التَّغْشيةُ فِتنَة
كُلُّ شيءٍ زُيِّنَ ظاهِرُه وأُخْفِيَ باطِنُه للتَّغشية فِتنةٌ[1] وهو التَّلبيس الذي تعمَدُ إليه شياطينُ الإنس والجِن. كما في قوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (الأعراف، 27).
وهو نفسُ معنى الفِتْنة في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفتنةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (آل عمران، 7) أي يتَّبعُ ما وَجَدَ من الكتاب مُتشابِهاً بزيغه ليُخفيَ الحقَّ ويُزيِّنَ به الباطِلَ ويرُدَّ ما وَجَدَ من الآيات المتشابهة إلى المعنى الّذي يُفضِّلُه دونَ مُراد الله تعالى.
رَوَى الطَّبريُّ في تفسيره عن الوفد الَّذي زارَ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم من نصارى نجران: “قالوا: ألسْتَ تزعُمُ أنَّه (أي عيسى) كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: بلى! قالوا: فحسبُنا!. فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: “فأمَّا الَّذين في قلوبهم زَيْغٌ فيتَّبعون ما تشابَهَ منه ابتغاءَ الفِتْنة”[2].
ومِثلُ هذا نجده في كثيرٍ من الكُتب الموروثة كالفتوى المقبولة عند عموم العُلماء في جواز تزويج الصِّغار حيث استدلُّوا بهاتين الكلمتين من الكتاب “وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ” (الطَّلاق، 4) قال الطَّبريُّ: وكذلك عِددُ اللائي لم يحضن من الجواري لصِغَرٍ إذا طلَّقهُنَّ أزواجُهنَّ بعد الدُّخول[3].
وقد جَعَلوا عِدَّةَ المُطلَّقة التي لا تحيض لعارضٍ كالمرض أو الحُزن تمتدُّ إلى سِنِّ الإياس لتكونَ عِدَّتُها ثلاثةَ أشهُرٍ بَعدَه[4].
والأصلُ أنَّ هذا الجُزءَ من الآية يُشير إلى مُمْتَدَّةِ الطُّهر من النِّساء بسبب المرض وغيره من الأعراض، كما أنَّها تُشير إلى اللَّواتي لا يحِضنَ أصلاً. لكنَّ جَعْلَ الآيةِ دليلاً على صِحَّة زواج الصِّغار أخرَجَ الآيةَ عن معناها وظَهَرَتْ بذلك مُشكِلتان:
الأولى: الحكم بِصحَّة زواج الصِّغار الَّذي نشَأَ عنه ظُلمٌ عظيمٌ للصِّغار وخاصَّةً الفتيات اللَّواتي يُجبَرنَ على الزَّواج دون أن يفهمن كنهه.
الثَّانية: الحُكم بإطالة عِدَّة المُطلَّقة مُمتدَّة الطُّهر حتَّى تدخلَ في سنِّ الإياس لتَعتدَّ بعد ذلك بثلاثة أشهرٍ، وقد تنتظرُ سنواتٍ طويلةً، ولا يخفى ما يلحقُ بالمرأة من العَنَتِ والحِرمان من حقِّها في الزَّواج.
وقد أغفَلَ أصحابُ هذا الرَّأي الآياتِ التي تُبيِّنُ أنَّ النِّكاح لا يجوز إلَّا بعد البلوغ والرُّشد كما ورد في قوله تعالى : {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النِّساء، 6) وهذا دليلٌ في أنَّ للنِّكاح عهداً لا يجوزُ الزَّواجُ قبل إتمامه، وهو البلوغ. وكون الرُّشد شرطاً فيه جاء بدلالةِ قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النِّساء، 4) لأنَّ الذي لا يجوز تصرُّفُه في ماله لا يصحُّ أن يُعطيَ شيئاً منه لأحدٍ ولا يجوز تبرُّعه بشيءٍ منه.
وكذلك قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ (أي أُحِلَّ لكم نكاحُهنَّ) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (المائدة، 5) حيث لا يُوصَف الصَّغيرُ والصَّغيرةُ بالإحصان ولا بالسِّفاح واتِّخاذِ الأخدان. ولكنَّ التَّغشية وتزيينَ الفتوى بكلمتين من آيةٍ واحدةٍ وسترَها بهما أصبحَ فِتنةً في مُجتمع المسلمين. قال تعالى لنبيِّه: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (المائدة، 49).
فلذلك رُويَ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه سَمِعَ خصومةً ببابِ حُجرته فخرج إليهم فقال: “إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّه يأتيني الخصمُ فلعلَّ بعضَكم أن يكون أبلغَ من بعض فأحسبُ أنَّه صَدَقَ فأقضي له بذلك فمن قضيتُ له بحقِّ مسلمٍ فإنَّما هي قطعةٌ من النَّار فليأخذْها أو فليتركْها”[5].
ومثلُ هذا فَعَلَتْه الشَّياطينُ كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فتنةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (الحجّ، 52 – 53).
ومثلُه أيضاً تصرُّفُ المنافقين الوارد في قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفتنةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (التَّوبة، 43 – 47).
والكَذبُ فِتنةٌ أيضاً لأنَّه سترُ الحقِّ بالباطل وهو نوعٌ من التَّغشية كما في قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فتنتُهُمْ (أي: قولُهم لإخفاء حالهم) إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ . انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأنعام، 23 -24).
للمزيد انظر مقالة أ.د عبد العزيز بيندر (مصطلح الفتنة في القرآن الكريم) على هذا الرابط http://www.hablullah.com/?p=2540
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] فتن (لسان العرب) وفَتَنَ الرَّجُلَ أَي أَزاله عمَّا كان عليه، ومنه قولُه عزَّ وجلَّ: وإِن كادوا ليَفتنونك عن الذي أَوْحَيْنا إِليك؛ أَي يُمِيلُونك ويُزِيلُونك. ابن الأَنباري: وقولُهم فتنتْ فلانةٌ فُلاناً، قال بعضهم: معناه أَمالَتْه عن القصد، والفِتنةُ في كلامهم معناه المُمِيلَةُ عن الحقِّ.
[2] جامع البيان في تأويل القرآن لمحمد بن جرير الطبري، [ 224 – 310 هـ ](6 / 186) المحقق : أحمد محمد شاكر الناشر : مؤسسة الرسالة، 1420 هـ – 2000 م
[3] تفسير الطبري – (12 / 134)
[4] بدائع الصنائع للكاساني وهذا خلاصة ما قال: وَالْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا وَهِيَ امْرَأَةٌ كانت تَحِيضُ ثُمَّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لِعَارِضٍ فَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا حتى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ أو حتى تَدْخُلَ في حَدِّ الْإِيَاسِ فَتُسْتَأْنَفَ عِدَّةُ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ
[5] صحيح البخاري (3 / 131) بَاب إِثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ2458 – .
أضف تعليقا