حكم التورق
التورق هو أن يشتري شخص البضاعة نسيئة ويبيعها لغير البائع نقدا بسعر أقل بغرض الحصول على النقد.
وقد اختلف الفقهاء في مشروعيته ما بين قائل بالجواز وقائل بالحرمة أو الكراهة. ونرى أن التورق بشقية التقليدي والذي تجريه المصارف الاسلامية، حيلة للربا؛ إذ إن الله تعالى قد نهى عن الربا كله، ومن ينظر في حكمة تحريم الربا يتبين له دون شك حرمة هذه الأنواع من البيوع. فكل بيع يقصد به الربح من الدين هو ربا وإن وصفت معاملته بالشرعية. قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة، 278)
التجارة من الطرق التي أحل الله لنا أن نأخذ بها مال الغير؛ وهي مبادلة مال بمال غيره، والتاجر يشتري المال ليحصل على الربح الحاصل منه، ولكن الربح لا يحصل إلا بعد بيعه بأكثر مما اشتراه، وهذا يحتاج إلى عمليات كثيرة ومعروفة في عالم التجارة. أما الربا فهو النفع الحاصل من الدين ولا يتحقق الا بعقد واحد، والمتورق لا يريد أكل مال غيره بهذه الطريقة؛فيلجأ الى التورق والنتيجة هي الربا، ومثل هذه المعاملات يسميها الله في كتابه “عوجا” والعوج الانحراف الذي لا يحسه إلا من يعمق النظر فيه، ومعظم الناس يظنون انه مستقيم. وسبب هذه العملية هو تفضيل الحياة الدنيا على الآخرة، قال تعالى {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} (ابراهيم، 3) والتورق هو عوج يستتر به المتورق ليوهم نفسه أنه بعيد عن الربا، وينسى أن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وبين البيع والربا تشابه لذا يقول المرابي “إنما البيع مثل الربا” (البقرة، 2/ 275). والحقيقة أن بينهما فروقا كبيرة؛ يبتاع في البيع بضاعة ويأخذ في الربا دينا. والمشتري يصبح مالكا ما اشتراه، وليس الدين كذلك. يستعمل المدين ما استدانه مدة معينة ثم يعيده إلى صاحبه الأول الحقيقي.
كما يختلف البدل في البيع والشراء، أما في الدين فيجب إعادة نفس الدين، ولذا “أحل الله البيع وحرم الربا” (البقرة، 2/ 275). ولكن إذا خرج العقد عن مجرى البيع يسهل جعله وسيلة إلى الربا. وهذا الذي قصد بالتحايل على الشرع في مثل هذه المعاملة.
والأحاديث الموافقة للآيات كثيرة وتبين لماذا كان مثل هذه البيوع محرما.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما عن أبيه قال: “نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ”[1] أي أنه لا يجوز البيعتان في بيعة واحدة. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: “نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ”[2] وقال أيضا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا”[3]
عن أم يونس أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم محبة أم ولد لزيد بن أرقم: يا أم المؤمنين أتعرفين زيد بن أرقم؟ قالت نعم. قالت: فإني بعته عبدا إلى العطاء بثمانمئة. فاحتاج إلى ثمنه، فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة. فقالت: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت. أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. قالت: فقلت: أفرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة؟ قالت: نعم. ثم قرأت قوله تعالى: «فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ» (البقرة، 2/ 275).[4]
ونفهم من الأحاديث ومن موقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة واحدة لأنها معاملة ربوية في صورة البيع. وكون زيد بن أرقم باع العبد بـ 600 معجلا بعد شرائه بـ 800 مؤجلا يدل على أنه لا يحتاج إلى ذاك العبد. وفي هذه الحالة “فله أوكسهما أو الربا”.[5] وقد قالت عائشة رضي الله عنها أن زيدا قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. لأنه أخذ أكثرهما.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع وعن شرطين في بيع واحد وعن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن”[6]
وقد يقال إن التورق التقليدي هو عبارة عن عقدين منفصلين فلا يدخل تحت توصيف بيعتين في واحدة. وهذا الرد صحيح من جهة الشكل أما المضمون فواحد إذ القصد في الحالتين الحصول على الدين والزيادة في الدين متحققة في الوجهين.
ليس من الصعب أن نفهم العلاقة بين ما قام به اليهود ليتجاوزوا ما نهى الله عنه من الصيد يوم السبت وبين مشروعية المعاملة الربوية تحت غطاء البيع والشراء. قال الله تعالى فيما يتعلق بالموضوع: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ. فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة، 2/ 66). حفر الحياض عند البحر لتدخلها الحيتان فيصطادونها يوم الأحد، ذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم.
فالبيوع التحايلية مثل التورق معاملات منهي عنها شرعا، ولها أخطارها على المجتمع، وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم على تلك الأخطار بقوله: “إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم”[7].
[1] مسند أحمد بن حنبل، 1/ 398.
[2] سنن الترمدي، كتاب البيوع 18، رقم الحديث 1231. ونقل الترمدي عن أبي عيسى قوله حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
[3] سنن أبي داود، كتاب اليوع 55، رقم الحديث 3461.
[4] بداية المجتهد، ج 2/ ص 115.
[5] سنن أبي داود، كتاب اليوع 55، رقم الحديث 3461.
[6] سنن النسائي، كتاب البيوع، باب 71-73. رقم الحديث 4629- 4630.
[7] سنن أبي داوود، باب في النهي عن العينة.
أضف تعليقا