الوقوف ضد الخطأ
المسلم عنصر مهم في مجتمعه، يعزز التوجهات الإيجابية، بينما يعمل جاهدا للحد من الظواهر السلبية، وذلك بالأسلوب الأمثل البعيد عن الإساءة والتخريب.
ونقف في مقالتنا هذه على كيفية مواجهة ظلم الحكام المستبدين، مستشرفين ما ورد بهذا الخصوص من نصوص القرآن الكريم وقَصصه. ونضرب مثالا بموسى عليه السلام ومجادلته لفرعون مصر الحاكم المستبد الظالم.
من المعلوم تاريخيا أن الفراعنة أنشؤوا مملكة قوية، وكان تحت حكمهم خلق كثير، وكان من أبرزهم وأشدهم بأسا الفرعون الذي حكم مصر زمن موسى عليه السلام، وقد ذكر القرآن الكريم بأنه استخف قومه فأطاعوه[1]. كما ذكر أمر فرعون وما كان عليه من طغيان وضلال، فقال الله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ؛ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (هود، 96-97). وقد كُلِّف موسى بمجادلة فرعون وإقامة الحجة عليه مستعينا بالآيات التسع[2]. وقد أوصى الله تعالى موسى وهارون أن يحاورا فرعون بالقول اللين مخافة أن يفرط عليهم، قال تعالى {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي. اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه،42_44).
والقرآن يخبرنا عن موقف فرعون من دعوة موسى بقوله تعالى {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ؛ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} (الزخرف، 51، 52).
لم يجد فرعون من موسى وقومه ما يبرر سَحقهم، ولذلك بدأ يفقد صوابه ويطلب من قومه تفويضا لقتل موسى عليه السلام. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (غافر، 40 / 26، 27). يظهر فرعون بمظهر المدافع عن دين قومه المحافظ على أرضهم وكرامتهم، بينما يتهم موسى بأنه سبب للفتنة والفساد في قلب واضح للحقائق.
لكن موسى عليه السلام لم يترك فرصة لفرعون ليمضي في تهديده، ولم يتخذ من التحركات ما يوغر صدر فرعون، بل أمر قومه بأن يصبروا ويتوكلوا على الله، وأن لا يجعلوا من أنفسهم هدفا لبطش فرعون، وذلك بالتزام بيوتهم وإقامة الصلاة فيها، لسحب المبرر لاستئصالهم، فمن المعلوم أن الحكام الظلمة يعملون جهدهم لتوريط المستضعفين بأفعال ضدهم يفسرونها كما يشاؤون ويتخذونها مبررا لإستئصال الجماعة المؤمنة. والآيات التالية تبين ما ذكرنا {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ. فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (يونس، 84_ 87). أمرت الآية موسى عليه السلام أن يجعل من بيته وبيت أخيه قبلة يؤمها الناس من بني إسرائيل ليتعلموا أمر دينهم ولتقوية الرابطة الإيمانية بينهم، ومثل هذا ما كان عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه في مكة حيث كانوا يجتمعون بدار الأرقم بن أبي الأرقم.
ومن يتتبع سيرة الأنبياء في مواجهة الحكام الظالمين يجد ذات الطريقة التي سلكها موسى عليه السلام، فقصة إبراهيم مع النمرود وهود مع قومه ونوح عليهم السلام تؤكد ما ذهبنا إليه من عدم جواز إعطاء المبرر للظالمين لإستئصال الجماعة المؤمنة.
ومن يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يرى بوضوح مسلك الأنبياء من قبل؛ حيث لم يؤذن للمؤمنين بالجهاد طيلة وجودهم في مكة لذات السبب؛ وهو عدم إعطاء المبرر لإستئصالهم، وبعد سنتين من الهجرة وبعد تشكل نواة الدولة والجيش أُذن للمؤمنين بصد الأذى والدفاع عن أنفسهم؛ لأن دخولهم في مواجهة مع قوى الشر لا تفنيهم عندئذ، بل تزيد من شوكة الحق وتساهم في إزهاق الباطل.
وما سبق لا يعني الرضوخ للباطل بل هو الحذر الواجب من عدو ظالم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه جهاد الظالمين بكلمة الحق حتى يعودوا إلى الرشد، فقد روي أنّ رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز، أي الجهاد أفضل؟ قال: «كلمة حق عند سلطان جائر».[3] وهو من باب تغيير المنكر باللسان.
وقد حرم الله سبحانه على الإنسان أن يدعوا على الآخرين بسوء، إلا في حال وقوع الظلم عليه. قال تعالى {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (النساء، 148) قيل في تفسير الآية: لا يحب الله تعالى أن يجْهر أحدُنا بالدعاء على أحد، إلا من ظلم فيدعو على ظالمه، فإن الله جل ثناؤه لا يكره له ذلك، لأنه قد رخص له في ذلك[4] . وهذا ما فعله موسى عليه السلام {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} (يونس ، 88). وكذلك كان حال نوح عليه السلام إذ دعا ربه قائلاً {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح، 26_ 27) .
أما تقديس ظلم الحكام بالزعم أنّه من الله تعالى ليعاقب الناس على ذنوبهم، فهذا ليس من الإسلام في شيء، بل هو من إبداع النظم الكهنوتية (الثيوقراطية) التي تعتبر قول كلمة الحق عند السلطان الجائر إثما، فالثيوقراطية ترى أنّ الحاكم على صواب في كل ما يفعل، فلا يجوز الخروج عليه.[5]
المؤمن الحق يعلم أن الله معه ولن يضيعه، وما يمر به من ظلم واضطهاد إنّما هو ابتلاء يُقابل بالصبر والإحتساب، وقد أثنى الله تعالى على أصحاب النبي لموقفهم من اجتماع العدو لحربهم بأعداد كبيرة. قال الله تعالى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران، 173).
ما ذُكر في القرآن الكريم من قصص ليس المقصود منه التسلية وإضاعة الوقت، وإنما مشاهد تتكرر عبر الزمان والمكان حتى يرث الله الأرض وما عليها، والمؤمن الحق الذي يقرأ ويعتبر ولا يصم أذنيه بدعوى أن الأزمنة تغيرت والظروف تبدلت، ورغم إيماننا العميق بذلك إلا أن الطغاة هم الطغاة والظلمة هم الظلمة، وإن تبدلت أزمانهم وأماكنهم. وصدق الله تعالى إذ يقول {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف، 111) .
[1] انظر الآية 54 من سورة الزخرف.
[2] بحسب ما ورد في قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} (الإسراء، 101)
[3] سنن النسائي، باب من تكلم بالحق. (7/161 ، رقم 4209) وأخرجه الطيالسى (ص 286 ، رقم 2156) ، وأحمد (3/19 ، رقم 11159) والترمذى (4/483 ، رقم 2191) وقال : حسن صحيح . وأبو يعلى (2/352 ، رقم 1101) ، والحاكم (4/551 ، رقم 8543) ، والبيهقى فى شعب الإيمان (6/309 ، رقم 8289) .
[4] الطبري، 9/344
[5] انظر جون كالفين، تاريخ الأفكار السياسية في الغرب، ص. 51.
موضوع يحاكي واقع الأمم الآن. ..