أ.د عبد العزيز بايندر
خلق اللهُ تعالى الإنسانَ على طبيعة الاستخلاف، أي الدخول في المنافسة للحصول على السُّلطة والنفوذ. يقول اللهُ تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة، 30)
وكلمة “خليفة” يمكن أن تأتي اسم فاعل واسم مفعول في عين الوقت؛ فمن الأوَّل أن يخلف الشَّخصُ غيرَه، ومن الثَّاني أن يخلفَه غيرُه، وفي كلا الحالتين لا بُدَّ من موت الأوَّل أو تغييبه ليحلَّ الثَّاني محلَّه. فقد خَلَفَ أبو بكر الصِّدِّيقُ النَّبيَّ مُحمَّداً صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قيادة الأُمَّة، فأبو بكر خليفةٌ باسم الفاعل والنَّبيُّ خليفةٌ باسم المفعول. وعندما نقول إنَّ آدم عليه السَّلام خليفةٌ فإنَّه يتبادر الى الذِّهن أنَّه اسمُ مفعول لا اسم فاعل لعدم وجود الإنسان قبله.
بالنسبة للملائكة لم يكن آدم عليه السَّلام _عندما أخبرَهُم اللهُ بأنَّه جاعلٌ في الأرض خليفةً_ سوى واحد من المخلوقات الحيَّة التي ستعمُر الأرض، تلك المخلوقات التي يقتل القويُّ منها الضَّعيفَ وتسفك الدِّماءَ في سبيل السيطرة والاستحواذ، لذلك استغرب الملائكةُ من إرادة الله تعالى خلقَ خليفةٍ جديد يسفكُ الدِّماء.
الخلافةُ موجودةٌ في عالَم الحيوان، وكلُّ فصيلٍ منها له خصوصيَّةٌ مُعيَّنةٌ فيها. وفي سبيل الوصول إلى قيادة المجموعة يحصل الصِّراعُ بين المتنافسَين لينتهيَ الأمرُ بمقتلِ أحدِهما أو تشريدِه أو إخضاعه مُطلقاً.
ففي عالَم الدَّجاج _مثلاً_ لا يُمكن أن يكون في القنِّ (بيت الدَّجاج) سوى ديكٌ واحدٌ، وإن حصل أن تواجَدَ ديكان فإنَّهما يتنافسان على القيادة حتَّى ينتهيَ الأمرُ بقتل أحدِهما للآخر أو طردِه.. إنَّ هذا النَّوع من الصِّراع لا يحدث بين الدَّجاج، وإلَّا لما أمكنَ وجودُ أكثر من دجاجةٍ وديكٍ في القنِّ الواحد. ولو كان هذا النَّوعُ من الصِّراع موجوداً بين الدِّيَكة والدَّجاج لما بقي شيءٌ منها في مكانٍ واحدٍ، بل سيكون جنسُه مُعرَّضاً للانقراض حتماً.
لقد تصوَّرَ الملائكةُ أنَّ العلاقةَ بين أفراد المخلوق الجديد ستكونُ محكومةً بنظام الخلافة؛ ليُصبحَ التَّنافُسُ بين الرَّجل والرَّجل وبين المرأة والرَّجل وبين المرأة والمرأة .
والجدير بالملاحظة أنَّ اللهَ تعالى لم يعنِّفِ الملائكةَ لتصوِّرهم هذا، لأنَّ الإنسانَ إذا ظَلَم وسَفَكَ الدِّماءَ في سبيل السُّلطة والنفوذ فسيكون كالحيوانات بل هو أضلُّ. لكن كان هناك شيئٌ لم تعرفْه الملائكة ، لذا قال اللهُ تعالى:
{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
بعد ذلك: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
الأسماء، جمع اسم، والاسم يُطلق على كلِّ موجودٍ ومعلومٍ، كما أنَّه يُنبِّئُ عن طبيعة هذا الشَّئ وعن الفائدة المرجوَّة منه. وقد علَّمَ اللهُ تعالى آدمَ أسماء الموجودات كلِّها وفائدتَها.
وقد استعملَ القرآنُ الضَّمير العائدَ على الأسماء (ها) بصيغة غير العاقل، لكن عندما تحدَّثَ عن عرض الأسماء على الملائكة استعمل الضَّمير بصيغة العاقل (هم) ويُقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوَّة “عقلٌ”.
وقد تبيَّنَ للملائكة أنَّ المخلوقات التي تُرى كأنَّها دون معنى مليئةٌ بالعلم والمعاني، وكان هذا علماً جديداً عليها، فلم تكن تعلمُه قبل ذلك إلى أنْ أنبئَهَم به آدمُ.. ولذلك قال اللهُ تعالى لهذا العلم “علم الغيب”.
ولذلك لمَّا أخبَرَ آدمُ عليه السَّلام عن أسماء المخلوقات وظهر كم كان عالماً، قال اللهُ تعالى مُوجِّهاً خطابَه إلى الملائكة: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة، 33)
وهكذا فإنَّ أفضليَّة آدم كانت لعلمه أشياء لا تعرفها الملائكة، تلك العلوم التي علَّمَها اللهُ تعالى لآدم عندما خلقه {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق، 3_5) والإنسان في الآية هو آدم عليه السَّلام.
الذي لا تعرفه الملائكة هو بناء الحضارة وابتكارُ المعرفة القائم على نظام الخلافة. والإنسان في حالِ الاختبار؛ فكلَّما عمِلَ الأفضلَ وتسابقَ نحو الجميل مُبتعداً عن سفك الدِّماء. وكُلَّما تحلَّى المُتسابقون بالقوَّة البنَّاءة كلَّما وصل الإنسانُ إلى درجاتٍ أعلى في النجاح.
1_ الامتحان
الامتحانُ هو المميِّزُ الأبرز للإنسان في هذه الحياة، إذ يختلف به عن الحيوانات، ولولا أنَّ الإنسانَ مخلوقٌ بطبيعةِ الاستخلاف لمَا كان للامتحان معنى، فالعلاقةُ طرديَّةٌ بين مستوى الامتحان وبين النتيجة المُترتبة عليه:
إنَّ تفضيلَ الآخرة على الدُّنيا يعني انتصارَ قيم الخير على قيم الشَّرِّ في نفس الإنسان لذا يستحقُّ الحياة الطيِّبة في الدُّنيا والنعيمَ المقيمَ في الآخرة. قال اللهُ تعالى:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل، 97)
ومن يُغلِّب نزعاتِه الحيوانيَّةَ في سباق الخلافة ويغضُّ الطَّرْفَ عن تعاليم الله تعالى مُفضِّلاً الحياةَ الفانية على الباقية فهؤلاء يتهدَّدُهم اللهُ تعالى بالعذاب الشَّديد بقوله :
{وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} (ابراهيم 2-3)
ومِنْ هؤلاء مَنْ يزعُمُ الإيمان، إلَّا أنَّه يعتبرُ كلامَ الله تعالى مُستعصياً على الفهم أو أنَّه غيرُ واضح الدَّلالة على مُراده سبحانه، ومقصوده التهرُّبُ من الاحتكام إليه. وفي هؤلاء يقولُ اللهُ جلَّ شأنُه:
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}. (الزخرف، 36_37)
الشَّيطانُ لا يَدَعُ الصِّراطَ المُستقيمَ لأنَّه ساحةُ عمله المُثلى، وهو دائمُ العمل لصدِّ المؤمنين عن دينهم. ولمَّا حصَلَ اللَّعينُ على فُرصة الحياة إلى يوم الدِّين قال كما أخبرَ القرآنُ عنه:
{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَاٰتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف، 16_17)
يكون الشَّيطانُ من الإنس كما يكونُ من الجِنِّ، وشيطان الجنِّ يمكن التخلُّصُ منه بالاستعاذة بالله من الشَّيطان الرَّجيم، أمَّا شيطانُ الإنس فالتخلُّصُ منه ليس بتلك السُّهولة، فهؤلاء يعرفون تفاصيل علم الدِّين، ولهمُ القدرةُ على إبراز تحريفاتهم للدِّين بمظهرٍ جميلٍ ومن ثمَّ البحث عن نقاط الضعف في المُخاطَبين ليُحقِّقوا نجاحاً ملموساً في التأثير عليهم وإبعادهم عن صِراط الله المستقيم.
وبعد أن علَّمَ اللهُ تعالى آدمَ أودعَه الجنَّة التي كان له فيها كل ما سيحتاجه. ثم قال تعالى له : {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأعراف، 19)
وقد حذَّرَ اللهُ تعالى آدمَ من كيد الشَّيطان وغوايته قائلا سبحانه : {يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى. وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى[1]} (طه، 117_119)
عندما خرَّ الملائكةُ بالسُّجود لآدم أدركَ علوَّ شأنه وأنَّه فريدٌ في المنزلة. يقول اللهُ تعالى عمَّن يكون في حالة آدم هذه : {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (العلق،6_7)
وقد عرَفَ الشَّيطانُ نقطةَ الضَّعف لدى آدم. فوسوس له بالأكل من الشَّجرة التي مُنع عن الأكل منها؛ ليجد الخُلدَ بعد ذلك:
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} (طه،120)
وقد رضيَ آدمُ بالطَّريقة والنتيجة؛ أي بالأكل من الشَّجرة والخلود. وكلاهما ممَّا لا حقَّ له فيه. وكان ذلك أوَّلَ امتحانٍ أظهرَ الطَّبيعةَ المُخالِفةَ لآدم عليه السَّلام. لقد أراد آدمُ الخلودَ ليكون مِثلَ الله تعالى في ذلك، لكنَّ آدمَ لم يصل إلى ما أراد بالرَّغم من أكله من الشَّجرة، عندئذ أدركَ مرضَه الذي أوصله إلى هذه النُّقطة فبادر بالتَّوبة والاستغفار.
وهكذا فإنَّ الشَّياطين الذين يقعدون على كلِّ صراطٍ يستغلُّون شعورَ النَّاس في توقير قادتهم وزعمائهم ليكونَ الطَّريقُ مُعبَّداً نحو تعظيمهم وتقديسهم، وهكذا تنشأ الثيوقراطيَّة.
2_ الخليفة/ رئيس الدَّولة
بحسب الآيات التي ذكرنا أعلاه فإنَّ كلَّ إنسانٍ خليفةٌ، فكلُّ شخصٍ لا بُدَّ أنَّه خلَفَ أحداً قبله أو خلفَه أحدٌ بعده. لكن عندما يُقال اليوم “خليفة” فإنَّه يتبادر إلى الأذهان رئيسُ الدَّولة الإسلاميَّة. فأبو بكر رضي الله عنه خليفةُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وعمرُ خليفةُ أبي بكر وهكذا.
ليس المُهمُّ أن يكونَ الإنسانُ خليفةً، لكنَّ المُهمَّ كيف يكون؟ هل يسفك الدِّماء كالحيوان ويُهلك الحرثَ والنَّسل ؟ أم يُعزِّزُ دورَ الأفراد بما يضمن تطوَّر المجتمع وتحقيقَ التقدُّم الذي يليق بكرامة الإنسان؟ النَّوع الثَّاني من الخليفة لا بدَّ أنَّه أهمَلَ منفعتَه الأنانيَّة في سبيل مجتمعه. وهذا سبيلُ الله تعالى. أمَّا مَنْ يُقدِّمُ الحياةَ الفانيةَ على الباقية ويسعى في رغبات نفسه مُتجاهلاً حقَّ الله تعالى عليه فإنَّه يكون قد وضَعَ نفسَه في دائرة الخطر، وفي الحقيقة فإنَّ هؤلاء قد قدَّموا أهواءَهم على أوامر الله تعالى، وهم يسعوَن لأنْ يكونَ النُّاسُ عبيداً لهم، ولا يتأتّى لهم ذلك إلَّا بمنع النَّاس من رؤية الحقِّ.
3_ النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام رئيسُ الدَّولة المثالي
مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رسولُ الله وخاتَمُ النبيِّين. ومَنْ لمْ يُفرِّقْ بين مُصطلحي النَّبيِّ والرَّسول جعَلَه خاتَمَ المُرسلين أيضاً، فعامَّة العُلماء يرون أنَّ الرَّسولَ هو مَنْ أُرسِلَ بكتابٍ وشريعةٍ جديدين، أمَّا النَّبيُّ فهو المبعوث بشريعةِ رسولٍ قبله. وعلى ذلك فبموتِ خاتم النَّبيِّين فلم يبقَ هناك رسولٌ مُكلَّفٌ بتبليغِ رسالة الله إلى النَّاس.
وبحسب التَّعريف التَّقليديِّ للنَّبيِّ والرَّسول فإنَّ إسماعيلَ عليه السَّلامُ هو نبيٌّ وليس برسول؛ لأنَّه لم يُبعثْ بكتابٍ وشريعةٍ جديدين. لكنَّ الآية 83 من سورة الأنعام وما يليها تُبيِّنُ أنَّ إسماعيلَ عليه السَّلام قد أُوتي الكتاب والحكمة[2]، وبحسب الآية التَّالية فإنَّه نبيٌّ ورسول :
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (مريم، 54)
التَّفريق بين النَّبيِّ والرَّسول مُهمٌّ للغاية، الرَّسول: المُبلِّغُ عن آخر كلاماً دون زيادةٍ منه أو نقصانٍ، أمَّا النَّبيُّ فبحسب الآية 83 من سورة الأنعام وما بعدها فإنَّه الشَّخصُ المُصطفى الذي يُوحى إليه الكتابُ والحكمةُ.
الرَّسولُ قسمان: الأوَّل الرَّسول النَّبيُّ؛ فكلُّ نبيٍّ مُكلَّفٌ بتبليغ ما يُوحى إليه من الكتاب فهو بذلك رسولٌ ضمناً. فلا يوجد نبيٌّ لم يُرسلْ إليه كتاب، لكنَّ هناك من الرُّسل مَنْ لم يُرسَل له أيُّ كتاب. فقد بَعَثَ ملكُ مصر الى يوسف عليه السَّلام رسولاً وهو في سجنه : {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} (يوسف،50)
وكذلك فعلتْ بلقيسُ حيثُ أَرسلتْ المرسلين إلى سليمان عليه السَّلام. {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (النمل، 35)
وإذا لم يكن الشَّخصُ مُختاراً للنُّبوَّة فلا يُمكن أن نطلقَ عليه لفظ النَّبيِّ بحالٍ من الأحوال.
لقد خُتمتْ النَّبوَّة بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، لذا لا كتاب بعد القرآن الكريم، يقول الله تعالى : {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الأحزاب، 40)
وقد نصَّتْ الآيةُ على كونه خاتم النَّبيين وهذا يعني بالضَّرورة أن لا يكون خاتم المرسلين. لأنَّ عدم وجود نبيٍّ بعده يقتضي أن يكون هناك مَنْ يقوم بمهمَّة تبليغ القُرآن إلى النَّاس كافَّة.
يبقى مُبلِّغُ القُرآن رسولاً لحظة تبليغه إيَّاه إلَّا أنْ يُضيفَ تفسيراً أو شرحاً من لدنه فينتهي وصفُه بالرَّسول. ولو كان مُبلِّغُ الوحي نبيَّاً وزاد في التَّبليغ عمَّا هو مُكلَّفٌ به فجزاؤه الموتُ لا محالة. يقولُ الله تعالى :
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ .فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة، 44_47)
الرَّسولُ هو الذي يُبلِّغ عن الله كلامَه دون زيادةٍ أو نُقصان، لذا كانتْ طاعتُه واجبةً دون قيدٍ أو شرط، وطاعتُه لا لشخصه وإنَّما لما يُبلِّغه عن ربِّه. قال الله تعالى :
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء، 80)
وقد كان نبيُّنا مُحمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم يُبلِّغُ القُرآنَ بصفته رسولاً، ويُعلِّمه للنَّاس ويُطبِّقه بينهم بصفته نبيَّاً. يقول اللهُ تعالى :
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (النساء، 105)
وعندما يستخرجُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الأحكامَ من القرآن الكريم فإنَّ إمكانيَّة وقوعه في خطأ الاستنباط واردةٌ، لذا فإنَّ أيَّ كلامٍ للنَّبيِّ خارج إطار تبليغه للقرآن لم يُطلبْ من المؤمنين طاعتُه دون قيدٍ أو شرط، وإنَّما يجبُ طاعتُه في حدود المعروف. يقول الله تعالى :
{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الممتحنة، 12)
وقد كانت هذه النِّساءُ اللَّاتي جِئْنَ يُبايعن النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الشَّريحةَ الاجتماعية الأضعف في المدينة، لأنهنَّ كُّنَّ مُهاجراتٍ من مكَّة فراراً بدينهنَّ، فلم يعد لهنَّ عوائل في المدينة ولا مُعيل. وبالرَّغم من حالة الضَّعف الظاهرة في هؤلاء المهاجرات إلَّا أنَّه لم يُطلب منهنَّ البيعةُ على الطَّاعة المُطلقة لرئيس الدَّولة وهو نبيٌّ كريم، وإنَّما طُلِبَ منهنُّ البيعةُ على الطَّاعة بالمعروف[3].
إنَّ الأخطاءَ التي يقع فيها المسؤولون ورجالُ الدَّولة يجب أن تُردَّ إلى حُكم الله ورسوله. قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء، 59)
المؤمنُ لا يمكن أن يقعَ في نزاعٍ مع الله ورسوله، لكنَّه قد يقع في النزاع مع ولي الأمر من الحُكَّام والمسؤولين، والحلُّ يكمنُ في الاحتكام إلى كتاب الله تعالى. لقد كان مُحمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم يبلِّغُ القُرآن بصفته رسولاً، وطاعتُه إذ ذاك واجبةٌ قطعاً، لكنَّه كان يُطبِّقه على أرض الواقع بصفته نبيَّاً. ولمَّا كان عليه الصَّلاة والسَّلام رئيساً وقائداً للدولة فلا بُدَّ من أنَّه كان يعرض أفعالَه على كتاب الله ليراها موافقةً أو غيرَ موافقة. ولأنَّه لم يفعل ذلك في اتخاذه الأسرى يوم بدر كان عُرضةً للتهديد والوعيد. كما ورد في قوله تعالى:
{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال، 68)
الامتحان الدنيوي لنبيِّنا/ غزوة بدر
في معركة بدر اتَّخذَ نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم قراراً خاطئاً بشأن الأسرى، وقد أيَّده جملةُ المسلمين في هذا القرار، لذا نزل العتاب الإلهيُّ للنَّبيِّ والمؤمنين شديداً:
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال، 67_68)
وبحسب الآية فإنَّ الدَّافع لهذا الخطأ الذي وقع فيه النَّبيُّ والمؤمنون كان تفضيلهم الحياة الدُّنيا على الآخرة: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}
والسَّبب في نزول هذه الكلمات القاسية هو عدمُ الاحتكام الى آياتٍ نزلتْ سابقاً بخصوص الأسرى[4] :
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد، 4)
وأمَّا قولُه تعالى في الآية 86 من سورة الأنفال {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فله ما يُبرره كما يلي:
قبل هجرة المسلمين من مكَّة حدثتْ حربٌ ضروس بين الرُّوم والفرس انتهت بهزيمة الرُّوم وانتصار الفرس، وقد نزلتْ سورةُ الرُّوم لِتُخبر أنَّ الرُّوم سينتصرون على الفُرس في الحرب القادمة التي ستحصل في بضع سنين (3-9). وانتصارُ الرُّوم على الفرس يحمل بشارةً بانتصار المسلمين على عدوِّهم. قال الله تعالى:
{الم .غُلِبَتِ الرُّومُ .فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الرُّوم، 1_6)
وبسبب هذا الوعد الإلهيِّ فإنَّ كُلَّاً من المسلمين والمشركين من أهل مكَّة كانوا ينتظرون أخبارَ المعركة بين فارس والرُّوم. وفي السَّنة الثانية من الهجرة بينما كان أبو سفيان عائداً من الشَّام على رأس قافلةٍ تجاريَّةٍ تواردتْ الأخبارُ بانتصار الرُّوم على الفُرس انتصاراً ساحقاً، وقد كان ذلك حافزاً للمسلمين للخروج للقتال استعجالاً لوعد الله بالنَّصر، فخرجوا لاعتراض قافلة أبي سفيان والسَّيطرة عليها تعويضاً عن الأضرار الهائلة نتيجة هجرتهم وتركهم ديارهم وأموالهم في مكَّة، لكن أبا سفيان علم بذلك فسلك طريقاً بعيداً على جهة البحر الاحمر واستطاع النَّجاة في القافلة، لكنَّ أهلَ مكَّة كانوا قد خرجوا لملاقاة المسلمين في بدر بقيادة أبي جهل، فوجد المسلمون أنفسَهم أمام جيش المشركين ولا بدَّ من المواجهة.
وهذا ما تُفيد به هذه الآيات:
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون}. {الأنفال، 7)
لقد فاتتْ القافلةُ على المسلمين لكنَّهم واجهوا جيشَ المشركين في بدر، ولو تصرَّفوا بحسب القواعد الصَّحيحة لما اكتفوا بالانتصار الموضعي في أرض المعركة بل لواصلوا الطريق نحو مكَّةَ فاتحين، فقد كانت تلك إرادة الله تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}
لقد حقَّقَ المسلمون انتصاراً مُستحقَّاً في بدر وألحقوا بالعدوِّ هزيمةً نكراء، لكنَّه كان انتصاراً موضعيَّاً، فبدلاً من متابعة فلول المنهزمين حتى فتح مكَّة اكتفى المسلمون بالقبض على الأسارى طمعاً في الفداء، وقد حصل ذلك بموافقة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقد كان على الصَّحابة تذكيرُ النَّبيِّ بالآيات التي تنهى عن اتخاذ الأسرى قبل اثخان العدو لكنَّهم لم يفعلوا، لذلك كان الصَّحابة بحسب القرآن مخطئين تماماً كالنَّبي:
{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}
وقد أخذ النَّبيُّ من كلِّ أسيرٍ قادرٍ 4000 درهم فدية[5]. وقد ذكر الشَّافعيُّ أنَّه أخذ من بعضهم أقلَّ من ذلك وأطلق البعض دون فدية[6]. ولمَّا تحرّجَ الصَّحابةُ ممَّا أخذوه من الفدية نظراً للآية الأولى النازلة بحقِّ الأسرى وأرادوا التخلُّصَ من هذه الأموال باعتبار أصلها غيرَ صحيح نزل قولُه تعالى[7] :
{فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنفال، 89)
لقد كان السَّببُ في معاقبة الله تعالى آدم وحواء ترجيحهما الدُّنيا على الآخرة، فكان إخراجهما من الجنَّة نتيجةً حتميَّةً للمعصية. ولولا كتابٌ من الله تعالى سبق في نصرة النَّبيِّ وأصحابه لهُزموا شرّ هزيمةٍ في بدر، وبالرغم من تحقيقهم الانتصار إلَّا أنَّهم عادوا دون فتح مكة، لذا بقي ما اقترفوه من ذنبٍ عالقاً في رقابهم حتى فتح مكَّة في السَّنة الثامنة من الهجرة، وقد كان صُلحُ الحديبية في السَّنة السَّادسة من الهجرة قد مهَّدَ الطريق لقبول توبة النَّبيِّ وأصحابه ومن ثم فتح الطريق أمام مكة وفي ذلك يقول الله تعالى:
{إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (الفتح، 1_2)
وقد أشارتْ سورةُ النَّصر التي نزلت بعد فتح مكَّة أنَّ توبةَ النَّبيِّ والمؤمنين قد شُرِّعت دونها الأبواب:
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (النصر،1_3)
وبحسب الآيات التي ذكرنا فإنَّ الحُكَّام وذوي النفوذ قد لا يستطيع أحدُهم مقاومةَ مغريات الدُّنيا حتى لو كان الواحدُ منهم نبيَّاً ، لذا يجب عدمُ تقديس أفعالهم لإمكانية وقوعهم في الخطأ، بل لا بدَّ من متابعة قراراتهم ومراقبة أدائهم وتصويب أخطائهم.
4_ تأليه الحُكَّام- الثيوقراطيَّة
لا يقبلُ اللهُ _جلَّ شأنُه_ أن يَعبُدَ النَّاسُ غيرَه حتَّى لو كان المعبودُ نبيَّاً مُرسلاً أو ملكاً مُقرَّباً. والعبادة في اللُّغة تعني الخضوع التامَّ للمعبود دون قيودٍ أو شروط. والطَّاعةُ المُطلقة لا تصحُّ لغير الله تعالى. أمَّا مَنْ اختار الخضوعَ المُطلقَ لغير الله فقد رضي لنفسه العبوديَّة لمخلوقٍ مثله. والعبوديَّة لله ولغيره معاً لا يلتقيان أبداً. يقول اللهُ تعالى:
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ[8] فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء، 84)
الذين يُفضِّلون الحياةَ الدُّنيا على الآخرة لهم طرائقُ شتَّى في الاحتيال على دين الله تعالى، وأبرزُ تلك الطُّرق الرَّفعُ من مكانة الأنبياء وأئمَّة العلم إلى مستوى لا يليق إلَّا بالله تعالى، وهم بذلك يجعلون منهم شركاءَ لله في دينه، فيعطونهم أحقيَّة الأمر والنَّهي، وعلى النَّاس واجبُ الطَّاعة. وكلُّ ذلك للقفز على كتاب الله تعالى وإيجاد مصادر أخرى لفهم الدين تتناسب مع رغباتهم وأمنياتهم. وقد شكَّلَ هذا الفريقُ ديناً جديداً موازياً لدين الله الحقِّ، ولمَّا كان هذا الدِّينُ الموازي مُفصَّلاً على مقاس الحُكَّام وأصحاب القرار فإنَّهم لم يُعطوا لأحدٍ من الرعيَّة الحقَّ في النَّقد والتصويب، وانتهى الأمر بقبول النَّاس للدِّين المُفترى_طواعيةً أو كرهاً_ طمعاً في التقرُّب من الحُكَّام أو تجنُّباً لقسوتهم أو خوفاً من الإقصاء، لينتهيَ الأمرُ بتوراث النَّاس هذا الدِّين المُفترى الذي يُنسبُ إلى الله زوراً.
بعد أن تشرَّفَ إبراهيمُ عليه السَّلام بمقام النُّبوَّة قال لقومه:
{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ } (العنكبوت، 25)
فقد كان كثيرٌ من قوم إبراهيم يعلمون بُطلانَ عبادتهم للأوثان، لكنَّهم استمرُّوا على عبادتها مُحافَظَةً على علاقتهم بحُكَّامهم وقيادتهم الدِّينيَّة، وهذا شأنُ كُلِّ مَنْ رَفَضَ الإصغاءَ إلى داعي الإيمان في كلِّ زمانٍ ومكان، ولكن عندما تحين لحظةُ الحقيقة بين يدي الله تعالى يتنكَّر بعضُهم لبعضٍ ويتَّهمُ بعضُهم بعضاً أنَّه كان السَّببَ في ضلالتهم ويلعن بعضُهم بعضاً.
إنَّ الإعراضَ عن دين الله الحقِّ والتمسُّكَ بالدِّين الموازي هو الطريقُ السَّهل نحو تأليه الحُكَّام واعتبارِ أفعالهم مُقدَّسةً لا يجوز المساسُ بها أو انتقادُها. فالقولُ بأنَّ طاعةَ وليِّ الأمر هي طاعةٌ لله تعالى، وعصيانُه عصيانٌ لله تعالى هو ما يطمحُ إليه أربابُ الدِّين الموازي، وهم بذلك يُقدِّمون طاعةَ وليِّ الأمر على طاعة الله سبحانه، بل يزعمون أنَّه الوسيلةُ لطاعة الله، تعالى عمَّا يقول الظالمون عُلوَّاً كبيراً.
5_ أهل الكتاب والثيوقراطيَّة
الثيوقراطيَّة Theocracy عند الغربييِّن هي الحُكم باسم الله تعالى (الكهنوت)، والكلمة مرُكَّبةٌ من Theo وتعني الإله و cracy وتعني الحُكم، والمقصود الحُكم باسم الإله، أو الحكومة الدينيَّة. وفي الثيوقراطيَّة فإنَّ طاعة الحاكم من طاعة الله تعالى، وعصيانه عصيانٌ لله تعالى. وليس لهؤلاء دليلٌ يستندون إليه من التوراة أو الإنجيل. لكنَّهم استطاعوا أن يجدوا دليلاً ممَّا أُضيف إلى الإنجيل والمعروف برسائل بولوس وبطرس.
جاء في رسائل بولس لأهل روما:
“لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ، وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً. فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفًا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ، لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ، لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثًا، إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ، مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ. لِذلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ، لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا بِسَبَبِ الضَّمِيرِ”[9].
الفكرة الأساسيَّةُ التي تحملها رسالةُ بولس السَّابقة هي وجوبُ الطَّاعة المُطلقة للحُكَّام سواءً كانوا أخياراً أم أشراراً لأنَّهم في الحالتين اختيارُ الله تعالى وترتيبه للأمور.
وفي رسالة بطرس الأولى ورد ما يلي:
“فاخضعوا لكل ترتيب بشري من أجل الرب ان كان للملك فكمن هو فوق الكل، أو للولاة فكمرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر وللمدح لفاعلي الخير، لأن هكذا هي مشيئة الله أن تفعلوا الخير فتسكتوا جهالة الناس الأغبياء”[10].
لذلك فإنَّ الكنيسة كانت الأساسَ في تشكيل النظام الثيوقراطيِّ، وبحسب رأيهم فإنَّ الإلهَ يتكوَّن من ثلاثة أقانيم: الأب والابنُ والرُّوح القُدُس. الابنُ هو عيسى حيث (أُعطيَ له ملكوتُ السَّماوات والأرض)[11]
ومن هذا النصِّ اكتسبتْ الكنيسةُ سُلطةً قويَّةً باعتبارها نائباً للمسيح، وقد امتدت هذه السُّلطةُ حتَّى أنَّه لم يعُد أحدٌ يستطيعُ اعتناقَ المسيحيَّة إلَّا بواسطتها؛ فمَنْ أرادَ أن يدخلَ في الدِّين النَّصرانيِّ فلا بدَّ من موافقة الكنيسة، وبعد موافقتها يجب عليه التعميد؛ أي تغميسُه في الماء؛ والتعميد كمصطلحٍ نصرانيٍّ يعني الالتقاءَ مع روحانيَّة عيسى والميلاد الجديد بالرُّوح القُدُس. والتَّعميد هو الشَّرطُ الأوَّلُ للدخول في الديانة النصرانيَّة. والانتقالُ من تبعيَّة كنيسةٍ إلى أخرى يكون بالتَّعميد كذلك[12].
المذهبُ الكاثوليكيُّ هو من أكثر المذاهب النصرانيَّة أتباعاً، ويرتبط هذا المذهبُ ببطرس[13]. والزَّعيم الروحانيُّ لهذا المذهب هو البابا، ويُعتبرُ البابا وكيلَ عيسى وخليفةَ بُطرس. والبابا يملك سُلطةً معصومةً، والكنيسة عالميَّةٌ بحيث تشمل إدارتُها العالَمَ كُلَّه، ولا خلاص إلَّا بالكنيسة. كنيسة روما مركزٌ روحانيٌّ لبقيَّة الكنائس. والكنيسة محكومةٌ من قبل الرُّوح القُدُس؛ ومنشؤُه من الأب والابن. وتفسير الأناجيل يكون بيد الكنيسة.[14]
وفي النظام الثيوقراطيِّ الكنسيةُ هي التي تقوم بتعيين الملك والحكومة والوالي وكذلك الموظَّفين؛ لأنَّ الكنيسةَ تتحرَّكُ باسم الإله وتتصرَّفُ فيما يختصُّ به. ولكنَّ الكنيسةَ لا تتحمَّلُ المسؤوليَّة عن أفعالِها؛ فعقيدةُ أنَّ الرُّوح القُدُس يحمي الكنيسة تمنع تحميل المسؤوليَّة عليها. وعلى هذا فالثيوقراطيَّةُ تُعرَّفُ بأنَّها: “نظامٌ يتركُ الحُكمَ لإرادة الكنيسة. وفي هذا النظام تقومُ الكنيسةُ بتعيين الملك والحكومة والموظَّفين”.
6_ الثيوقراطيَّة عند المسلمين
يُروى عن نبيِّنا صلَّى الله عليه القولُ التَّالي:
“لَتَتَبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قبلكم شِبراً بشبرٍ وذِراعاً بذراع حتَّى لو سلكوا جُحْرَ ضبٍّ لسلكتموه. قُلنا يا رسولَ الله اليهود والنَّصارى ؟ قال :فَمَنْ؟”[15]
وكما سترى بعد قليل فإنَّ الابتعادَ عن القرآن واتباعَ كلامٍ مُفترى على الله ورسوله بدلاً منه جسَّدَ قولَ النَّبيِّ باتباع أهل الكتاب شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ كما ورد في الحديث السَّابق.
والنَّبيُّ في حديثه السَّابق لا يرجم بالغيب بل قاله على ضوء قوله تعالى {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (الفرقان، 31) وفي الآية إشارةٌ أنَّه سيكون بعد خاتم النَّبيين مجرمون يُحرِّفون كلامَه وهديه كما فعل المجرمون من أعداء الأنبياء السَّابقين.
وليس بعيداً من وفاة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتى بدأتْ مؤشِّراتُ ترك الكتاب والاحتكام إلى غيره تلوح في الأفق، تارةً تحت تأثير الاختلاف السِّياسي الذي تطوَّرَ إلى صراعٍ دامٍ أدَّى لانقسام المسلمين دينيَّاً فظهرتْ الفرق التي كان قُطباها الشِّيعة وأهل السُّنَّة، وتارةً اتباعاً لهوى النَّفس والتجارة في الدِّين. ومن خلال ذلك الركام الكثيف ظهرت النَّزعةُ الثيوقراطيَّة (الكهنوت) لتتقررَّ قاعدةً في الحُكم عند الشِّيعة وبدرجاتٍ متفاوتةٍ عند مذاهب أهل السُّنَّة.
أ_ الثيوقراطيَّة عند الشِّيعة
“إنَّ الإمامةَ لا تكون إلَّا بالنصَّ من الله تعالى على لسان النَّبيِّ أو لسان الإمام الذي قبله. وليست هي بالاختيار والانتخاب من النَّاس، فليس لهم إذا شاءوا أن يُنصِّبوا أحداً نصَّبوه، وإذا شاءوا أن يُعيِّنوا إماماً لهم عيَّنوه”[16].
“إنَّ الإمامَ كالنَّبيِّ يجب أن يكون معصوماً من جميع الرَّذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سنِّ الطُّفولة إلى الموت، عمداً وسهواً كما يجب أن يكون معصوماً من السَّهو والخطأ والنِّسيان، لأنَّ الأئمَّة حفظةُ الشَّرع والقوَّامين عليه، حالُهم في ذلك حالُ النَّبيِّ، والدَّليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمَّة، بلا فرق”[17].
أما عقيدة الشيعة في طاعة الإمام فهي كالتالي:
“أنّ أمرَهم أمرُ الله تعالى، ونهيَهم نهيُه، وطاعتَهم طاعتُه، ومعصيتَهم معصيتُه، ووليَّهم وليُّه، وعدوَّهم عدوُّه، ولا يجوز الردُّ عليهم، والرادُّ عليهم كالرادِّ على الرَّسول والرادُّ على الرسول كالرادِّ على الله تعالى. فيجب التسليم لهم والإنقيادُ لأمرهم والأخذُ بقولهم”[18].
ومَنْ يُحقِّقُ في دعاوى الشِّيعة في هذا الصَّدد فلنْ يجدَ آيةً ولا حديثاً يُعتمدُ عليه في إسناد دعواهم، بل إنَّ قولَهم هذا مُنافٍ للمنطق ومُخالِفٌ للفِطرة.
وقد أصبح المذهبُ الشِّيعيُّ الإماميُّ يُدافع عن ما يُشبه النظامَ الثيوقراطيَّ استناداً لما رُوي عن كبار علمائهم، تماماً كما أُسِّس النظام اليثوقراطيُّ في المسيحيَّة استناداً على رسائل بولس وبطرس. صحيحٌ أنّ الشِّيعةَ لم يقولوا أنَّ أقوالَ أئمَّتهم ومجتهديهم هي كلامُ الله، ولكنَّ أكثرَهم يعتبرونها مثلَ كلام الله تعالى من حيث وجوبُ الأخذ بها، كما يظهر في العبارات التالية: المُجتهد الذي توفَّرتْ فيه شروطُ الاجتهاد، هو نائبُ الإمام عليه السَّلام في فترة الغيبة (أي غياب الإمام)؛ وهو حاكمٌ ورئيسٌ على الإطلاق، يملك صلاحيَّةَ الإمام في القضاء والحُكم على النَّاس. ورفضُ حكمه هو رفضُ حكم الإمام. ورفضُ حكمه هو رفضُ حكم الله تعالى. وهو شركٌ بالله على ما روي عن صادقي آل مُحمَّد.[19] والمقصود بصادقي آل مُحمَّد، هم الرِّجالُ الصَّادقون من نَسَبِ مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ من جهة ابنته فاطمة رضي الله عنها (أي الأئمَّة)، وأقوالُ الأئمَّة عند الشِّيعة كأقوالِ بولس وبطرس في المسيحيَّة.
ب_ الثيوقراطيَّة عند أهل السُّنَّة
ولم نعدمْ مثالاً على الكهنوت عند أهل السُّنَّة، فقد وُجدت الآراءُ التي تمنح الحُكَّامَ مقاماً دينيَّاً، وقد نجحوا في الافتراء على رسول الله بالقول التَّالي:
«مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ، فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ»[20]
ولجعل هذا الادَّعاءِ وأمثاله ممكنَ القَبول كان لا بدَّ من الخلط في معنى مُصطلحي النَّبيِّ والرَّسول، لأنَّ الرَّسول يعني الشَّخصَ الذي يُبلِّغُ كلامَ الله تعالى دون زيادةٍ أو نقصانٍ، فإنْ أضافَ أو أنقصَ من كلام الله تعالى فإنَّ مهمته كرسولٍ تكون قد انتهتْ كما يفيده قولُه تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة، 44_ 47)، لذلك اعتبرَ القُرآنُ طاعةَ الرَّسول طاعةً لله تعالى، لأنَّه لا يمكننا الوصولُ إلى كلام الله إلَّا عن طريق الرَّسول.
النَّبيُّ أثناء تبليغه لكلام الله الى النَّاس يكون رسولاً، لكنَّه خارج تلك المهمَّة يبقى يحمل صفة النَّبيِّ دون صفة الرَّسول، وقد جاء الخطابُ فيما يتعلَّق بأحواله الشَّخصيَّة والأُسَريَّة بصفة النُّبوَّة. لذا فأقوالُه خارج إطار التلبيغ وتطبيقاته وأعماله عرضةٌ لوقوعه في الخطأ، لهذا لا وجودَ في القرآن لآيةٍ واحدةٍ تدعو إلى طاعة النَّبيِّ بالمُطلق، بل بالمعروف.
والذين أرادوا أن يجعلوا من التطبيقات والكلام المنسوب للنَّبيِّ مُساوياً للقرآن الكريم قالوا بأنَّ الرَّسولَ هو مَنْ أُرسِل بشريعةٍ وكتابٍ جديدين بينما النَّبيُّ مَنْ أُرسِلَ بشريعةِ وكتابِ نبيٍّ قبلَه.
وقد جعلوا للنَّبيِّ الوظيفةَ المناطة بالرَّسول أصلاً، بينما أعطوا كلامَ النَّبيِّ وتطبيقاتِه صفةَ ما يتلقَّاه الرَّسولُ من الوحي، والقصد مساواة كلام النَّبيِّ وتطبيقاته بكلام الله تعالى الموحى به. وبغير ذلك الخلط بين مُصطلحي النَّبيِّ والرَّسول لا يمكنُهم الاعتمادُ على الآيات التي تدعوا الى الطَّاعة المُطلقة للرَّسول، فكان لا بُدَّ من إسقاط معنى الرَّسول على النَّبيِّ. فقد أخذَ الإمامُ الشَّافعيُّ بالآيات التي تدعو الى طاعة الرَّسول كدليلٍ على وجوب طاعة النَّبيِّ فيما يقوله ويفعله كما يلي:
“وسنةُ رسول الله مُبَيِّنَة عن الله معنى ما أراد، دليلاً على خاصِّه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه، فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله”[21]
“وهي وحيٌ من الله تعالى مثل القرآن الكريم؛ ولا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ رسوله، بل هو لازم بكلِّ حال”[22]
“ولو قلنا أنَّ السُّنَّة تُنسخ بالقرآن لكان يمكن القول بأنَّ حدَّ الرَّجم منسوخاً بقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (النُّور، 2) “[23]
ولكنْ مَنْ يقفُ مليَّاً على الآيتين 15 و 16 من سورة النِّساء يرى بأنَّهما قد نَسَخَتا ما ورد في التَّوراة من حكم الرَّجم والذي تُفيد الروايات أنَّ النَّبيَّ قد طبَّقَه في بداية عهده في المدينة[24]
قال اللهُ تعالى {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (النساء، 15_16)
وفي نظر القائلين بالرَّجم عقوبةً على الزاني المُحصن فإنَّ الآيتين السَّابقتين قد نُسختا بما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه:
قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ” خُذوا عنِّي. خذوا عنِّي قد جعلَ اللهُ لهُنَّ سبيلاً البِكر بالبكر جلدُ مائة ونفيُ سنة، والثيِّبُ بالثيِّب جلدُ مائةٍ والرَّجم “[25]
يقول الإمامُ الشَّافعيُّ:
“ثم نَسَخ الله الحبسَ والأذى في كتابه، فقال: ” الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) ” [النور] .
فدلّتْ سنةُ رسول الله أنَّ جَلْدَ المائة ثابتٌ على البِكْرين الحُرَّيْن، ومنسوخٌ عن الثَّيِّبَيْنِ، وأن الرجْمَ ثابِت على الثَّيِّبَيْنِ الحُريْن”[26].
كما رأيتم فبعد قول الشافعي أنَّ السُّنَّةَ لا تَنسخُ القرآن جَعَلَ من حديثٍ واحدٍ ناسخاً لثلاث آياتٍ من القرآن. والمؤسف حقَّاً أنَّ المسلمين اليوم بمذاهبهم المختلفة يقبلون نسخَ القرآن بما نُسب إلى النَّبيِّ من الأقول والأفعال، حتى تطوَّرَ لاحقاً إلى القول صراحةً بأنَّ (السُّنَّةَ قاضيةٌ على الكتاب)[27]
ومقصودهم في الاعتماد على السُّنَّة وإعطائها سويَّة القرآن الوصولُ إلى “وجوب طاعة وليِّ الأمر من الحُكَّام واعتبارُ ذلك من التزام الشَّريعة والبُعد عن الجريمة”[28] “ومَنْ يوجِّه إليه السُّلطانُ تهمةَ الفساد ومن ثم توجيه الأمر بقتله يُعدُّ هذا مشروعاً”[29]
فالفساد هو التصرُّفُ خلافاً للمعهود[30] وفي هذا الحال يمكن لرئيس الدَّولة أو كبار موظفيه أن يُقرِّروا قتلَ مَنْ لا يُعجبهم تصرُّفُه حتَّى دون الاعتماد على قرار المحكمة.
وإنَّ تقديسَ الحُكَّام واعتبارَ أمرهم هو أمرُ الله تعالى ونهيِهم نهيُه قد فَتَحَ البابَ مُشرعاً أمام انتهاك حُرُمات الله تعالى بهذا الطَّريق ، فعلى سبيل المثال، تمَّ تأسيسُ الأوقاف التي تُعطي القروض بالرِّبا وقد حُدِّدتْ النِّسبةُ المئويَّة للرِّبا بحسب قرار السُّلطات، وكان مَنْ يُضبَطُ مُخالِفاً لما حدَّدتْه السُّلطاتُ يُعرَّضُ للعقوبة.
يقول عمر نصوحي بيلمان:
إذا أصدرَ السُّلطانُ قانوناً يُحدِّدُ به نسبة الرِّبا بـ 15% فلا يجوز تجاوزُ هذه النسبة، ومَنْ يتجاوزْ فإنَّ من حقِّ السُّلطان منعُه وإيقاعُ الجزاء عليه[31].
7_ الثيوقراطيُّون المعاصرون
النظام الديمقراطيُّ هو في الأصل نظامٌ ثيوقراطيٌّ، لأنَّه يؤلِّه الدَّولة، والاختلافُ الوحيد عن الثيوقراطيَّة أنَّ الحُكم لا يكون فيه باسم الله تعالى، والحقُّ أنَّه فرقٌ مُهِمٌّ إذ لا يُستغلُّ الدِّينُ في تحقيق المكاسب السياسيَّة والسُّلطويَّة.
لقد جادل الفرنسيُّون ضدَّ الثيوقراطيَّة الباباويَّة حتى تخلَّصوا منها لكنَّهم وقعوا في ثيوقراطيَّةٍ جديدةٍ تجسَّدت بتعظيم الشخصيَّة الاعتباريَّة للدَّولة، والدولة يُمثِّلُها موظَّفوها الكبار حيث أُعطيت لهم الحصانةُ القانونيَّة، كما أُعطيَ حقُّ التشريع للمجالس النيابيَّة لتسُنَّ القوانين بالأغلبيَّة. وغالباً ما يتمُّ انتخابُ هؤلاء النوَّاب بسبب قوَّة الدعاية الانتخابيَّة التي يُغطِّيها _في العادة_ الأثرياءُ وأصحابُ رأس المال، والنتيجةُ أنَّ هؤلاء النوَّاب المدينين لمَنْ أوصلوهم قبَّةَ البرلمان سيعملون على تشريع القوانين التي تُناسب الأثرياء، فتتكرَّسُ غلبةُ الرأسماليَّة وتُهمَلُ الطَّبقاتُ الفقيرةُ، فيزدادُ الأثرياءُ ثراءً كما يزداد الأشقياءُ شقاءً ، ومهما كانت تلك القوانينُ جائرةً بحقِّ الضُّعفاء والمحرومين فإنَّهم لا يملكون السبَّيلَ للاعتراض على مُقرَّرات الثيوقراطيَّة الجديدة.
الخُلاصة
خالِقُ البَشَر وفطرتهم وناظمُ قوانين التطوَّر والتغيير هو اللهُ تعالى، والدِّين الذي أُمِرْنا باتباعه هو دينُه وشريعتُه. يقول اللهُ تعالى:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم،30)
بحسب الآية فإنَّ الدِّين هو الفطرة، وهو القانون الطبيعيُّ الذي تنسجم فيه الموجوداتُ، وتشويهُ الدِّين كتشويه الطَّبيعة بجامع التسبُّب بتعاسة الإنسان، وعندما يتبرَّأُ النَّاسُ من الدِّين الباطل ويتَّبعوا الدِّينَ الحقَّ فإنَّ الدَّولةَ لا ينبغي أن تتنازع مع الله بالتشريع واستعباد النَّاس، وإنَّما تكون كالشَّمس والهواء النقيِّ والماءِ الصفيِّ لا تُفرِّقُ بين مواطنيها بحسب أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم، وإنَّما هي خادمةٌ للمُجتمع ووسيلةٌ لتنظيم شؤونه حيث تُقدِّمُ خدماتِها لمواطنيها دون تمييز.
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
أ.د عبد العزيز بايندر
[1] تضحى: تتعرَّض للهيب الشَّمس.
[2] انظر الآيات 83_89 من سورة الأنعام.
[3] المعروف، وهو ما عُرِفَ بالشَّرع أو العقل حسَّنه وكان موافقاً للفطرة وجرت عليه عادةُ كرام النَّاس. ومن البديهي أن لا تتعارضَ العادةُ الحسنةُ مع نصوص الكتاب والحكمة. ومن طبيعة العادات الحسنة أن تكون عالميَّة القبول.
[4] نقل ابن هبة الله عن الضحَّاك وسعيد بن جبير أنَّ سورة محمَّد قد نزلت في مكَّة. انظر تفسير القرطبي، طبعة القاهرة 1964، 14/223
[5] أبو بكر عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، تحقيق حبيب الرحمن العظامي، بيروت 1403 حديث رقم 9782
[6] محمد بن ادريس الشافعي، اختلاف الحديث (حاشية على كتاب الام للشافعي) بيروت 1410هـ ، 8/606
[7] ابو محمد الحسين الفرا البغوي الشافعي، تحقيق عبد الرزاق المهدي، بيروت 1420هـ ، 2/310
[8] يقول عزّ وجلّ لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للناس: كلكم يعمل على شاكلته: على ناحيته وطريقته( فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ ) هو منكم( أَهْدَى سَبِيلا ) يقول: ربكم أعلم بمن هو منكم أهدى طريقا إلى الحقّ من غيره. (تفسير الطبري على الاية)
[9] العهد الجديد رسائل بولس لاهل رومية الاصحاح 13 /1_6
[10] رسالة بطرس الاولى، الاصحاح الثاني 13_15
[11] ورد في سفر متى قول المسيح مخاطبا الحواريين: «دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض » سفر متى الاصحاح 18 / 19
[12] تيمور، كوجوك، المرجع السابق.
[13] يقال له بطرس الرسول، فقد ادعى أنه رسول المسيح بعد وفاته.
[14] تيمور، كوجوك، المرجع السابق.
[15] البخاري، كتاب الاعتصام بالسنة، 14
[16] العقائد الإمامية، محمد رضا المظفر، ص 65
[17] العقائد الإمامية، محمد رضا المظفر، ص 65
[18] العقائد الإمامية، محمد رضا المظفر، ص. 65
[19] إعتقاد الشيعة، ص. 24.
[20] صحيح البخاري، باب يقاتل من وراء الامام ويتقى به، 2957
[21] أنظر: الرسالة الشافعي، 1 / 79.
[22] الرسالة الشافعي، 1 / 104-105.
[23] انظر الرسالة باب ابتاء الناسخ والمنسوخ 1/110
[24] يقول الامام الشافعي: وفي قوله: ” مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي (15) ” [يونس] ، بيانُ ما وصفتُ، مِن أنه لا يَنْسخ كتابَ الله إلا كتابُه، كما كان المُبْتدىءَ لفرضه، فهو المُزيلُ المثبت لِما شاء منه، جل ثناؤه، ولا يكون ذلك لأحد من خلقه. انظر الرسالة، 1/106
[25] أخرجه أحمد (22666) الدارمي (2328) ، ومسلم (1690) (12) ، وأبو داود (4416) ، والترمذي (1434) ، والنسائي في “الكبرى” (7144)
[26] انظر الرسالة 1/128
[27] انظر كتاب وجوب العمل بالسنة وكفر من أنكرها ، عبد العزيز بن باز، 1420 هـ ، 1/24-25
[28] انظر فتاوى الانقراوي لشيخ الاسلام محمد بن الحسين 1/368 Şeyhülislam Muhammed b. Hüseyin, Fetava’l-Ankaravi, 1/368. M. Amire, 1281.
[29] عمر نصوحي بيلمان، قاموس الاصطلاحات الحقوقية والفقهية، 3/309 الفقرة 15
[30] المفردات للراغب الاصفهاني، مادة فساد
[31] انظر عمر نصوحي بيلمان، قاموس الاصطلاحات الحقوقية والفقهية، 3/313 الفقرة 858
السلام عليكم،
اني وإن لم أكن من اهل العلم قد احسست ان هذا الكلام يلامس روحي التي كانت بالنسبة لمعظم من حولي متمرده فيما يتعلق بمناقشة الاحاديث.
لي فقط سؤال عن الآيتين
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (النساء، 15_16)
” الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) ” [النور] .
قد قرأت تفسيرا بأن الايه الاولى هي حكم السحاق لأن الخطاب بنون النسوة ولا يوجد عقوبة على الرجل بخلاف الكلام الواضح في آية الثانية.
فهل لي ان اعرف رأيكم في هذا؟
قال الله تعالى {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (الأنعام، 151) جاء في الآية كلمة “الفواحش” وهي جمع فاحشة، وأقل الجمع في العربية ثلاثة. أولها فاحشة الزنا؛ وقد حرمه الله تعالى وحرم الاقتراب منه بقوله تعالى {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (الإسراء، 32) ، وثانيها اللواط وهو العلاقة بين رجلين، وثالثها السحاق وهو العلاقة بين امرأتين. والفواحش محرمٌ فعلها ومأمورٌ باجتنابها جميعا، أي الابتعاد عنها بترك ما يدعو إليها من لباس أو زينة أو تصرف.
وآيةُ الحَبس في سورة النساء حَوَّلت الحَدَّ للنساء من الموت إلى الحبس المؤبَّد في البيوت، وزادت الآيةُ التي بعدها الأَذِيّةَ للرجل والمرأة على السواء حتى يتوبا ويصلحا. قال الله تعالى: «واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا». «واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما» (النساء، 4 / 15-16)
فتكونُ هاتان الآيتان قد نَسَخَتا حكمَ الرجم الذي جاء في التوراة، وقولُه تعالى: «حتى يجعل الله لهن سبيلا» يدل على أنّ هذا الحَدِّ سيخفف؛ وبالفعل فقد وَقَعَ هذا التخفيفُ في الآية الثانية من سورة النور بقوله تعالى:
{الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} (النور، 24 / 2)
حَكَمت هذه الآيةُ على مَن زنى بجَلد مئةٍ دون تمييز بين الرجل والمرأة، أو بين البِكرِ أو الثيب. وهذا الحَدُّ أخف مِن الحد المذكور في سورة النساء الذي هو الحَبسُ في البيوت، والإيذاءُ إلى أن يتوب و يصلح.