الفرق بين الأفعال :
استمَعَ، أصْغى، سمِعَ، نَظَرَ، رأى، بَصَرَ
.
إنَّ اختلافَ كلمتين في المبنى يؤشِّرُ إلى اختلافهما حتماً في المعنى، فلا يُمكنُ أن يردَ في كتاب اللهِ تعالى لفظان مُختلفان في المبنى ثُمَّ نقولُ إنَّ لهما نفسَ المعنى.
نُحاولُ في هذه المقالة الموجزة فهمَ الفرقِ بين أفعال : استمَعَ، أصْغى، سمِعَ، نَظَرَ، رأى، بَصَرَ.
على ضوء كتاب الله نقول :
يمرُّ كلٌّ من السَّمع والبصر بثلاث مراحل :
المرحلةُ الأولى تخصُّ كلَّ مَن له أُذُنٌ وعين، وهي تشملُ : الاستماع والنَّظر.
تأتي بعد ذلك المرحلةُ الثَّانية التي تشملُ : الإصغاء لِما تستمعُ له الأُذنُ والرُّؤية لِما تنظُرُ إليه العينُ.
الإصغاء هو مرحلةُ تنقية وترشيح ما تستمعُ له الأُذُن وتجريدُه ممَّا يشوبه من أصواتٍ أخرى مُتداخلة معه، ومحاولةُ إدخالِ كلِّ كلمة مُجرَّدةً ممَّا يُشوِّشُ عليها.
والرؤية هي استيعابُ كلِّ ما تنظرُ إليه العينُ وتنقيةُ الصورة من كلِّ غشاوة، بحيث تُدخلُها مُجرَّدةً نقيَّةً.
الجزءُ المسؤول عن تنقية الصَّوت والصُّورة هو الفؤاد، حيثُ يقولُ اللهُ تعالى :
“وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ” الأنعام 113
أي أنَّ وظيفةَ الفؤاد هي الإصغاءُ لما يأتي من صوتٍ إلى الأُذُن.
ويقولُ تعالى : “مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى” النَّجم 11
أي أنَّ وظيفةَ الفؤاد هي استيعابُ الصُّورة الآتية إلى العين، أي أنَّ الفؤاد قد صدَّق النَّظرَ وحوَّله إلى رؤية انتقلتْ إلى مركز العقل في القلب.
الفؤاد هو جزءٌ غيرُ محسوس بإدراكنا، وهو الذي يربطُ الأُذُن والعين مع القلب الذي يُعتَبرُ مركزَ العقل عند الإنسان.
بعد انتهاء الفؤاد من وظيفته في تنقية الصَّوت والصُّورة، ينتقلُ الصَّوتُ النقيُّ والصُّورةُ الصَّافيةُ إلى مركز العقل في القلب.
يعملُ مركزُ العقل على تحليل الصَّوت والصُّورة مُستنداً في ذلك إلى الإمكانات العلميَّة والقدرات والمُكتسبات التي يتمتَّعُ بها كلُّ شخصٍ، وعلى أساس كلِّ ذلك يقومُ مركزُ العقل بإصدار حُكمه.
لذلك فإنَّ اللهَ لا يُحاسبُ الإنسانَ إلَّا على ما عقلَه بقلبه، فليسَ على الطِّفلِ الصَّغيرِ حَرَجٌ في النَّظر إلى ما حرَّمَ اللهُ، وليس على المجنون حَرَجٌ في النَّظر أو الاستماعِ لِما حرَّمَ اللهُ، لأنَّ مركزَ العقل في الحالتين لمْ يصل مرحلةَ النُّضوج، وهو أساسُ العقاب والثَّواب عند الله.
أرادَ موسى عليه السَّلام النَّظرَ إلى الله تعالى، لكنَّ اللهَ أجابَه بعدم إمكانيَّة الرُّؤية لأنَّ الفؤادَ البشريَّ بإمكاناته غيرُ قادرٍ على الإحاطة بصورة الله تعالى، وأوضَحَ اللهُ تعالى عدمَ قدرة الجبال على الرُّسوخ حال تجلِّي الله لها لتبيان مدى قصور الفؤاد البشري في القيام بوظيفته التي تقتضي تصديقَ ما تنظرُ إليه العينُ وتحويلَه إلى رؤية تنتقلُ إلى مركز العقل في القلب، هذا ما تذكره الآية التَّالية :
“وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ” الأعراف 143
وبمقدارِ ما يقومُ الفؤاد بوظيفته بالشَّكل الأمثل، بمقدار ما يستطيعُ مركزُ العقل في القلب اتِّخاذَ القرار الصَّحيح، لذلك كان دعاءُ إبراهيم عليه السَّلام مُتضمِّناً الإشارةَ الواضحةَ لأهميَّة الفؤاد في إصدار القرار الصَّحيح كما تقولُ الآية : “ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ” إبراهيم 37
ومن نِعَمِ الله التي تستحقُّ الشُّكرَ هو قابليَّةُ الوصول إلى مرحلتي السَّمع والبصر في حالة التجرُّد من الأهواء الشخصيَّة، لذلك تكرَّرَ ذكرُ هذه النِّعمة مُقترنةً بالفؤاد في عديدٍ من الآيات :
“وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” المؤمنون 78
“ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ” السَّجدة 9
“وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون” الأحقاف 26
لقد كان مركزُ العقل عند هؤلاء المذكورين في الآية يُصدِرُ قرارَ الجحود بعد أن عَقَلَ آياتِ الله، لذلك كان العذابُ جزاءً مُستحقَّاً لهم.
“قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ” المُلك 23
“وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ، نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ” الهُمَزة 5_7
لِأنَّ الفؤادَ يلعبُ دوراً مُهمَّاً في إصدار القرار عند الإنسان، فقد كان في الآية السابقة مُعرَّضاً لنار الله لأنَّه ساهمَ في اختيار طريقٍ مُخالفٍ لأمر الله.
“وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ” الأعراف 179
تُبيِّنُ الآيةُ الكريمةُ أنَّ مكانَ العقل عند الإنسان هو القلب، وأنَّ وجودَ العين لا يكفي لتحقُّقِ البَصَر، وأنَّ وجودَ الأُذُنِ لا يكفي لتحقُّقِ السَّمْع، فوجود العينِ والأُذُنِ ليسَ مُقتصراً على المخلوقات البشريَّة، لكنَّ السَّمعَ والبصر من النِّعم التي اختصَّ اللهُ بها البَشَرَ، وعلى أساس ذلك هم مُكلَّفون.
نفهمُ من الآية أنَّ الجِنَّ والإنسَ مُطالبون بتفعيل عمل الفؤاد الذي ينقلُ الاستماعَ والنَّظرَ إلى إصغاءٍ ورؤية ينتقلان إلى مركز العقل في القلب الذي يُصدرُ قرارَه بتحقُّقِ السَّمع والبصر أو لا.
وظيفةُ الأُذُن هي الاستماع، ووظيفةُ الفؤاد هي الإصغاء، ووظيفةُ القلب هي السَّمع.
وظيفةُ العين هي النَّظر، ووظيفةُ الفؤاد هي الرؤية، ووظيفةُ القلب هي البصر.
إذا كان الإنسانُ أصمَّاً فهو لا يستطيعُ الاستماعَ لكنَّه يستطيعُ السَّمعَ بقلبه، أمَّا إن كانَ أصمَّ القلب لا يعقلُ فهو لن يصلَ إلى مرحلة السَّمع ولو استمعَ !
“وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ” يونُس 42
هؤلاء كانوا يستمعون إلى أقوال رسول الله، لكنَّ الله يقول إنَّهم لن يسمعوا لأنَّهم أصمَّاءُ في قلوبهم فهُم لا يعقلون.
يتكرَّرُ ذاتُ المعنى في الآية السَّابعة من سورة الأعراف حيث يقولُ تعالى :
“وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ” الأعراف 193
كان هؤلاء يستمعون إلى هدى الله في آيات كتابه لكنَّهم لم يصلوا إلى مرحلة السَّمع لأنَّ قلوبَهم صمَّاء لا تعقل، وكانوا ينظرون إلى رسول الله لكن لا يُبصرونه لأنَّ مركزَ العقل في القلب قد اتَّخذَ قرارَ الجحود بآيات الله.
وفي الآية التاسعة والعشرين من سورة الأحقاف يقولُ تعالى :
“وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ”
بعدَ أن استمعَ نفرٌ من الجنِّ بانتباهٍ شديدٍ إلى آيات الله وصلوا إلى مرحلة السَّمع لأنَّهم ذهبوا إلى قومهم مُنذرين، أي أَنَّهم عقلوا بقلوبهم ما استمعتْ إليه آذانُهم.
وفي نفس المعنى تقول آيةٌ أُخرى :
“قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا” الجن 1
هم وصَفوا القرآنَ بالكلام العجيب لأنَّهم عقلوه وتوصَّلوا إلى حقيقة مُراده.
يأمرُنا اللهُ تعالى بالاستماع إلى القرآن، لكنَّ الإنصاتَ يجبُ أن يُرافقَ الاستماع من أجل التوصُّلِ إلى السَّمْع كما تقولُ الآيةُ التَّالية :
“وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” الأعراف 204
لأنَّ آلةَ تدبُّر القرآن الكريم هي القلبُ، ومتى كان القلبُ مُغلقاً فلن نستطيعَ الوصولَ إلى فهم كتاب الله ولو استمعنا لآياته صباح مساء :
“أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” محمد 24
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
هشام العبد
أضف تعليقا