أ.د عبد العزيز بايندر
ملخص المقالة
يصف البعض آدم بأنه خليفة الله في الأرض، وحاشا لله أن يتخذ خليفة له، والحقيقة أن وصف آدم بالخليفة جاء للدلالة على كون الانسان خليفة أي نائبا لغيره ومنوبا عنه ؛ لأن كلمة (الخليفة) تأتي كإسم فاعل واسم مفعول في الوقت نفسه. كما أنها تشير إلى مبدأ الإختلاف الذي يحكم حركة الإنسان ويميز كل إنسان عن أبناء جنسه؛ لنجد الناس مختلفين في مناهجهم وقدراتهم وتصوراتهم وحتى أشكالهم. وقد أنزل الله تعالى شريعته إلى الناس لينضبط الاختلاف فيكون سببا في الرقي والتقدم، ومعلوم أن التقدم لا يحصل دون اختلاف القدرات وتنوع المهارات، والزيغ عن دين الله يؤدي إلى تضارب مصالح المختلفين لينتج عنه إهدار الحقوق وسفك الدماء وتعميم الفساد.
المعنى اللغوي لكلمة خليفة
أصل كلمة خليفة (خليف) وإضافة التاء المربوطة إليها يفيد المبالغة. وتأتي كلمة خليف كأسم فاعل، بمعنى الخالف أي من يخلف غيره ويقوم بعده. كما تأتي كاسم مفعول، بمعنى مخلوف؛ وهو الذي جاء من يخلفه من بعده، وتحمل الكلمة في طياتها معنى المخالفة لاختلاف النائب عن المنوب عنه.
قال الله تعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ …} (هود، 118_119)
وقال أيضا {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة، 30)
نستنبط من الآيتين السابقتين القانون الطبيعي الذي سيحكم علاقة الإنسان بالإنسان القائم على الاختلاف والخلافة .
اعتراض الملائكة على خلق الخليفة
وعندما أخبر الله سبحانه الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة تبادر إلى أذهانهم الأخطار العظيمة التي سيتسبب بها المخلوق العاقل الجديد الذي يحمل صفة الخليفة، لذا بادروا بالتساؤل الحذر:
{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} (البقرة، 30)
لقد شاهدت الملائكة كيف أدى مبدأ الخلافة الموجود في الحيوانات إلى سفك دماء بعضها بعضا، وكيف يأكل القوي منها الضعيف. لقد رأت _على سبيل المثال_ كيف يقتتل الدياك للسيطرة على مجموع الدجاج حتى لا يبقى في الخُمِّ (بيت الدجاج) سوى ديك واحد غالبا، ولو كان بين الدجاج مخالفة أيضا فلا يمكن أن يبقى في الخم سوى ديك ودجاجة واحدة.
ولو افترض أن مبدأ المخالفة موجود بين الرجل و المرأة لما تمكن البشر من تكوين أسرة واحدة.
وتنشأ الفوضى عندما يخاف الإنسان من فقدان ما في يده، أو يحاول أن يأخذ مكان غيره بالخلافة، وهذا يؤدي إلى سفك الدماء، ومن الأسباب الرئيسية في عداوة الناس للأنبياء خوفهم من أن يفقدوا مناصبهم أو ما في أيديهم من السلطة والنفوذ والحظوظ الدنيوية، فلذلك حرص كل نبي من الأنبياء على أن يبدد هذا الخوف بالقول: «وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين» (الشعراء، 26/127).
فقول الملائكة: «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء» ما كان إلا تعبيرا عن مخاوفهم التي عرفوها من نظام الخلافة الذي شاهدوه في الدواب. والله تعالى لم يقل لهم إن هذا لن يحدث، وإنما أخبرهم بأن هناك ما لا يعلمونه.
وقد أظهرت الملائكة التسليم لإرادة الله تعالى بخلق الخليفة واستدركوا قائلين:
{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}
التقديس: أي التنزيه، ومقصود الملائكة أنهم ينزهزن الله تعالى في كل ما يعفل، بالرغم من عدم استيعابهم لماذا يريد الله تعالى أن يخلق مخلوقا عاقلا في الأرض؟
ولم يكن الملائكة مبطلين في سؤالهم؛ لأنه كان هناك شيء قد خفي عنهم، لذا قال الله تعالى لهم:
{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
تعليم الله تعالى الأسماء كلها لأدم
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
الأسماء، جمع اسم، والإسم يطلق على كل موجود ومعلوم، كما أنه ينبئ عن طبيعة هذا الشئ وعن الفائدة المودعة فيه. وقد علَّم الله تعالى آدم أسماء الموجودات كلها وفائدتها
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَة}
وقد استعمل القرآن الضمير العائد على الأسماء بصيغة غير العاقل (ها) ، لكن عندما تحدث عن عرض الأسماء على الملائكة استعمل الضمير بصيغة العاقل (هم)
ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل (المفردات)
وقد تبيَّن للملائكة وجود علم لدى المخلوقات التي تُرى كأنها غير عاقلة، وهذا العلم كانت الملائكة لا تعلمه ولا يستطيع الناظرون من الخارج أن يروه. لأن العقل يأتي أيضا بمعنى علم ينتفع به الناس. ولذلك قال الله تعالى لهذا العلم “علم الغيب”. وهناك شيء آخر هو أن هذه العلوم يستخدمها بنو الإنسان. والشيء الذي فضل الإنسان عن الملائكة هو هذا العلم.
الطبيعة هي كتاب الله المخلوق، والدين هو الفطرة ، أي القانون الطبيعي الذي بموجبه انتظمت الكائنات، وقد أُمر الانسان أن ينتظم ضمن قانون الفطرة. ولهذا السبب نجد التلاؤم التام بين كتاب الله المخلوق وكتابه المنزل. وقد أمرنا سبحانه أن نقيم وجوهنا لدين الفطرة بقوله سبحانه:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الروم، 32) وقد بينت الآيات أن التفريق بين كتاب الله المنزل وكتابه المخلوق يؤدي الى الافتراق عن الدين الحق.
لقد علَّم الله تعالى آدم الأسماء كلها، وكان ذلك العلم هو الأساس الذي ينطلق منه بنو آدم للوصول إلى المعارف والعلوم من بداية خلقهم حتى وفاتهم، ومن يريد فهم كتاب الله المنزل فلا بد أن يقرأه مع كتاب الله المخلوق، وقد وجدنا الكثيرين يقرؤون كتاب الله المنزل بينما لم ينتبه أحد لكتاب الله المخلوق، وإن وجدنا من يهتم بدراسة الكون والعلوم الطبيعية فإنه يتكلم عن ذلك بمعزل عن كتاب الله المنزل، وقد وصلنا الى النتيجة المأساوية التي تكرَّس فيها فصل العلم عن الدين. والحق أن أحكام القرآن هي أحكام عالمية نافذة لا تقتصر على جنس دون أخر أو قوم دون قوم، وهي كالماء والهواء ضرورية لإسعاد الناس في دنياهم ومن ثم إيصالهم إلى رضوان ربهم والفوز بالجنة.
إن تلك المعلومات المودعة في الموجودات هي جزء من علم الله تعالى اللامتناهي {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (البقرة، 255) وبما أن الله تعالى قد علَّم آدم الأسماء كلها فمن الطبيعي القول بأن آدم عليه السلام هو أعلم البشر.
إن التعرف على مفردات النظام الكوني من ثم الاستفادة من العلم الحاصل يقتضي أن يكون الانسان واعيا لحقيقة وجوده على هذه الأرض، وعندها سيكون كل ما وقع عليه علم الإنسان وحواسه مسخرا له، ولا يتحقق ذلك إلا بمزيد من العلم كما أراد الله سبحانه {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر، 28)
عندما تحدث آدم عليه السلام عن أسماء المخلوقات وظهر كم كان عالما، قال الله تعالى موجها خطابه إلى الملائكة: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة، 33)
وهكذا فإن الإنسان خُلق ليتعلم حقيقة الأشياء وليستفيد مما يتعلم، وإن هذه العلوم التي تنتقل من نسل إلى نسل هي التي علمها الله تعالى لآدم عندما خلقه {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق، 3_5) والإنسان في الآية هو آدم عليه السلام؛ لأنه هو الذي اختاره الله تعالى لتعليمه بنفسه.
الذي لا تعرفه الملائكة هو بناء الحضارة وابتكار المعرفة القائم على نظام الخلافة. والإنسان في محل الاختبار؛ فكلما عمل الأفضل وتسابق نحو الجميل وابتعد عن سفك الدماء، وتحلى بالقوة البناءة وصل إلى درجات عليا من النجاح.
الخروج عن الفطرة ودوره في الفساد
كما يدخل أصحاب الغايات العليا السباقَ فإنه يدخله أصحاب الغايات الخاصة الذين تحكمهم الأنانية والمنفعة الشخصية المجردة كذلك، فيسلكون أقصر الطرق للوصول إلى الغايات ويتركون تلك الطريق الطويلة التي يتحقق الخير في سلوكها على المدى الأبعد والأكثر فائدة للفرد والجماعات ، وهو ما يترك الضرر المحتَّم عليهم وعلى البيئة من حولهم. وهذا ما أشار إليه قوله تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم، 41)
وحتى يكون نظام الخلافة لائقا بكرامة الإنسان فلا بد أن تنتظم القوانين الحقوقية والإقتصادية والاجتماعية على المبادئ التي قررها الله تعالى في الكون وأنزل بها شريعته. ولكن البعض من ذوي العيون الفارغة والأطماع الجامحة لا يعجبهم الالتزام بتلك القوانين، وبدلا من ذلك يرسمون القوانين وفق الخيال والأهواء حتى يتمكنوا من السير في الطرق الملتوية. وقد أخبر سبحانه عن مسالك الناس بقوله تعالى {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ[1] فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} (الإسراء، 84)
وبعد أن علَّم اللهُ تعالى آدمَ أسكنه الجنة التي كان له فيها كل ما سيحتاجه ثم قال تعالى له {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأعراف، 19)
وقد حذر الله تعالى آدم من كيد الشيطان وغوايته قائلا سبحانه {يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى. وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى[2]} (طه، 117_119)
وقد عرف الشيطان المبدأ الذي خلق عليه آدم (الخلافة) والذي يُفهم منه المخالفة كذلك. فوسوس له بالأكل من الشجرة التي مُنع الأكل منها؛ ليجد الخلد بعد ذلك،{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} (طه،120)
وقد رضي آدم بالطريقة والنتيجة؛ أي بالأكل من الشجرة والخلود. وكلاهما مما لا حق له فيه. وكان ذلك أول امتحان أظهر الطبيعة المخالفة لآدم عليه السلام. لقد أراد آدم الخلود ليكون مثل الله تعالى في ذلك، لكن آدم لم يصل إلى ما أراد بالرغم من أكله من الشجرة، عندئذ أدرك مرضه الذي أوصله إلى هذه النقطة فبادر بالتوبة والاستغفار.
السلوك العاطفي والاندفاع نحو الرغبات لا يأتي بخير أبدا، وقد أرشد الله تعالى داوود عليه السلام إلى الطريقة التي تجعله صاحب سلطان وقدرة وتمكين بقوله سبحانه {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (ص، 26)
ولما توجه موسى عليه السلام إلى ميعاد ربه في جبل الطور قال لأخيه هارون {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الإسراء، 142) فالحكم بالحق وعدم اتباع الهوى والبعد عن الفساد والمفسدين، وإظهار الرغبة بالإصلاح هو سبيل النجاح والفلاح والفوز في الدارين.
وقد وقف سحرة فرعون عاجزين أمام المعجزات التي أجراها الله تعالى على يد موسى وأخيه هارون عليهما السلام، وقد كان تسليم فرعون وملائه بتفوق موسى ومن ثم الإقرار بنبوته يعني أن يفقدوا سلطتهم وتأثيرهم، وانقيادا منهم الى هوى النفس في الخلافة والسطلة وخوفا من ضياع المكانة كان لا بد لهم من قلب المشهد والبحث عما يشتت نظر الجماهير عن دعوة موسى والحقائق التي ينادي بها فوجودوا ضالتهم باتهام موسى وهارون بالمنازعة على السلطة حيث قالوا {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى. فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} (طه، 63_64)
لقد تم تأسيس الحياة على أساس مبدأ الخلافة (الاختلاف). والاختلاف يجب أن ينضبط بالدين وإلا كان مهلكة، من أجل هذا نحن ممتحنون امتحان الجهاد والصبر. الجهاد هو الوقوف ضد الباطل، فعلى المسلم أن يقاوم أبدا ولا ينبغي أن يخطو إلى الوراء.
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
[1]يقول عزّ وجلّ لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للناس: كلكم يعمل على شاكلته: على ناحيته وطريقته( فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ ) هو منكم( أَهْدَى سَبِيلا ) يقول: ربكم أعلم بمن هو منكم أهدى طريقا إلى الحقّ من غيره تفسير الطبري على الآية
[2] تضحى: تتعرض للهيب الشمس
بارك الله في الدكتور عبد العزيز بايندر فقد عودنا على مثل هذه المقالات القيمة وقد اطلعت على مقالة غنية في هذا الموضوع للدكتور سلمان بن فهد العودة حفظه الله تعالى أرفقتها في تعليقي لتعميم الفائدة
د. سلمان بن فهد العودة
مهمة الإنسان عمارة الأرض، ولهذا خُلق {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}.
الملائكة ظنوا أنفسهم أهلاً للخلافة بالتسبيح والتقديس، فكشف الله لهم أن المهمة لا تتم بمجرد هذا، هي مهمة البناء والكدح والإحياء، مهمة لا يقوم بها إلا من كان مخلوقاً من الأرض!
المهمة إذاً منوطةٌ بمن أصله الطين والتراب والماء.
الخلافة والاستعمار في الأرض يجعل الكشف والبناء والعلم والاختراع لخدمة الإنسانية مهمة ربانية، وليست أمراً هامشيا ًأو ثانوياً.
الإنسان خُلق ليستخلف، وليس ليكون نسخة أخرى من الملائكة {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}.
والاستخلاف هو عمارة الأرض بحسب نظام الله.
التسبيح والذكر هو عون ومدد لإنجاز المهمة والصبر على تبعاتها وتكاليفها ومشقاتها.
والصلة بالله هي للأمل، والحب، والتسامح، والنجاح، والسعادة في الدنيا والآخرة.
ليست الخلافة بالمفهوم السياسي فحسب، بل بالمفهوم الحياتي والمعرفي والإنساني الواسع.
*الله حاضر لا يغيب، وفي حديث السفر: « اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِى السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِى الأَهْلِ ».
ويقرب جداً أن يكون آدم وذريته خلفاً لسلف من أمم كانت على الأرض وأفسدت وسفكت الدماء كما في قوله: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}.
فقوله : {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم..} يرشد لذلك.
* وجود حالات سابقة في الأرض ظلمت فأُبيدت أمر ظاهر وإن اختلف في تفصيله.
تخوّف الملائكة كان مبنياً على مشاهدة وليس مجرد حدس، وظاهر السياق أن ثمَّ مخلوقات على الأرض كانت من لحم ودم، ولذلك عرفت الملائكة الدماء وتخوّفت من سفكها.
تحذير الله لآدم وحواء إن عصوا بقوله: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ}، يحتمل وجود ظالمين يحذر آدم وزوجه أن يكونوا منهم.
قول الشيطان: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى}، قد يكون تلميحاً إلى الملك الذي بلي وباد في الأرض قبل آدم.
* الطبري، والمسعودي، وابن كثير، وغيرهم ذكروا أجناساً كانت في الأرض قبل آدم.
قال المسعودي: خلق الله في الأرض قبل آدم 28 أمة على خِلَق مختلفة.
– وفي التنزيل: {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ}، والجن كانوا قبل الإنس ومعهم مخلوقات أخرى اختلف المؤرخون في أسمائها.
نقل عن محمد بن علي الباقر أنه قال: (قد انقضى قبل آدم ألف آدم). والله أعلم بصحة الخبر فهو من الإسرائيليات، وانظر ما نقله “محمد رشيد رضا” في المنار في تفسير سورة النساء: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}.
أثبتت الدراسات العلمية الحديثة والأحافير وجود مخلوقات منتصبة القامة كالإنسان قبل آدم، ولكنها أصغر جمجمة وأقل ذكاءً.
ومنها ما يسمى بـ (النندرتالز) الذي كشفت عظامه في مواقع أثرية كثيرة في أوروبا والشرق الأوسط، وتم التأكد من اختلاف جيناته الوراثية عن الإنسان الآدمي.
وفي جبال الكرمل (فلسطين) مقابر مختلطة لكلا النوعين، مما يدل على أن ذلك المخلوق بقي على نطاق ضيق، ولفترة محدودة، والله أعلم.
كان همجياً سفّاكاً للدماء كما تدل عليه أكوام العظام حول المغارات والكهوف، ولم يكن لديه أسرة بالمعنى الصحيح ولا كان يلبس ويستر عورته.
واستمر لأحقاب لا يعلمها إلا الله ثم انقرض لأسباب غير معلومة.
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ}.
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}.
* من خصائص المستخلف سعة العقل والتفكير، وعدم التسرع في النفي القطعي أو الإثبات القطعي إلا بحجة.
حين تقرأ عن مستخلف كان يزاحمنا على الأرض تشعر بالاتساع والتفوق والمزية، وتحس للكون بطعم جديد.
المعلومة ليست مجرد معرفة إنها روح، وفرح، وانفعال، وتعاطٍ، وإيجابية، وتغيير، وتوظيف، وحب، وإيمان.
المعلومة هي (بشرى) كما لو بُشّرت بمولود جديد أو خبر سعيد.
والكثيرون يبادرون برفض وجود مخلوقات في السماوات أو الكواكب أو في الأرض قبلنا دون سبب.
عليك ألا تُكذّب بما أخبر الله عنه من وجود الجن والملائكة ونحوها، أما المسكوت فهو قابل للنفي والإثبات، وليست المسألة شرعية يحاسب عليها العبد يوم القيامة، ولكنها (عادة علمية).
{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}.
سئل علي: هل الكعبة أول بيت لله؟ قال لا؛ بل قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس. (رواه ابن أبي حاتم، وصححه ابن حجر 6/290).
* استصحاب حالة الخليفة الأول حجاب عن الطغيان أياً كان، طغيان العلم أو القوة أو المال.
آدم بدأ فرداً وحيداً مستوحشاً وتوالد وامتد وكثر، وينتهي كذلك: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}.
وفي سورة الانفطار جمع البداية والنهاية: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ}؟، وختم بـ {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.
* مع توسيع مفهوم الخلافة إلا أن القصة تؤكد أن الإنسان كائن سياسي.
الإدارة أساس العمارة، ولا بد أن آدم أدار ما حوله من أمر الأسرة وتوزيع الأدوار وحل المشكلات بطريقة مناسبة، وسعى إلى معرفة نواميس الكون من حوله: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
حين أغراه الشيطان بالملك كان يدرك أن هذا المعنى يحرك وجدانه، وأنه يخاطب غريزة مركوزة فيه، وحين قال: {وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى}، كان يدري أن البشر سيحرصون على ديمومة سلطانهم ويدافعون أسباب الزوال بحكمة حيناً، وبغضب وطغيان حيناً آخر.
* سبب هلاك السابقين: الفساد، القتل، وأساس النجاح هو حفظ الحقوق والإصلاح.
{كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}، ولذا كان الله ينصر العدل ولو كان كافراً، ولا ينصر الظلم ولو كان مسلماً.
* الإنسان كائن مندهش، تحمله الدهشة على المراقبة والمحاكاة والتطوير والاقتباس، وهو سر اكتشاف الكون، وتراكم المعرفة وتداولها بين الأمم، وأحد شروط نجاح الاستخلاف.
* في لحظة حماس كنت مهموماً بالشأن البعيد حيث تنحصر دائرة تأثيري في كلمة.
هذه الكلمة كان يفتقدها القريب مني، ربما بسبب توتر الأعصاب من مشاهدة سياق الأحداث وكيف تسير..
قد يكون القريب أجدر بخيري، وكلمتي الطيبة يجب أن تسمعها زوجتي وبنتي وأختي قبل غيرهم.
قد أغامر في دعم مشروع مسؤوليتي فيه محدودة، ونجاحه محتمل، فهل هذا يعفيني من زرع الفسيلة الصغيرة في حقلي؟ هل يعفيني من تعاهد طفلي؟ هل يسوغ الجفاء في حق أهلي؟
* الخلافة ليست تسلطا ًعلى الناس بالأحكام، فلماذا أقضي جزءاً من عمري في ملاحقة الآخرين واتهامهم وتصنيفهم، ألم يكن الأجدر بي أن أقوم بمهمتي عبر عزل غصن الشوك عن طريقهم؟ وأن أدع أمرهم لخالقهم؟
كنت أظن الخلافة معنى خاصاً بآدم، أو بأصحاب المسؤولية الكبرى، ثم تذكرت قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ »، حتى ذكر الرجل والمرأة والخادم.
سألت نفسي: ما الذي سيتغير في شخصيتي وحياتي وتعاملي مع الأشياء من حولي لو استشعرت مفهوم أنني مستخلف على هذه المسئولية مهما صغرت ومسؤول عنها أَحَفِظتُ أم ضَيَّعتُ؟ وأن بذلك نجاتي أو عطبي؟