الرسول مطلقة وأما الأمر بطاعة النبي مشروطة بالمعروف. كما نفهم ذلك من قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (سورة محمد، 60 / 12).
وحين يخاطب الله نبيه صلى الله عليه بوصفه رسولا، لم تُذكر عبارة ” وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ”، لأن طاعة الرسول طاعة لله فليست مقيدة بشرط. قال الله تعالى: «يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا» (سورة النساء، 4 / 42).
الرسول يبلغ ما أوحى الله إليه كما هو، وإضافة شيء إليه أو إنقاصه يخالف وظيفة الرسالة. وجزاء من فعل ذلك من الأنبياء هو القتل. قال الله تعالى: «وَإِن كَادُواْلَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُوَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّتَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً . إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَالْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا» (الإسراء، 17 / 73-75).
وقال أيضا: «وَلَوْتَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَامِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ» (حقة، 69 / 44-47).
وظيفة النبي هي تبليغ ما أنزل إليه من الكتاب والحكم به. قال الله تعالى: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» (سورة البقرة، 2 / 213). «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا» (سورة النساء، 4 / 105).
هذا وقد ورد في القرآن قتل الأنبياء بغير الحق، ولكن لم يرد ذلك في حق الرسل؛ لأن الرسالة لا يمكن قتلها بخلاف النبي الذي يحمل الرسالة. قال الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ» (سورة آل عمران، 3 / 21). «لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُون» (سورة المائدة، 5 / 70).
الأنبياء يحاسبون على ما صدر منهم من الأخطاء كغيرهم من الناس. قال الله تعالى: «وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» (سورة آل عمران، 3 / 161).
وقد عاتب الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على ما صدر منه في موضوع أسرى بدر. قال الله تعالى: «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا» (سورة محمد، 47 / 4).
عندما الحق الفرس الهزيمة بالروم، أخبر الله تعالى أن الروم سيعيدون الكرة على الفرس وسيغلبونهم وبذلك يفرح المؤمنون بالنصر. قال الله تعالى: «الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ . وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (سورة الروم، 30 / 1-6).
وقد انتشرت الأخبار عن الحروب التي تحدث بين الروم والفرس. وكان أبو سفيان في طريق العودة من الشام إلى مكة ومعه قافلة تحمل أموالا تجارية هي في الأصل أموال المهاجرين. وقد خرج المسلمون ليعيدوا أموالهم من أبي سفيان، حسب ما وعدهم الله تعالى في الاية السابعة من سورة الأنفال، بقوله تعالى: «وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» (سورة الأنفال، 8 / 7-8).
وفي نفس الوقت خرج أهل مكة لحماية القافلة لأنهم علموا أن الله تعالى أنزل آية يعد فيها المسلمين بإعادة أموالهم، لكن أبا سفيان نجح في إنقاذ القافلة. ليجد المسلمون أنفسهم في مواجهة جيش مكة حيث لم يكونوا يتوقعون ذلك.
وقد أبلى المسلمون في بدر بلاء حسنا وألحقوا بالعدو ضربة مؤلمة، لكنهم لم ينتهزوا فرصة القضاء عليهم كما وعدهم الله تعالى، إذ كان عليهم أن يتعقبوا المشركين المنهزمين حتى يثخنوهم. ولكنهم اكتفوا بالأسر وعادوا إلى المدينة المنورة. وقد تم الأسر بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الصحابة نبيهم بالآية التي تمنع الأسر؛ لذا عوتبوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال الله تعالى معاتبا له ولأصحابه: «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (سورة الأنفال، 8 / 67). وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم من كل أسير أربعة آلاف درهم. وروي عن الإمام الشافعي أنه أخذ من بعض الأسرى أقل من ذلك، وأطلق سراح بعض الآخر.
ولما نزلت الآية المتعلقة بالأسرى وأخذهم الفدية تحرج الصحابة من الإنتفاع بما أخذوا من الغنيمة والفدية التي أخذوها من أسرى المشركين. فأنزل الله تعالى: «فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (سورة الأنفال، 8 / 69).
وقد أخبر الله تعالى نبيه ومن آمن معه بفتح مكة كي يستغفروه مما أخطأوا في بدر ويتوبوا إليه، حيث قال الله تعالى: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا» (سورة الفتح، 48 / 1-2).
وقد أمر الله تعالى في سورة النصر التي نزلت بعد فتح مكة أن يستغفر الله، قال الله تعالى: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا» (سورة النصر، 110 / 1-3).
4. عدم التوافق بين الكتاب والسنة عند الإمام الشافعي
لا ريب أن السنة هي الحكمة. لأن من وظيفة النبي تعليم الحكمة مع الكتاب. قال الله تعالى: «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ» (سورة البقرة، 2 / 151).
ولا يفهم من السنة إلا الحكمة كما قال الإمام الشافعي. لأن ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من غير الكتاب هو السنة.[22] ولكن قوله: (وسنةُ رسول الله مُبَيِّنَة عن الله معنى ما أراد، دليلاً على خاصِّه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه، فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله؛[23]وهي وحي من الله تعالى مثل القرآن الكريم؛ ولا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ رسوله، بل هو لازم بكلِّ حال).[24]كلام الشافعي جعل من السنة مصدرا ثانيا مستقلا إلى جانب القرآن الكريم، وهذا ما يمنع التوافق بين الكتاب والسنة. والصحيح أن السنة هي نتيجة الميزان الموجود في القرآن الكريم. يوجد بين القرآن والسنة توافق تام ولا يجوز التغافل عنه. وقد تلقى النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أمرا في هذا الخصوص حيث قال تعالى: «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ[25] وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (المائدة، 5 / 49-50).
فلا بد من اتباع الأساليب التي وضعها الله تعالى حتى نصل إلى حكم يحفظ الميزان. وهو ليس وظيفة الأنبياء فحسب بل هو وظيفة علماء الدين أيضا. قال الله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ» (سورة الماءدة، 5 / 44).
كما قال تعالى في حقنا: «وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ . ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» (سورة الفاطر، 35 / 31-32).
والذين يحكمون بالكتاب بعد نبينا صلى الله عليه وسلم هم العلماء. لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ”.[26]
كان جبريل عليه السلام هو الذي يعلم القرآن الكريم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى» (سورة النجم، 53 / 1-5).
ووارثوا نبينا صلى الله عليه وسلم من العلماء هم الذين يستنبطون الأحكام من القرآن الكريم وفق الأساليب التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم. وهم الذين عرفوا أن بين القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم توافقا تاما، لأنهم لم يعطلوا الميزان؛ ولم يعتبروا السنة مصدرا مستقلا بل جعلوها مصدرا تابعا للقرآن الكريم. ولا يمكن لغير هؤلاء العلماء فهم القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فهما صحيحا. والعدول عن منهج التوافق بين الكتاب والسنة باعتبار السنة مصدرا مستقلا في التشريع يؤدي إلى الفهم الخطأ؛ والفهم الخاطئ يؤدي إلى مشاكل كثيرة. ونود الآن أن نوضح الموضوع بالأمثلة:
5. تعارض الأصول مع الفروع عند الإمام الشافعي
فهم الشافعي للحكمة منعه أن يرى التوافق بين الكتاب والسنة. لأن قول الشافعي (بأن سنة رسول الله مُبَيِّنَة عن الله معنى ما أراد، دليلاً على خاصِّه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه، فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله؛[27]وهي وحي من الله تعالى مثل القرآن الريم؛ وأنه لا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ رسوله، بل هو لازم بكلِّ حال).[28]أدى إلى فهم التعارض الظاهري بين الآيات والأحاديث على أنه تعارض حقيقي. فأخْذُ الأحاديث وترْكُ الآيات يؤدى إلى القول بأن السنة تنسخ الكتاب. وكذلك أخذ الآيات وترك الأحاديث يؤدي إلى القول بأن الكتاب ينسخ السنة. ولكن أصول الشافعي تنص على أن الكتاب لا ينسخ السنة وكذلك السنة لا تنسخ الكتاب. كما قال الشافعي: لا يَنْسخ كتابَ الله إلا كتابُه …وهكذا سنة رسول الله، لا يَنْسَخُها إلا سنةٌ لرسول الله.[29] وفي هذه الحالة نرى الشافعي يأخذ بالسنة ويترك الكتاب تارة، ويأخذ بالكتاب ويترك السنة تارة أخرى. ونود أن نورد هنا مثالا على التعارض الظاهري بين الكتاب والسنة لنرى كيف أخذ الشافعي بالسنة وترك الكتاب، لأن موضوعنا هو السنة أي الحكمة. والمثال الأول هو موضوع السعي بين الصفا والمروة…
6. مشهد التعارض بين الكتاب والسنة عند الشافعي
والذي لم يتبع أسلوب النظر إلى الآيات المتعلقة بالموضوع نظرا شموليا يقول إن آية واحدة فقط جاءت في السعي بين الصفا والمروة. وهي قوله تعالى: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا» (سورة البقرة، 2 / 158).
وقوله تعالى في الآية «فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا» تدل على الإباحة، أي أن السعي بين الصفا والمروة ليس فرضا بحسب الآية. ومع ذلك فقد فرض النبي صلى الله عليه وسلم السعي بين الصفا والمروة بقوله: “اسْعَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ”.[30]
ويظهر التعارض بين الحديث والآية. قال الإمام النووي: قال الشافعي السعي ركن لقول النبي صلى الله عليه وسلم “اسْعَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ”، وإلا فهو تطوع. واحتج القائلون بأنه تطوع بقوله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) ورفع الجناح في الطواف بهما يدل على أنه مباح لا واجب.[31] وعلى رأي الشافعي أن كليهما حكم الله؛ حيث لا يختلف عنده حكمُ الله ثم حكمُ رسوله، بل هو لازم بكلِّ حال.[32] ولا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر. لأنه لا يَنْسخ كتابَ الله إلا كتابُه …وهكذا سنة رسول الله، لا يَنْسَخُها إلا سنةٌ لرسول الله.[33] وعليه فإن السعي مباح إذا أخذنا بالآية وفرض إذا أخذنا بالحديث.
7. ترجيح الشافعي السنة على القرآن
يرجح الشافعي السنة على القرآن في بعض الأوقات. وكذلك فعل هنا؛ حيث ترك الآية وأخذ بالحديث وقال بفرضية السعي استنادا على الحديث. وكلام الشافعي في موضوع السعي كالتالي:
السعي ركن لقول النبي صلى الله عليه وسلم “اسْعَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ”، وإلا فهو تطوع. واحتج القائلون بأنه تطوع بقوله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) ورفع الجناح في الطواف بهما يدل على أنه مباح لا واجب.[34]
والسعي بين الصفا والمروة واجب لا يجزئ غيره، ولو تركه رجل حتى جاء بلده فكان معتمرا كان حراما من كل شيء حتى يرجع، وإن كان حاجا قد رمى الجمرة وحلق كان حراما من النساء حتى يرجع ولا يجزي بين الصفا والمروة إلا سبع كامل فلو صدر ولم يكمله سبعا فإن كان إنما ترك من السابع ذراعا كان كهيئته لو لم يطف ورجع حتى يبتدئ طوافا.[35]
ويظهر مما سبق أن الشافعي جعل السنة ناسخة للقرآن الكريم خلافا للأصول التي أقرها.
ويلخص كلام الشافعي ما قاله عبد الله بن باز نقلا عن الأوزاعي: بأن السنة قاضية على الكتاب، أي تقيد ما أطلقه، أو تأتي بأحكام لم تذكر في الكتاب، كما في قول الله سبحانه: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (سورة النحل، 16 / 43).[36] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَلا إِني أوتِيتُ الكِتابَ ومثلَه مَعَهُ”.
وأخرج البيهقي عن عامر الشعبي رحمه الله أنه قال لبعض الناس: إنما هلكتم حين تركتم الآثار. يعني بذلك الأحاديث الصحيحة.
وأخرج البيهقي أيضا عن الأوزاعي رحمه الله أنه قال لبعض أصحابه: إذا بلغك عن رسول الله حديث، فإياك أن تقول بغيره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبلغا عن الله تعالى، وأخرج البيهقي عن الإمام الجليل سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله أنه قال: إنما العلم كله، العلم بالآثار. وقال مالك رحمه الله: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين.
وقال الشافعي رحمه الله: (متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحا فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب). وقال أيضا رحمه الله: إذا قلت قولا وجاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه، فاضربوا بقولي الحائط.
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لبعض أصحابه: لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي، وخذ من حيث أخذنا.[37]
ولنا على ما سبق من أقول العلماء المآخذ التالية:
قوله تعالى: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (سورة النحل، 16 / 44) الآية التي استدلوا بها، لا علاقة لها بالموضوع.
ولنفهم الآية لا بد من جمع الآيات المتعلقة بها ثم الأخذ بمجموعها. نقرأ الآية مع سابقها مثلا، حيث قال الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ. بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (سورة النحل، 16 / 43-44).
وقد بين الله تعالى لرسوله من يسأله للتأكد من صحة الوحي إليه بقوله تعالى: «فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّمِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَفَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَالْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» (سورة يونس، 10 / 94).
ومن وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم، تبليغ القرآن الكريم إلى أهل الكتاب وبيان أن القرآن يصدق ما بين أيديهم من التوراة والإنجيل. قال الله تعالى: « يَاۤ اَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاۤءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثيرٍ قَدْ جَاۤءَكُمْ مِنَ اللّٰهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبينٌ» (سورة المائدة، 5 / 15).
بهذه الآيات يتضح لنا أن البيان الوارد في الآية 44 من سروة النحل، يراد به تبليغ الكتاب، ويؤيد ذلك قوله تعالى: «وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ» (سورة آل عمران، 3 / 187).
جاء في الآية 44 من سورة النحل “لتبين للناس” وفي هذه الآية “لتبيننه للناس”. وعلى هذا فلا يصح الاستدلال بها على كون السنة مبينة للقرآن الكريم.
والدليل الثاني لأصحاب الآراء السابقة هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” أَلا إِني أوتِيتُ الكِتابَ ومثلَه مَعَهُ”. وهذا الحديث يلخص الآيات التي تتعلق بالحكمة. وقد بينا سابقا أن ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن الكريم هو الحكمة.
ونرى الآن كيف يظهر الميزان بين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة حين نأخذ السنة مع مجموع الآيات…
8. السعي بين الصفا والمروة في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
في العهد الجاهلي كان السعي بين الصفا والمروة وعليهما صنمان؛ إساف ونائلة.[38] وتحرج المسلمون من السعي لظنهم أنه كان من أجلهما، فتركوا السعي.[39] ونزل في الحديبية[40] قوله تعالى: «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» (سورة البقرة، 2 / 196).
يظهر من الآية أنه كان في الحج والعمرة نقص، والمنطق يوجب أنه لا بد من إتمام النقص. ولكنه لم يذكر في هذه الآية، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في السعي شيئا حتى أنزلت آية تبين ذلك النقص. ثم جاء البيان في الآية 158 من سورة البقرة بأن الصفا والمروة من شعائر الله والسعي بينهما ليس من أجل الصنمين، كما قال الله تعالى: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا» (سورة البقرة، 2 / 158). وعلى هذا فلا حرج من السعي بينهما بل هو ركن من أركان الحج لا يتم الحج والعمرة إلا به. والآية بينت النقص الذي أمروا بإتمامه سابقا بقوله تعالى «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» (سورة البقرة، 2 / 196).
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين تبين له النقص: ما أتمّ الله تعالى لامرئ حجة ولا عمرة لا يطوف لها بين الصفا والمروة.[41]
الألفاظ التي وردت في هذا الحديث مثل لفظ الجلالة الله، ومن، وبين الصفا والروة، والسعي، والحج، والعمرة، والإتمام، هي الألفاظ التي وردت في الآية الكريمة. وهي بمثابة كتابة رقمين منفصلين 1 و 2 على شكل 12. وهناك حديث آخر للنبي صلى الله عليه وسلم يلخص الحديث السابق؛ وهو قوله صلى الله وسلم: إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا. وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: لعمري ما أتم الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته.[42] وحديث النبي وحديث عائشة كلاهما حمكة مستنبطة من الآية. وهو مما يدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يستوعبون الحكمة.
ومن الطبيعي معرفة الصحابة للحكمة لأن من وظائف النبي صلى الله عليه وسلم تعليم الحكمة فقد أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى. قال الله تعالى: «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْيَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَوَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ» (سورة البقرة، 2 / 151).
لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فيما يتعلق بالنقص في الحج ولا في العمرة المشار إليه في قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) حتى نزلت الآية الثانية. وقد نزلت الآيات التالية تبين السبب في ذلك. قال الله تعالى: «الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» (سورة هود، 11 / 1-2).
كما رأينا أنه يوجد التوافق التام بين الآية الكريمة المتعلقة بالسعي وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وهذا التوافق التام يدل على الميزان أي التوازن الداخلي في القرآن الكريم.
وقد أصاب الشافعي في قوله بوجوب السعي لاعتماده على الحديث الصحيح بالرغم أنه أصوله الفقهية ليست صحيحة. أما الحنفية فلم يتبعوا القرآن ولا السنة في مسألة السعي. فقد عبر السرخسي عن آراء الحنفية في مسألة السعي على النحو التالي:
وعند الشافعي – رحمه الله تعالى – السعي ركن لا يتم لأحد حج ولا عمرة إلا به، واحتج في ذلك بما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه سعى بين الصفا والمروة، وقال لأصحابه – رضي الله عنهم – إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا، والمكتوب ركن، وقال – صلى الله عليه وسلم – ما أتم الله تعالى لامرئ حجة ولا عمرة لا يطوف لها بين الصفا والمروة. وجحتنا في ذلك قوله تعالى: «فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما» (البقرة، 2 / 158. ومثل هذا اللفظ للإباحة لا للإيجاب فيقتضي ظاهر الآية أن لا يكون واجبا، ولكنا تركنا هذا الظاهر في حكم الإيجاب بدليل الإجماع.[43]
يوهم قول السرخسي أنه يأخذ بالآية ولكن الحقيقة غير ذلك فهو يترك الآية ويأخذ بالإجماع كما أنه يترك الحديث كذلك. والإجماع المزعوم هو مستحيل الوقوع. لأن مفهوم الواجب عن الحنفية لا يقبله الآخرون. ولا يمكن ادعاء الإجماع حول هذا المصطلح – الواجب- الخاص بهم وحدهم. والحقيقة أنّ الحنفية يقولون إن السعي واجب بدون أن يستندوا على دليل.
الخاتمة
الحكمة، هي من الصطلحات الأساسية في الإسلام كما رأينا ذلك. وقد أعطاها الله تعالى لجميع أنبيائه كما أعطاها إلى من شاء من عباده، أي من بذل جهدا من أجل الوصول إليها. الحكمة هي نقطة الإلتقاء بين العلم والدين، لأنها المعارف الصحيحة المأخوذة من الكتابين المسطور أي القرآن الكريم، والكتاب المنثور أي الكائنات. وحين ندرس الآيات المخلوقة التي هي الكائنات مع الآيات المنزلة التي هي القرآن الكريم يمكننا إقامة الميزان، عندها تُحل المشكلات ويُوفر الأمن وتتحقق السعادة. والذي يؤمن بجميع الآيات يسعد في الدنيا والآخرة.
ولم يتحدث من الفقهاء عن الحكمة إلا الشافعي فقال إن الحكمة هي السنة. ولكنه لم يعتبر الحكمة الأحكام المستنبطة نتيجة التوفيق بين الآيات والأحاديث النبوية الشريفة بل اعتبرها وحيا مستقلا اختص بها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. فأدى ذلك إلى عدم فهم العلاقة بين الآيات والأحاديث النبوية الشريفة على شكل صحيح.
وحين أهملت الحكمة التي هي أحد المصطلحات الأساسية للقرآن الكريم فسد الميزان بين العلم والدين، وبالتالي خرج القرآن الكريم من أن يكون مصدرا يرجع إليه المسلمون في حل مشاكلهم، حتى قيل إن الآيات القرآنية محدودة والمشاكل بلا حدود فلا يكفي القرآن لأن يكون مصدرا وحيدا في حل المشاكل. وكان المسلمون الأوائل يقدمون حلولا للمشاكل، ولكنهم أصبحوا بعد العهد النبوي والصحابة ينتجون المشكلات ليقفوا عاجزين عن إبداع الحلول. والوظيفة الأساسية اليوم على المسلمين أن يتعلموا الحكمة من جديد.
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
[1] قال الله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ» (الأنعام، 6 / 86).
[2] كلمة قليل لها أصلان صحيحان، يدل أحدهما على نزارة الشيء، والآخر على خلاف الاستقرار. (مقاييس، مادة: قلَّ)
[3] ونفهم من هذه الآيات أن كل حكم لم ليس في القرآن الكريم هو من حكم الجاهلية.
[4] الرسالة، 1 / 79.
[5] الرسالة، 1 / 88؛ سنن أبي داود، كتاب السنة 6، رقم الحديث: 4605.
[6] الرمجع السابق، 1 / 90.
[7] أنظر المرجع السابق، 1 / 104-107.
[8] الرسالةالشافعية، 1 / 79.
[9] الذكر: تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه، والذكر يقال اعتبارا باستحضاره. لو نظرنا الآيات التي تتحدث عن الذكر عرفنا أن الذكر في الأصل المعرفة، أي المعلومات الصحيحة العامة. وعلى هذا جاء الأمر بالعرف كما في قوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» (الأعراف، 7 / 199). وجاء الأمر بالمعروف في أكثر من عشرين آية منها قوله تعالى: « كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» (البقرة، 2 / 180).
تُقتنى المعرفة من الموجودات المحيطة بالإنسان كما تُقتنى من الكتب. والذكر هو اسم مشترك لجميع ما أنزل الله من الكتب، لأنها تحتوي الحقائق العلمية العامة. (أنظر: الأنبياء، 21 / 24).
ووظائف الرسل هي التذكير (الغاشية، 88 / 21) أي تذكير الناس بالحقائق العلمية العامة. وأما وظيفة الناس هي التذكر (الأنعام، 6 / 80) أي موازنة ما عندهم من المعلومات الصحيحة بما جاء به الرسل من الحقائق العلمية.
[10] لب. أصلٌ صحيح يدلُّ على لزومٍ وثبات، وعلى خلوص وجَوْدة. ألَبَّ بالمكان، أي أقام به ولزِمه. (الجوهري، الصحاح، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثالثة بيروت).
وجاء في مقاييس اللغة، “لب” اللام والباء. أصل صحيح يدل على لزوم وثبات، وعلى خلوص وجودة. لذا قيل: ألب بالمكان، إذا أقام به.
[11] وفعل “سلط” في الحديث مبني للمجهول. لو قلنا إن نائب الفاعل المحذوف هو الغير، فلا مدح له بفعل غيره من الخيرات. فلا بد إذا أن يكون الممدوح هو فاعل الخير، بأن ينفق ماله في سبيل الله مع حبه الشديد إلى المال، فيستحق المدح. وعلى هذا فمعنى “سلِّط” أجبر نفسه على الانفاق في سبيل الله.
[12] صحيح البخاري، كتاب العلم 15.
[13] صحيح البخاري، فضائل الصحابة 24.
[14] المفردات، كتاب الواو، مادة، وزن.
[15] أنظر: عبد العزيز بايندر، مفاهم ينبغي أن تصصح في ضوء القرآن، ص.
[16] سنن الترمذي، أبواب صفة القيامة 60.
[17] قال ابن فارس: الثاء والميم أصل واحد، هو اجتماع في لين. يقال ثممت الشيء ثما، إذا جمعته. (مقييس في اللغة، مادة: (ثم). وعلى هذا فمعنى “ثم فصلت” أي وكذلك فصلت.
[18] تفسير الخازن = لباب التأويل في معاني التنزيل، 1/ 433.
[19] عمر نصوحي بِلْمَن، الفقه الإسلامي الكبير، ص. 17، الفصل: 34.
[20] مجلة الأحكام العدلية، المادة: 1450.
[21] صحيح البخاري، الأنباء 50.
[22] أنظر: الرسالة الشافعي، 1 / 79.
[23] أنظر: الرسالة الشافعي، 1 / 79.
[24] الرسالة الشافعي، 1 / 104-105.
[25] يفهم من الآية الكريمة أن كل حكم لم يكن مصدره القرآن الكريم حكم جاهلي.
[26] سنن أبي داود، كتاب العلم 1، رقم الحديث: 3641.
[27] أنظر: الرسالة الشافعي، 1 / 79.
[28] الرسالة الشافعي، 1 / 104-105.
[29] الرسالة الشافعي، 1 / 104-105.
[30] مسند أحمد بن حنبل، 6 / 421.
[31] المجموع في شرح المهذب، 8 / 65-66.
[32] الرسالة الشافعي، 1 / 104-105.
[33] الرسالة الشافعي، 1 / 107.
[34] المجموع في شرح المهذب، 8 / 65-66.
[35] الأم للشافعي، 2/ 231.
[36] وقد استدل الإمام الشافعي بهذه الآية في موضوع السنة. (أنظر: الأم، كتاب الاستحسان، 7 / 309).
[37] عبد العزيز بن باز، وجوب العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، 1 / 24-25.
[38] اسماعيل بن حماد الجوهري، الصحاح، تحقيق أحمد عبد الغفور عطاء، الطبعة الرابعة، بيروت 1404 / 1984، مادة: اسف.
[39] أحمد بن علي العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، بيروت، كتاب الحج وجوب السعي بين الصفا والمروة، 3 / 500.
[40] الأم، 2 / 173.
[41] محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي، المبسوط، 4 / 50.
[42] صحيح مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث: 260 (2277).
[43] المبسوط للسرخسي، 4/ 50.
قال الله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
موضوع رائع! لم اقرأ من قبل تحليلاً للفرق بين النبوة والرسالة بهذا الإسهاب والدقة المبنية عىل الآيات القرآنية. جزاك الله خيراً ونفع بك.