أحكام الاعدام في مصر
بعد عزل الرئيس محمد مرسي توالت الأحداث تباعا في مصر، ولا نريد أن نقف على الأسباب والظروف المحيطة بعزل الرئيس فهذا حقل آخر، وما يعنينا هو مناقشة الأحكام القضائية التي صدرت بحق معارضي الإنقلاب، وبيان مدى تماثل تلك الأحكام مع مبادئ العدل وقواعد العمل القضائي.
إن إقامة العدل أعظم رافعة لبقاء الإنسان على ظهر الأرض، وفقدانه مؤشر على خلل خطير يؤدي لفناء الجنس البشري أو تخلفه على الأقل. وما رأينا حضارة ازدهرت إلا كان العدل أحد ركائزها، ولا أمة خائرة ضعيفة إلا كان ميزان العدل مفقودا أو فيه ازورار.
أرسل الله تعالى رسله للناس رحمة بهم ولاقامة ميزان العدل فيهم. قال الله تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد، 25) هذه الآية تبين واحدة من غايات بعث الرسل بالكتاب والميزان، وهو أن يقوم الناس بالقسط وأن تظهر العدالة في كل خصومة.
ومن وكِّل أمر القضاء فلا بد أن يتجرد عن نزعات النفس ومغريات الحياة ليكون أكبر همه إحقاق الحق وازهاق الباطل ولو كره المجرمون. قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة، 8)
ولا يصح الانتصار للنفس عند القضاء، حتى لو كان بين القاضي وأحد المتهمين خصومة سابقة أو كره دفين، فلا ينبغي أن تكون الخصومة حائلا أمام قول كلمة الحق والفصل بما يرضي الله تعالى ويحقق العدالة التي هي فتيل دوام حياة البشر على هذه الأرض.
يقول الله تعالى مخاطبا داوود عليه السلام {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (ص، 26) تبين الآية أن من مقتضيات التمكين في الأرض الحكم بين الناس بالحق وعدم اتباع الهوى، لأن عدم ذلك سبب في الضلال والخروج عن الفطرة وهو ما يؤدي إلى الخسران في الدنيا والعذاب في الآخرة.
على ضوء هذه الآيات حذر النبي صلى الله عليه وسلم من حكم القضاة بغير العدل والشطط عن الحق بقوله “القضاة ثلاثة: اثنان فى النار وواحد فى الجنة؛ رجل علم الحق فقضى به فهو فى الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو فى النار، ورجل عرف الحق فجار فى الحكم فهو فى النار”[1]
ولا شك أن أخطر القضاة وأعظمهم إثما هم الذين يعرفون الحق ثم يحيدون عنه لأي سبب كان، سواء كان انتصارا للنفس، أو تعصبا لجهة، أو تلمسا لإرضاء الحكام، أو طلبا لمنفعة مادية.
في ضوء الآيات والأحاديث التي أعطت توصيفا لماهية القضاء العادل يمكننا مناقشة أحكام الإعدام الجماعي في مصر بالنقاط التالية:
1_ لا يخفى على أحد أن تلك المحاكمات قد جرت في ظروف غير محايدة، والخلفية السياسية ظاهرة للعيان، والقضاة الذين نطقوا بالحكم غير محايدين بل هم طرف في القضية، ومن يستمع الى جلسة تلاوة الحكم يدرك تماما عدم حيادية المحكمة؛ فمصطلحات التشفي والانتقام ظاهرة لا تخفى على أحد. ولنا أن نتساءل كيف يكون أحد طرفي النزاع حكما؟ وقد علمنا أن حياديّة القاضي هي أول معايير العدالة، وبفقد هذا المعيار يصبح الحديث بغيره زيادة.
2_ إن سرعة إجراء هذه المحاكمات بحد ذاته يلقي بظلال الشك عليها، فالأحكام كأنها معدة سلفا، وما إجراء تلك المحاكمات إلا غطاء صوري لتمرير تلك الأحكام .
3_ يمثل هذا الكم الهائل من أحكام الإعدام سابقة خطيرة في تاريخ القضاء المعاصر[2] فلم يحدث مثل هذا في العصر الحديث في أي بلد يمتلك الحد الأدنى من معايير العادلة، وربما نجد في التاريخ اعدامات جماعية تفوق هذا فظاعة لكن لم يتم ذلك تحت سلطة قضاء يدعي النزاهة.
4_ عقوبة الإعدام لا يستحقها إلا من قتل نفسا بغير نفس أو عاث في الأرض الفساد بدليل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (البقرة، 178) وبقوله تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة، 33)
في الضوء الآيتين السابقتين نتساءل إن كان المحكوم عليهم بالإعدام هم قتلة ؟ ومن قام فعلا بقتل الآلاف في ساحات مصر؟ الهذا الحد يصبح الضحية جانيا والقاتل حكما؟ هل المحكوم عليهم بالإعدام استطار ذكرهم في الأرض كمفسدين؟ أم أن تهم الإفساد والقتل ألصقت بهم تطبيقا لمقولة “رمتني بدائها وانسلت”؟.
ما سبق بيانه لم ننفرد به، ولم يكن اعتمادا على مصادر الضحايا فقط؛ بل هو مما استقصيناه من آراء المتابعين والمهتمين بالشأن المصري، كالمؤسسات الحقوقية والدولية والشخصيات السياسية حيث نذكر بعضا من هذه الآراء والتوصيفات على سبيل المثال لا الحصر، ولنذكِّر به قضاة لم يرعوا في تلك الأحكام دينا ولا خلقا.
وصفت وزيرة خارجية الإتحاد الأوربي كاترين أشتون المحاكمات بقولها “من الواضح أن هذه المحاكمات الجماعية انتهاك لقوانين حقوق الإنسان الدولي” ووصفت التهم الموجهة ضد كل متهم بأنها “ما زالت غير واضحة” وانتقدت إجراءات المحاكمات لأنها “تفتقر لأغلب المعايير الأساسية للإجراءات الواجبة” ويعلق وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بقوله “نعلم جميعا أنه كانت هناك قرارات مزعجة داخل العملية القضائية”[3] في مصر.
وقالت مديرة إدارة الشرق الأوسط في منظمة هيومان رايتس ووتش سارة ليه ويستون إنه “إذا كان لدى أحد شك في أن مصر تسعى إلى القضاء على أي معارضة سياسية فإن هذا الشك قد تبدد بسبب هذا القضاء الهزلي”[4]
ويقول رئيس الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان جمال عيد “يتم صبغ القمع بصبغة قضائية عبر أحكام مسيسة تستند إلى مواقف سياسية وليس إلى القانون، وبالتالي أصبح أغلب القضاء وكأنه جناح من أجنحة السلطة الحالية وليس سلطة قضائية مستقلة”[5]
وترى منظمة العفو الدولية أن “القضاء المصري أصبح متعسفا ومنحازا (..)، وهناك خطر من أن يتحول ببساطة إلى درع في الآلة القمعية للسلطات”[6].
ووصفت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان نافي بيلاي الأحكام الصادرة بـ”غير المعقولة”، مضيفة أنه “أمر شائن أن تفرض الدائرة السادسة بمحكمة جنايات المنيا للمرة الثانية خلال شهرين عقوبة الإعدام على مجموعات كبيرة من المدعى عليهم بعد محاكمات صورية”[7]
يتضح مما سبق تجرد تلك المحاكم عن أدنى قيم العدالة والنزاهة، وهو ما يجعلنا في حيرة من أمرنا، وهنا نطرح على أنفسنا سؤالا محرجا لنا كمسلمين؛ كيف يحصل هذا في بلد مسلم؟ وكيف يتجرأ قاض أن يقضي بحكم لا يتفق مع العدالة من أي وجه ولا يقبله إنسان سليم العقل؟ ماذا سيقول هؤلاء القضاة لله تعالى يوم يقفون بين يديه؟ وبماذا سيحكم التاريخ عليهم؟ وهل سيكون هذا الحكم الجائر سابقة ومثالا يحتذى في غير مكان من عالمنا؟.
نتمنى أن تلامس هذه الكلمات قلوبا تصغي للحق فتوقف هذه المهزلة، وتعيد الحق إلى نصابه، وترفع الظلم عن أناس ألصقت بهم التهم جزافا؛ لعل الله يغير ما بنا، وقد سبقت كلمته صدقا وعدلا { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (الرعد، 11).
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
[1] أخرجه أبو داود (3/299، رقم 3573) ، والترمذى (3 /613، رقم 1322) ، والنسائى فى الكبرى (3/461، رقم 5922) ، وابن ماجه (2/776، رقم 2315) ، والطبرانى (2/20، رقم 1154) ، والحاكم (4/101، رقم 7012) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقى (10/116 رقم 20141)
[2] وصف الاحاكم كما جاء في بيان للامم المتحدة “قضايا جماعية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر”. نقلا عن الجزيزة http://www.aljazeera.net/humanrights/pages/fe30982d-eddb-4a65-99f1-8e64fad5e0c0
[4] http://www.aljazeera.net/humanrights/pages/fe30982d-eddb-4a65-99f1-8e64fad5e0c0
[5] المصدر السابق
[6] المصدر السابق
[7] المصدر السابق
هذه نهاية فتاوى ولاية المتغلب