السؤال: من شروط التكليف شرعا أن يكون المكلف عاقلا، ولا يمتلك كل الناس نفس القدرة العقلية. كيف نستطيع أن نحكم على شخص بأنه مكلف نظرا لقدرته العقلية، أو بتعبير آخر ما هي الأوصاف اللازمة لإنسان صاحب عقل مكلف.
الجواب:
معنى العقل: الحِجْر والنُّهى ضِدُّ الحُمْق، والعَقْلُ: التَّثَبُّت فِي الأُمور. والعَقْلُ: القَلْبُ، وسُمِّي العَقْلُ عَقْلًا لأَنه يَعْقِل صاحبَه عَنِ التَّوَرُّط فِي المَهالِك أَي يَحْبِسه، وَقِيلَ: العَقْلُ هُوَ التَّمْيِيزُ الَّذِي بِهِ يَتَمَيَّزُ الإِنسان مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَيُقَالُ: لِفُلان قَلْبٌ عَقُول، أي فَهِمٌ؛ وعَقَلَ الشيءَ يَعْقِلُه عَقْلًا: فَهِمه. وَيُقَالُ أَعْقَلْتُ فُلَانًا أَي أَلْفَيْته عاقِلًا. وعَقَّلْتُه أَي صَيَّرته عاقِلًا. وتَعَقَّل: تكَلَّف العَقْلَ كَمَا يُقَالُ تَحَلَّم وتَكَيَّس. وتَعَاقَل: أَظْهَر أَنه عاقِلٌ فَهِمٌ وَلَيْسَ بِذَاكَ[1].
وعَقَلَ المَعْتُوهُ ونحوه والصَّبيُّ: إذا ادَرك وزَكا. وعَقَلْتُ البَعيرَ عقلاً شَدَدْت يده بالعِقالِ أي الرِّباط[2].
يشترط في المكلف أن يكون عاقلاً وذلك بدليل الفطرة، حيث لا يمكن أن يوجه الخطاب لمن هو ليس أهلا له. وقد جاءت الشريعة بامتثال المأمور وترك المحظور، وامتثال المكلف يكون بقصد الطاعة فيتحقق معنى الإبتلاء الوارد في قوله سبحانه {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك، 2)
والتكليف مرتبط كذلك بإدراك الخطاب وجودا وعدما، قال تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (الإنسان، 2) ولا يوصف الإنسان بأنه سميع بصير بمجرد وجود آلة السمع والبصر لديه، وإنما بقدرته على فهم آيات الله وتدبر خطابه سبحانه.
وصف سبحانه من لا يُعملون حواسهم بأنهم صم وبكم وعمي رغم سلامة أعضائهم كما ورد في وعيده للمعرضين {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف، 179) والمذكورون في الآية هم مكلفون لسلامة عقولهم لكنهم اختاروا العمى على الهدى.
أما فاقد القدرة العقلية فهو غير مكلف أصلا والقلم مرفوع عنه بالجملة.
وربما لا يكون الشخص مجنونا أو معتوها لكن قدرته على الفهم محدودة ولا يستطيع أن يفهم بعض التوجيهات الشرعية فمثل هذا مكلف بما يعقله وغير مكلف بما لا يعقله.
إن فهم الخطاب مرتبة زائدة على مجرد العقل، فلا يلزم من وجود العقل فهم الخطاب، وعلى هذا يُفهم قوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه، – أو قال: المجنون – حتى يعقل، وعن الصغير حتى يشب)[3]
فبعض الناس يعقل أحيانا دون أخرى كمن فيه نوبة صرع فيسقط عنه التكليف أثناء صرعه ويعود مكلفا في الوقت الذي يعود فيه إلى حالته الطبيعية. ومثله النائم والناسي فيسقط عنهم التكليف حتى يستيقظ النائم ويتذكر الناسي.
فالقلم مرفوع عن هؤلاء ليس لكونهم مجانين أو لا عقول لهم ، بل لأنهم في حالة لا يفهمون معها الخطاب، فالنائم مثلا لا يفهم قوله تعالى: {وَأقِيمُوا الصَّلاةَ} وكذلك الصغير، فيسقط عنهم التكليف.
والعقلاء قدراتهم على الفهم متفاوتة، فمنهم من يفهم من خطاب الله تعالى جميع أبعاده، وهم الراسخون في العلم وأولو الألباب[4] والمتفكرون[5] ، وآخرون يفهمونه بقدر، فكلٌ مكلف بحسب قدرة فهمه للخطاب، فيعذر الجاهل بما لا يعذر به العالم، ويكلف العالم بما لم يكلف به الجاهل كتبيلغ الرسالة وتعليم الناس وعدم كتمان العلم. وفي مقابل ذلك فإن للعالم العامل أجرا عظيما، وقد أثنى الله تعالى على العلماء الأتقياء بقوله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر، 28) وفي آية أخرى أظهر تمايز أهل العلم والعمل بقوله تعالى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر، 9).
[1] لسان العرب، مادة عقل
[2] معجم العين، مادة عقل
[3] رواه أحمد برقم (940) (956) و (1183) وأخرجه أبو داود (4403) ، والبيهقي 3/83 و7/359 و8/265 وابن ماجه (2042) وصححه ابن حبان (142) انظر “نصب الراية” 4/161-165
[4] قال الله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران، 7)
[5] قال الله تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران،190_ 191)
أضف تعليقا