أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ:
خَتَمَ اللهُ رِسالتَه إِلى العالَمين بالقرآن الكريم، فكانَ مُحمَّدٌ بذلك خاتمَ النَّبييِّن:
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} الأحزاب (40:33).
رسالةُ الله الخاتمة بين أيدينا اليوم، وقد تكفَّلَ اللهُ تعالى بحفظها من التَّحريف والتَّغيير وأوجَبَ على كلِّ مَن آمَنَ به إلهاً واحداً فهمَ هذه الرِّسالة لنقلها وتبليغها للآخرين، أي أنَّ اللهَ تعالى قد أوجَبَ على كلِّ واحدٍ منَّا القيامَ بمهمَّة الرَّسول التي تقتضي إبلاغَ ما تتضمَّنُه الرِّسالةُ من إنذارٍ وتبشير:
{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الأعراف (188:7).
{إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} الشُّعراء (115:26).
يؤكّدُ القرآنُ الكريم على حقيقة أنَّ مهمَّةَ الرَّسول تقتصرُ على النَّقْل الأمين لرسالة الله المُبينة كما نقرأ مثلاً في الآيات التَّالية:
{وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} آل عِمران (20:3).
{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} المائدة (92:5).
{مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} المائدة (99:5).
{وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} يس (17:36).
وما هو البلاغُ المُبين الذي يتوجَّبُ على رُسل اللّه في كلِّ زمانٍ ومكانٍ إيصالُه إلى الآخرين؟ يُجيبُ القرآنُ الكريم كما يلي:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} المائدة (15:5).
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} يُوسُف (1:12).
{الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} الحِجْر (1:15).
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} النَّحل (103:16).
{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} النُّور (34:24).
{لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} النُّور (46:24).
نفهم من هذه الآيات أنَّ بلاغَ الرُّسل يكونُ مُبيناً إذا استندَ في مضمونه إلى كتاب الله، وفي هذه الحالة يستحقُّ المبلِّغُ أن يكون رسولَ الله لِأنَّه لم يخرج عن رسالة اللّه تعالى.
ضَرَبَ لنا القرآنُ الكريمُ أمثلةً عن رُسلٍ آمنوا برسالة الله حين سمعوها واختاروا بأنفسِهم تبليغَها لأقوامهم في لحظاتٍ كان فيها الموتُ هو العقوبةَ المنتظرةَ لهم، ونبدأُ من امرأة فرعون:
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} التَّحريم (11:66).
تحدّثت الآية عن “اِمْرَأَة” فرعون وليس “زوجة” فرعون[1]، حيث أعلنتْ رفضَها لِما كان يقومُ به فرعونُ وحزبُه من أفعال الظُّلم وأعلنتْ براءتَها من الظَّالمين وطغيانهم، وهنا نلاحظ أنَّ الآيةَ القرآنيَّة لم تهتمَّ بذكر اسم امرأة فرعون ولا بذكر شيءٍ من تفاصيل حياتها معه، لكنَّنا نفهم أنَّ امرأة فرعون آمنتْ برسالة الله وحملتها إلى الآخرين مع علمها بالأخطار المحيطة بها التي تصل إلى حدِّ الموت، لكنّها لم تُبالِ بتلك الأخطار وبلّغتْ رسالتَها وطلبتْ أجرَها من الله”بيتاً بجوار الله في الجنّة” ليعوِّضها عن فقدانها البيتَ بجوار الظّالمين في الدُّنيا.
ضَرَبَ اللهُ لنا، نحنُ المؤمنين، امرأةَ فرعون مثالاً في إيثار ما عند الله من المكافأة على ما في الدُّنيا من نعيمٍ زائفٍ ثمنُه السّكوتُ عن قول الحقٍّ ومداهنةُ الظَّالمين.
ولَعلَّ ذكرَ الآية لدعاء امرأة فرعون كما هو يوحي لنا أنّ اللهَ قد استجابَ دعاءَها وبنى لها بيتاً في الجنَّة بجواره كما طَلَبَتْ.
يقولُ اللهُ تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} الأحزاب (39:33).
أمّا المثالُ الثَّاني لكيفيَّة تقديم الرَّسول رسالتَه فنجده في سورة ياسين حيثُ يقولُ اللهُ تعالى:
{وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} يس (20:36_21).
“رجلٌ”، ذكرُ الاسم ليس مهمَّاً لنا، وما رسالةُ هذا الرَّجل المؤمن الذي جاء راكضاً من أطراف المدينة؟ اِتِّباعُ المُرسَلين الذين يبلِّغون رسالةَ الله دون أجرٍ دنيويٍّ ينتظرونه من المُبلَّغين.
ماذا استخدمَ هذا الرّجلُ “الرَّسول” في إقناعه قومه باتِّباع الرُّسل؟
{وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ، إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ، إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} يس (22:36_25).
لقد استخدمَ العقلَ الذي أودعَه اللهُ في رؤوسنا لنفكَّر به ونتَّخذ من خلاله القرارات المفيدة، وحين نستخدم عقولَنا على هذا الوجه سنكون قد فهمنا رسالةَ الله لنا وأصبحنا جديرين بحملها وتبليغها إلى الآخرين الذين يتوجّبُ عليهم حينئذٍ الاستماعُ لنا “إنِّي آمنتُ بربِّكم فاسمعون”.
وفي قوله “بربِّكم” دلالةٌ على أنّ قومَه يعرفون من أعماقهم أنَّ لهذا الكون إلهاً واحداً لكنَّهم انزلقوا في عبادة آلهةٍ من دون الله لعلَّها حسبَ زعمهم تُقرِّبهم زلفى إليه، فلم يقلِ الرَّسولُ لهم:”إنّي آمنتُ بربِّي فاسمعون”.
وماذا كانت مكافأةُ تبليغ رسالة الله؟ تجيبُ الآياتُ:{ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} يس (26:36_27).
كان دخولُ الجنّة مكافأة لتبليغ الرِّسالة وتحمُّلِ مشاقِّها، ومن صفات الرُّسل الإشفاقُ على أقوامهم الذين يؤثرون الجحيمَ على النَّعيم، وهذا ما لمسناه في قول الرَّسول:” يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ”، يعلمون بماذا؟ “بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ”، لم يقل”بما نلتُه من الله على استحقاق”، لكنْ “بما أكرمنيَ اللهُ به من قَبولٍ ورحمةٍ ومغفرة”.
حين شَعَر أنَّ واجبَه يقتضي منه الإسراعَ في تبليغ رسالة الله التي آمَن بها، جاءَ راكضاً من أطراف مدينته متحدِّياً إصرارَ قومه على رفض رسالة المُرسَلين فاستحقّ كمكافأةٍ من الله له الدخولَ في جنَّة النَّعيم.
يقولُ اللهُ تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} البقرة (159:2).
نمضي إلى المثال الثَّالث عن رجلٍ آمَنَ برسالة الله وسعى إلى تبليغها:
اتّفق فرعونُ وحزبُه على قتل موسى عليه السَّلام بعد أن رفضوا رسالةَ الله إليهم، لكنَّ رجلاً مؤمناً من آل فرعون اختارَ حملَ وتبليغَ رسالة الله سارعَ إلى إبلاغ موسى بما عزَمَ عليه فرعونُ وقومُه، وكان له من النَّاصحين كما تذكرُ الآيةُ التَّالية:{ وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} القَصَص (20:28).
ثُمّ دَخَلَ ذلك الرَّسولُ في الحوار المباشر مع فرعون وقومه كما تذكر سورة غافر حيث يقولُ الله تعالى:{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} غافر (28:40_29).
تعودُ الآياتُ لتؤكِّدَ أنَّ الأسماءَ ليس لها أهميَّة، فمحتوى الرِّسالةِ يعلو على اسم حاملها، ففي اللَّحظة التي شعَرَ بها هذا الرَّجلُ أنَّ عليه التدخُّلَ لإبلاغ رسالة الله التي آمَن بها لم يمنعه من فعل ذلك جبروتُ فرعون وطغيانُه، وكعادة الرُّسل فقد حاورَ فرعونَ وقومَه بالعقل وبيَّن لهم أنَّ جبروتَ الله فوق طغيانهم لكنَّ فرعون آثرَ أن يرفضَ رسالةَ الله واتّخذَ نفسَه إلهاً بَدَلاً من الله.
ويستمرُّ الرَّسولُ في عرض رسالة الله التي تتضمَّن الإنذارَ أمام فرعون وقومه وقد بيَّنَ لهم مصيرَ الأمم السَّابقة التي آثرتْ الضَّلالةَ على الهدى، وطبعاً تظهرُ لغةُ الإشفاق في طريقة عرض رسالة الله لهم:{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ، وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ، الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} غافر (30:40_35).
وبلغتْ ذروةُ الحوار بين الرَّسول من جهة وفرعون وقومه من جهةٍ أخرى في الآيات التَّالية التي تبيِّنُ لنا أنَّ فرعون أصرَّ على كونه إلهاً وأنَّ الرَّسول أصرَّ على كونه مبلِّغاً لرسالة الله التي تدعو إلى النَّجاة:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} غافر (36:40_37).
وأمَّا موقفُ الرَّسول:{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ، تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} غافر (38:40_44).
عَرَضَ الرّسولُ محتوياتِ رسالته بلغة المُشفِق على حال قومه، وبيَّن لهم حقيقةَ الدُّنيا التي يعيشون فيها أمام حقيقة الآخرة، وأصرَّ على رفضه لرسالة قومه التي تدعو إلى العذاب والنَّار في مقابل رسالة الله الدَّاعية إلى المغفرة والجنّة، وقد علَّقَ رسالتَه في آذانهم لعلَّها تجدُ الطَّريقَ إلى عقولهم وقلوبهم يوماً وفرَّ مُلتجئاً إلى الله فأنجاه اللهُ من عذاب آل فرعون:
{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} غافر (45:40_46).
وهذه سُنَّةُ الله في كلِّ الطُّغاة ومَنْ يؤيِّدهم، فلمْ يقلِ الله:”أَدْخِلوا فرعونَ”، بل قالَ تعالى:”أَدْخِلوا آلَ فرعونَ”، فأنصارُ الظَّالمين يشتركون معهم في العذاب الشَّديد، لأنَّهم كانوا كالشَّياطين التي زيّنتْ للظالم ظلمَه وللطَّاغيةِ طغيانَه.
{ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} يُونُس (92:10).
وأمَّا الذين آمنوا بالله حقَّ الإيمان وجاهدوا في سبيله وبلَّغوا رسالتَه فقد التزمَ اللهُ تعالى بحفطهم وتأييدهم:{ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} يُونُس (103:10).
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
هشام العبد
[1] الفرقُ بين مفردتي “زوجة” و “امرأة” في القرآن الكريم
يُطلَقُ لفظُ “الزَّوجة” على المرأة إذا كانت الزوجيَّةُ تامَّةً بينها وبين زوجها، أي إذا توافرَ الاقترانُ والانسجامُ التامُّ بينها وبين زوجها بدون أيِّ اختلافٍ دينيٍّ أو نفسيٍّ أو جِنسيٍّ، فإذا وُجِدَ مثلُ هذا الاختلاف بينهما أصبحتْ “امرأةً” فلا يُطلَقُ عليها لفظُ “زوجة”[1].
لذلك قال القرآن: “اِمْرَأَة نوحٍ وامْرَأَةَ لوط” ولم يصفْهما بالزَّوجتين لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهما كانت على اختلافٍ عقديٍّ مع مَنْ يشاركُها الحياةَ الواحدة:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} التَّحريم (10:66).
وأمَّا مثالُ الزَّوجة فنجده في الآيات التَّالية:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الرُّوم (21:30).
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} الفُرقان (74:25).
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} البَقَرَة (35:2).
وأمَّا في قول زكريَّا عليه السَّلام:{ قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} آل عِمران (40:3).
لم تتمَّ الزوجيَّةُ بشكلها الكامل لأنَّها افتقدتْ إحدى مقوِّماتها وأهدافها”الإنجاب”، لكنْ بعد أن زالَ مانعُ الحمل وولادة يحيى عليه السَّلام لم يُطلِقِ القرآنُ لفظَ”امْرَأَة” لكنَّه استخدمَ لفظ”زوجة” لأنَّ الزوجيَّة تحقَّقت بالكامل حينئذٍ:
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} الأنبياء (89:21_90).
أضف تعليقا