فتنة السَّحر
أ.د عبد العزيز بايندر
تكرَّرَ ذكرُ كلمة ( السِّحر ) ومشتقاتِها في القرآن الكريم ( 60 ) مرَّةً وبنفس العدد تكرَّر ذكرُ كلمة ( الفتنة ) ومشتقاتها[1] . والسِّحر فِتنةٌ لأنَّه خِداعٌ بفعلٍ أو قولٍ يُبديه السَّاحِرُ على خلاف ما يُخفيه. قال الأزهريُّ : أصلُ السِّحْر صَرْفُ الشئ عن حقيقته إلى غيره[2].
والسِّحر نوعان: فِعليٌّ وقوليٌّ..
- السِّحرُ الفِعليُّ:
مِثالُ السِّحر الفِعليِّ هو ما فعلَه سَحَرةُ فرعون ليظنَّ النَّاسُ أنَّ ما جاء به موسى من الآيات ليس دليلاً على رسالته بل هو سِحرٌ سَحَرَ به أعينَ الناس، فلذلك قال فِرعونُ لموسى بعد أن كذَّبَ آياتِ الله: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى. فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى. قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى. قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى. فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى. قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى. فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} (طه، 57 – 64).
فدلَّت الآيةُ الأخيرةُ بأنَّ السِّحر كيدٌ لا حقيقةَ له. فجاء السَّحرةُ وقالوا: {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى. قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} (طه، 65 – 67).
ومن الممكن أن تكونَ حبالهُم وعصيُّهم أمعاءً مليئةً بالسَّوائل فيها شيءٌ من الزئبق، وقد كان العرضُ في الضُّحى تحت أشعَّة الشَّمس التي تزداد سطوعاً في مثل هذا الوقت، ولمَّا تحرَّكتِ الأمعاءُ المليئةُ بالسَّوائل بتحرُّك الزئبق فيها ظنَّ الحاضرون أنَّها عِصِيٌّ أو حبالٌ بحسب زاوية المشاهدة لكلِّ واحدٍ منهم. والأمعاءُ المليئةُ بالسَّوائل إذا أُخذتْ من بدايتها يظنُّ النَّاظرُ إليها أنَّها عِصيٌّ، وإذا أُخِذَتْ من وسطها يظنُّها حِبالاً.
وقولُه تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} دليلٌ آخرُ على أنَّ السِّحرَ لا حقيقةَ له إنَّما هو كيدٌ وتخييلٌ. والَّذي لا يعرف حقيقتَه يظنُّه حقَّاً كما ظنَّ موسى فأوجسَ في نفسه خوفاً، قال تعالى: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى. وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه، 68_ 69) {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ. قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (الشُّعراء، 45 – 48).
كان السَّحَرةُ أقدرُ النَّاس على تمييز السِّحر من الحقيقة لذا سارعوا بإعلان إيمانِهم؛ لأنَّهم عرفوا أنَّ ما جاء به موسى ليس سحراً إنَّما هو حقيقةٌ تدلُّ على أنَّه رسولُ ربِّ العالمين، فآمنوا به ولم يستمعوا إلى قول فرعون رغم التهديد والوعيد :{قال آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ. قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشُّعراء، 49 – 51).
- السِّحر القوليُّ:
السِّحرُ القوليُّ هو الأكثرُ استعمالاً، والغايةُ منه صَرْفُ النَّاس عن الحقِّ. ومثالُه قولُ الله سبحانه وتعالى عن فريقٍ من اليهود: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (البقرة، 101).
والفريق المذكور “هم فِرقةٌ من يهود المدينة” حيث كانوا ينتظرون النَّبيَّ الخاتمَ كما ورد في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} (البقرة، 89) وقد سعى هذا الفريقُ في تبيين أنَّ القرآنَ الذي أُنْزِلَ على خاتم النَّبيين ليس هو الكتاب الذي كانوا ينتظرونه بدعوى أنِّه لا يُصدِّق التوراة ” وَ (لإثبات كيدهم) {اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (البقرة، 102) أي اتَّبعوا ما وجدوا في التوراة ممَّا كَتَبَ فيها شياطينُ الإنس بأنَّ سليمان عَبَدَ آلهةً أُخرى من دون الله فكَفَرَ[3]، والقرآنُ يصفه بأنه {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (ص، 30). فهذا سِحرٌ بالقول لأنَّ الذي لا يعرف حقيقتَه يظنُّ أنَّه حقٌّ وهو في الحقيقة باطلٌ، فلذلك وصَفَهم اللهُ تعالى بالذين يُعلِّمون النَّاسَ السِّحرَ فكفروا به.
وكذلك قولُه تعالى: وَمَا أُنْزِلَ (أي اتَّبعتْ فِرقةٌ من اليهود ما أُنزلَ) عَلَى الْمَلِكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ … (البقرة، 102) وقَرَأَ ابنُ عبَّاس وابن أبزى والضحَّاك والحسن الملِكين بكسر اللام[4] وهذا هو الصَّحيح عندنا لِأنَّ اللهَ تعالى قال: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} (الحِجر، 8) فلا يُمكن أن يُنزِّلَ اللهُ تعالى ملائكتَه بتعليم السِّحر الذي وصفَه بالبُطلان والفساد في قوله: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (يونُس، 81).
والسَّحرُ من الفِتنة لأنَّ الله تعالى لم يَنفِ توصيفَه بها في قوله تعالى عن المَلِكين اللَّذين يُعلِّمان النَّاسَ السِّحرَ: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (البقرة، 102) ولأنَّه خِداعٌ بفعلٍ أو قولٍ يُبديه السَّاحِرُ على خلاف ما يخفيه.
قال الرَّاغبُ الأصفهانيُّ: “الملِك ضرْبان: مِلكٌ هو التملُّكُ والتولِّي، ومُلْكٌ هو القوَّةُ على ذلك، تولَّى أو لم يتولَّ. فمن الأوَّل قولُه تعالى: {إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها} (النَّمْل، 34)، ومن الثَّاني قولُه: {إِذْ جَعَلَ فيكم أنبياءَ وجعلَكم ملوكاً} (المائدة، 20)، ومن المُمكن أنَّ هاروتَ وماروتَ كانا ابنا مَلِكٍ بالفعل وهما مَلِكان بالقوَّة فوُوجِها بالفِتَن فأُبعِدا عن السُّلطة، فعلَّما النَّاسَ ما واجهاه من أقوالٍ مُزخرَفةٍ وخداعٍ وكيدٍ، فلذلك قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} أي: لا تستعملْ ما واجَهَنا من الفِتن فتصبحُ كافراً. {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} لأنَّهم تعلَّموا منَ الفِتَنِ ما فرَّقَ بينهما وبين السُّلطة، وتلك الحيلُ ذاتُها استعملوها في التَّفريق بين المرء وزوجه، لكنَّ الله تعالى قال: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
لذلك نهانا اللهُ تعالى عن استعمال كلمةٍ فيها السِّحرُ، أي: شيءٌ يصرِفُنا عن حقيقة تلك الكلمة إلى غيره بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة، 104) وقالَ أيضاً :{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (النِّساء، 46).
وفي هاتين الآيتين ثلاثُ جُمَلٍ، لكلِّ واحدةٍ منها معنيان متضادَّان فهي تسمحُ لقائلها أنْ يبديَ خلافَ ما يُخفيه.
“سَمِعْنَا وعَصَيْنا”، تقول التَّفاسير كلُّها إِنَّ معنى “سَمِعْنَا وعَصَيْنا”؛ أي: ما أطعْنا. ولكنَّ المعنى الصَّحيح عندي “سَمِعْنا وتمسَّكْنا بقوَّة”، لأنَّ كلمة “عصى” تأتي بمعنى العِصيان أي ضدّ الطَّاعة. وكذلك بمعنى الأخْذ بالقوَّة كأخْذ العَصَا. ولو أنَّهم قالوا: “سَمِعْنا وأطعْنا” لكانَ خيراً لهم لخلوِّها من السِّحر القوليِّ الذي يُقصَدُ به تحريفُ كلام الله تعالى.
“واسمعْ غيرَ مُسمَعٍ”، والمعنى الأوَّلُ لها: اسْمَعْ ولا يليقُ بنا أن نُسمِعَكَ الكلام. وأمَّا المعنى الآخر: اسمعْ أيُّها الذي لا يسمعُ الكلام. ولو قالوا: “اسمعْ” فقط لكان خيراً، لأنَّه لا مجالَ للتَّحريف وإخفاء خلاف ما يبدونه فيها.
و”راعِنا”، المعنى الأوَّل لها هو أنَّ فعلَ راعِنا مِنْ “رَعَى يَرعى” فيه تعريضٌ على رسول الله، كأنَّهم قالوا له: “أنتَ تُريد أن ترعانا كما تُرعى البهيمةُ، فارْعَنَا إذن”. كما أنَّهم قصدوا بقولهم “راعِنا”: راعي الأغنام. وكذلك يمكن أن يكون لفظُ “راعِنَا” مِنْ “راعى يُراعي” بمعنى الاهتمام والنَّظر إلى حالهم. فلذلك كان قولهم: “انظُرْنا” أحسنَ من قولهم “راعِنا” لأنَّها لا تحتملُ التَّحريف.
ويتبيَّن ممَّا سَبَقَ أنَّهم قصدوا بأقوالهم معناها الظَّاهرَ وأبطنوا المعنى الثَّاني المُحتَمل. لذا قال اللهُ تعالى: {ولو أنَّهم قالوا سَمِعْنا وأطَعْنا واسْمَعْ وانظُرْنا لكانَ خيراً لهم وأقومَ} ولكنْ لعَنَهُمُ اللهُ تعالى بما أخْفَوا في صدورهم من الطَّعن في الدِّين.
ولا يُمكنُ أن يكون التَّحريفُ في القُرآن الكريم إلَّا على هذا الشَّكل، لأنَّ القرآنَ محفوظٌ في قلوب الملايين من النَّاس ومطبوعٌ بما لا يُحصى. وفوق ذلك كلِّه فإنَّ اللهَ تعالى قد وَعَدَ وتعهَّد بحفظه.
وقولُه تعالى في الآية الكريمة: {ليَّاً بألسنتهم وطعناً في الدِّين} يدلُّ على أنَّه يُشترَطُ في وقوع التَّحريف سوءُ النِّيَّة. فالأخطاءُ في ترجيح المعنى للألفاظ متعدِّدةِ المعاني أو الخطأُ في القراءة بسبب الجهل أو النِّسيان ليس من التَّحريف في شيءٍ.
وأهمُّ الكلمات الثلاثة السَّابقة قولهُم “راعِنا”، لذا نهانَا اللهُ تعالى عن التَّلفُّظ بها بقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة، 104)، وقد نهى اللهُ تعالى عن قول راعنا؛ لأنَّ هذه الكلمة تتركُ أثراً قبيحاً في النُّفوس؛ حيث تجعلُ من القائلِ رعيَّةً والمخاطَب راعياً، وهذا يُنشئُ فرْقاً كبيراً بينهما، فالأوَّلُ كالأنعام التي لا تسمع إلَّا دعاءً ونداءً، والثَّاني كالرَّاعي الذي بيده الحُكمُ عليه بما شاء. فلذلك قال تعالى: “وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا” وهاتان الكلمتان لا تُستعملان للبهائم؛ فبهما يُري المخاطِبُ نفسَه إنساناً يسمعُ ويعقِلُ ولا يقبلُ ما يراه مُخالفاً للحقِّ.
وقولُه تعالى: “وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ” أي للَّذين يسترون هذه الحقيقةَ عذابٌ أليمٌ وهو العذاب الذي يسودُ اليومَ على المسلمين الذين جعلوا أنفسَهم رعيَّةً وجعلوا من الأمراء رُعاةً منذ زمنٍ بعيد، فهذا الضَّربُ من السِّحر فتنةٌ عظيمةٌ وهو الأشدُّ تأثيراً والأخطرُ في نتائجه على مجتمعاتنا. وهذه الفِتنةُ أبْعدتِ المُسلمين عن الكتاب والحِكمة وجعلتْهم تحت سطوة الكفَّار.
وهذا ما لم يكُنْ ليحدُثَ لو أنَّنا اتَّبعْنا هذه الآيات: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فتنتَهُ (أي إعطاء هذه الفرصة إياه لأنه اختارها بحريته التامة) فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائِدة، 41).
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع حبل الله www.hablullah.com
[1] موقع المصحف الالكتروني http://www.e-quran.com/q-statis.html
[2] تهذيب اللُّغة للأزهري (2 / 29)
[3] وهو ما كتبوه في سِفرِ الملوك من التَّوراة:”وَأَحَبَّ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ نِسَاءً غَرِيبَةً كَثِيرَةً مَعَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ: مُوآبِيَّاتٍ وَعَمُّونِيَّاتٍ وَأَدُومِيَّاتٍ وَصِيدُونِيَّاتٍ وَحِثِّيَّاتٍ 2مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمُ الرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: “لاَ تَدْخُلُونَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ إِلَيْكُمْ، لأَنَّهُمْ يُمِيلُونَ قُلُوبَكُمْ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ”. فَالْتَصَقَ سُلَيْمَانُ بِهؤُلاَءِ بِالْمَحَبَّةِ. 3وَكَانَتْ لَهُ سَبْعُ مِئَةٍ مِنَ النِّسَاءِ السَّيِّدَاتِ، وَثَلاَثُ مِئَةٍ مِنَ السَّرَارِيِّ، فَأَمَالَتْ نِسَاؤُهُ قَلْبَهُ. 4وَكَانَ فِي زَمَانِ شَيْخُوخَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّ نِسَاءَهُ أَمَلْنَ قَلْبَهُ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ كَامِلاً مَعَ الرَّبِّ إِلهِهِ كَقَلْبِ دَاوُدَ أَبِيهِ. 5فَذَهَبَ سُلَيْمَانُ وَرَاءَ عَشْتُورَثَ إِلهَةِ الصِّيدُونِيِّينَ، وَمَلْكُومَ رِجْسِ الْعَمُّونِيِّينَ. 6وَعَمِلَ سُلَيْمَانُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَلَمْ يَتْبَعِ الرَّبَّ تَمَامًا كَدَاوُدَ أَبِيهِ. 7حِينَئِذٍ بَنَى سُلَيْمَانُ مُرْتَفَعَةً لِكَمُوشَ رِجْسِ الْمُوآبِيِّينَ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي تُجَاهَ أُورُشَلِيمَ، وَلِمُولَكَ رِجْسِ بَنِي عَمُّونَ. 8وَهكَذَا فَعَلَ لِجَمِيعِ نِسَائِهِ الْغَرِيبَاتِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُوقِدْنَ وَيَذْبَحْنَ لآلِهَتِهِنَّ. 9فَغَضِبَ الرَّبُّ عَلَى سُلَيْمَانَ لأَنَّ قَلْبَهُ مَالَ عَنِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي تَرَاءَى لَهُ مَرَّتَيْنِ، 10وَأَوْصَاهُ فِي هذَا الأَمْرِ أَنْ لاَ يَتَّبعَ آلِهَةً أُخْرَى، فَلَمْ يَحْفَظْ مَا أَوْصَى بِهِ الرَّبُّ. 11فَقَالَ الرَّبُّ لِسُلَيْمَانَ: “مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذلِكَ عِنْدَكَ، وَلَمْ تَحْفَظْ عَهْدِي وَفَرَائِضِيَ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ بِهَا، فَإِنِّي أُمَزِّقُ الْمَمْلَكَةَ عَنْكَ تَمْزِيقًا وَأُعْطِيهَا لِعَبْدِكَ. 12إِلاَّ إِنِّي لاَ أَفْعَلُ ذلِكَ فِي أَيَّامِكَ، مِنْ أَجْلِ دَاوُدَ أَبِيكَ، بَلْ مِنْ يَدِ ابْنِكَ أُمَزِّقُهَا. 13عَلَى أَنِّي لاَ أُمَزِّقُ مِنْكَ الْمَمْلَكَةَ كُلَّهَا، بَلْ أُعْطِي سِبْطًا وَاحِدًا لابْنِكَ، لأَجْلِ دَاوُدَ عَبْدِي، وَلأَجْلِ أُورُشَلِيمَ الَّتِي اخْتَرْتُهَا”. سفر الملوك، الاصحاح 11/1_12.
[4] الجامع لأحكام القرآن لمحمَّد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله 2 / 41)).
جزاك الله خيرا
جزاك الله خيرا
هناك من يستدل بحادثة سحر النبي صلى الله عليه وسلم على الإنسان تأثيرا غير ما تفضلتم به فما ردكم عليه .
هذا من جملة المفتريات على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تبين في المقالة أن لا حقيقة للسحر، ولو افترضنا جدلا صحة ما يزعمون حول السحر فكيف يستطيع الكفار سحر النبي وقد تكفل الله بحفظه منهم بقوله {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} المائدة.
فالقول بأن النبي قد سُحر هو تكذيب صريح لوعد الله تعالى لنبيه.
وحادثة شج وجه النبي صلى الله عليه وسلم في معركة احد هل صحيحة أم لا .
وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً ، لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ ) رواه البخاري في ” صحيحه ” (رقم/5445) ومسلم في ” صحيحه ” (رقم/2047) .
ما تفسيرك وقولك في هذا الحديث فمنهم من يستدل به وانا عندي استفسار اذا اعطي شخص سم السيانيد قبل أكل تمر العجوة هل سيقيه من تأثير السم ام ان الحديث له معنا آخر افيدونا جزاكم الله خيرا .
ليس لدي تصور خاص حول هذه الرواية.. لكنك تساءلت _وأنت محق_ هل أكل سبع تمرات كل يوم صباحا تقي الإنسان من السم؟ هذه الرواية تتحدث عن موضوع يمكن إجراء البحث فيه سريريا، فإن كان حقا أنها تقي من السم يمكن أخذ الرواية على محمل الجد وإلا فإنها تبقى في دائرة الشك وخصوصا أنها قرنت السحر بالسم وهي بذلك تشير إلى معنى السحر المتداول بين العامة لا إلى معناه الذي قرره القرآن الكريم، ولا يمكن للنبي أن يحدث بكلام على خلاف القرآن أو على خلاف الفطرة
جزاكم الله خيرا
ونحن بانتظار الجديد منكم على هذا الموضوع لحسم المسألة .
وفقكم الله لخدمة دينه اعانكم على كل ما فيه خير للعالمين .
السلام عليكم هل النفاثات في العقد له علاقة بالسحر كما يشرحه المفسرون أم لها معنى آخر .جعل الله ما تقدموه في ميزان حسناتكم، وهدى الله المسلمين ليتخلصوا من الأفكار التي حبستهم في دوامة الجهل.
الجواب: يتم تفسير هذه الآية تقليديا كما يلي: «ومن شرّ السواحر الّلاتي ينفُثن في عُقَد الخيط، حين يَرْقِين عليها» (تفسير الطبري) .
إن آيات القرآن يفصل بعضها بعضا (هود 1-2). وعند النظر في الآيات المفصلة سيتبين أنه تفسير خاطئ. ولو كان صحيحا لوجدت آية في القرآن تقول بأن السحر حقيقي وأن الساحر يمكنه تغيير الحقائق بمجرد نفخه في ما يعقده من التمائم. لكن القرآن وصف ما فعله سحرة فرعون ضد موسى عليه السلام بأنه مجرد وهم وخداع بصري لا تأثير له غير. قال تعالى:
﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: 116]
والآية التالية تصف أن عمل الساحر لا حقيقة له:
﴿إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 69]
وقد وُصف السحر الذي أتى به سحرة فرعون بأنه عظيم، لكنه خداع للعين فقط ولا يؤثر في حقيقية الأشياء، لذلك لا يمكن قبول التفسير التقليدي للىية. لأن مجرد نفخهم لا يؤدي لشيء.
(الْعُقَدِ) جمع عقدة وهي تدل على قوة العلاقة ، وإن تم العقد بين اثنين على بيع أو نكاح أو غير ذلك صار الوفاء به ملزما. وكلمة العقيدة مشتقة من نفس الجذر؛ وتعني انعقاد القلب على الارتباط بالله تعالى.
النفاثات هي صيغة الجمع لكلمة (نفاثة)؛ وهي مشتقة من نفس الجذر (نفث) ، مما يعني شيئًا مشابهًا للنفخ. وقد روي أن نبينا الكريم قال: “إِنَّ رُوحَ القُدُس نَفَثَ في رُوعي…”، وهذا يفيد بأن النفث/النفخ يمكن أن يكون مفيدًا أيضًا.
يأمرنا الله تعالى أن نستعيذ بالله من شر النفاثات. وشرها يسمى النَزْغُ. لأن كلمة (النَزْغ) تعني التفريق بين شيئين . وحيث أن الشياطين تحاول إفساد علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالله تعالى فقد ورد تحذير الله تعالى من نزغ الشيطان فقال سبحانه:
﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53]
ثم أمرنا أن نستعيذ به من نزغه، فقال:
﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [فصلت: 36]
وهكذا يتبين أن النفاثات في العقد هي النفوس الخبيثة من شياطين الجن والإنس الذين يعملون على إفساد العلاقات بين الناس فيما بينهم وإفساد العلاقة بين الإنسان وخالقه سبحانه.