آناء اللَّيل
ورد مصطلح (آناء اللَّيل) في ثلاث آيات من القرآن الكريم كما يلي:
{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران، 113)
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} (طه، 130)
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر، 9)
ومن المفيد حقا أن نبحث في هذا المصطلح (آناء الليل) وتحديد معناه والتعرف إليه لإدراك ما أمرت به الآيات من القيام والتلاوة والدعاء والاستغفار، كما أن معرفتها يساعدنا في تحديد وقت الامساك للصيام.
ينقسمُ اللَّيلُ إلى ثلاثة أقسام وبعض هذه الأقسام يحتوي على أكثر من آن:
القسم الأوَّل هو وقتُ المساء ويُسمَّى أيضاً “العشاء”
وهذا وقتٌ من اللَّيل يبتدئُ من غروب الشَّمس وينتهي بغيبوبة آثارها من ضوءٍ أحمرٍ وضوءٍ أبيضٍ. قال تعالى:
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (الرُّوم، 17)
{وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ } (يوسف، 16)
{وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} (النُّور، 58)
ويتفرع هذا القسم من اللَّيل إلى آنَيْن:
أ-الآَنُ الأوَّلُ وهو وقتٌ يبتدئ من غروب الشَّمس ويمتدُّ إلى غيبوبة الشَّفق الأحمر وتُصلَّى فيه صلاةُ المغرب. أي يستمرُّ هذا الآنُ من اللَّيل ما دام ضوءُ الشَّمسِ الأحمرُ باقياً في الأفق الغربيِّ بعد الغروب.
ب- الآنُ الثَّاني، وهو وقتٌ يبتدئُ من غيبوبة الشَّفق الأحمر وينتهي بدخول غسق اللَّيل وتُصلَّى فيه صلاةُ العشاء. ويوجد فيه الضَّوءُ الأبيضُ في الأُفُقِ الغربيِّ.
ويُسمَّى كلُّ واحدٍ من الآنين المذكورين “زُلفةً” أي وقتاً من أوقات اللَّيل قريباً من النَّهار.
القسم الثَّاني هو الغسق ويُسمَّى “ليلاً طويلاً” أيضاً
وهذا وقتٌ من اللَّيل يبتدئُ من اشتداد ظُلمة اللَّيل. أما في المناطق القطبية التي يطول فها غروب الشَّمسُ أو طلوعها فيعرف وقت الغسق باشتداد برودته ، وينتهي بطلوع أوَّلِ الصُّبح (الفجر الكاذب). وهذا القسم من اللَّيل هو ثلثُه الأطولُ بالنسبة إلى الأقسام الأخرى قال تعالى:
{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } (الإسراء، 78)
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} (الإنسان، 26)
وليس فيه أيُّ صلاةٍ من الفرائض، ولكن يُشرعُ فيه صلاةُ التَّهجُّد والاستغفارُ والدُّعاءُ وقراءةُ القرآن والذِّكر.
القسم الثالث هو الصُّبح
وهذا وقتٌ من اللَّيل يبتدئُ من فلق الصُّبح (الفجر الكاذب) وينتهي بطلوع الشَّمس. وأوَّلُه وقتُ السَّحور، ولذلك يُسمَّى “سَحَراً” أو “وقت السَّحر”، وآخره وقتُ صلاة الفجر. قال تعالى:
{فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } (الأنعام، 96)
{وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ } (المُدَّثِّر، 34)
{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } (التكوير، 18)
وكذلك تُعرَفُ بدايةُ الصُّبح بطلوع الفجر الكاذب ونهايتُه بشروق الشَّمس من خلال الآيات التالية:
{قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } (هود، 81)
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ. إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ. نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ.وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ. وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ. فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} (القمر، 33_39)
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} (الحجر، 73)
وعلى هذا فإنَّ وقتَ الصُّبح يبدأ بظهور أوَّلِ نورٍ من النَّهار عن ظُلمة الليل في الأفق الشرقيِّ وينتهي بشروق الشَّمس، قال تعالى:
{فالق الإصباح} (الأنعام ،96)
{والصبح إذا أسفر } (المُدَّثِّر ،34)
{والصبح إذا تنفس} (التَّكوير ،18)
وتلك الآياتُ تُشيرُ إلى أوَّل الصُّبح، وينقسم هذا الوقتُ (الصُّبح) إلى آنين: أحدُهما السَّحر وثانيهما الفجر. وقد يُسمَّى الأوَّلُ فجراً كاذباً والثاني فجراً صادقاً. ويُسمَّى كلُّه صبحاً.
ويُرادُ من قوله تعالى: { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } (هود، 81) آخرُ الصُّبح أي وقتُ الفجر بدليل قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} (الحجر، 73)
ووقتُ الفجر هو آخرُ الصُّبح حيث تُصلَّى فيه صلاةُ الفجر ويمسك فيه الصائم. قال تعالى:
{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (الإسراء، 78)
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} البقرة، 187
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ } (النور، 58)
{وَالْفَجْرِ } (الفجر، 1)
{سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } (القدر، 5)
ومن المفيد أن نسرد الآياتُ المتعلِّقةُ بالموضوع والتي تبين ما يُشرع للمسلم فعله في آناء الليل:
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (الإسراء، 79)
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } (السَّجدة، 16)
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } (المُزَّمِّل، 1_4)
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } {المُزَّمِّل،20).
الخلاصة:
إنَّ آناء الليل هي ستٌّ كما يلي:
أوَّلُها يبدأُ بغروب الشَّمس وينتهي بغيبوبة الشَّفق الأحمر الذي يُرى في الأُفق الغربيِّ.
وثانيها آنٌ يبدأُ بغيبوبة الشَّفق الأحمر وينتهي بغيبوبة الشَّفق الأبيض الذي يلي الشَّفقَ الأحمرَ.
وثالثُها أوَّلُ غسق اللَّيل وهو آنٌ يبدأُ باشتداد ظُلمة اللَّيل ولا يوجد أيُّ علامةٍ لنهايته من الشَّمس، ولذلك لا يُعلَمُ بالضَّبط ولكن يُفرضُ بالتخمين.
ورابعُها آخرُ غسق اللَّيل وهو آنٌ يبدأ بنهاية أوَّل الغسق وينتهي بانفلاق الصُّبح أي بدخول وقت السَّحر. ولا يُعلمُ بدايةُ الآن الرَّابع بالضبط كما لا تُعلَمُ نهاية الثالث، لأنَّه لا يوجدُ هنا أيُّ علامةٍ من الشَّمس.
وخامسُها آنٌ يبدأُ بظهور ضياء الصُّبح وينتهي إلى الفجر ويُسمَّى هذا الآنُ سحَراً لأنَّ الصَّائمَ يأكلُ سحورَه فيه، وهو وقتٌ رغَّبَ اللهُ تعالى عبادَه في الدُّعاء والاستغفار والتضرُّع إليه بقوله:
{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ } (آل عمران، 17)
{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (الذاريات، 18)
وسادسُها آنٌ يُسمَّى الفجرُ لأنَّه يُصلَّى فيه صلاةُ الفجر، وهو يبدأ بكون الضِّياء الأبيض المستطير مستطيلاً مع اختلاطه بالحمرة في الأُفُقِ الشَّرقيِّ وينتهي بشروق الشَّمس.
ويدل على هذا التقسيم ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصفه، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما “[1] فقوله عليه الصلام (وينام سدسه) دلَّ على أن لليل ستة آناء.
هذا ما وصلتُ إليه من الآيات المُتعلِّقة بالموضوع. ويؤيِّدُه أقوالُ بعضِ العُلماء كما يلي:
قال الخطابيُّ رحمه الله :
“قولُه ( أي السَّاعات أسمعُ ) ، يريد : أيُّها أوقعُ للسَّمع ، والمعنى أيُّها أولى بالدُّعاء ، وأرجى للاستجابة ؟ وهذا كقول ضماد الأزدي ، حين عرض عليه رسولُ الله الإسلام ، قال : فسمعتُ كلاماً لم أسمع قولاً قط أسمعَ منه ؛ يريد أبلغَ منه ولا أنجعَ في القلب .
وجوف اللَّيل الآخر : إنَّما هو الجزء الخامس من أسداس الليل ، وهذا موافقٌ للحديث الذي يُروى أنَّ الله يُمهل حتى يبقى الثلثُ الآخر من الليل فينزل إلى السماء الدَّنيا فيقول هل من سائل فيعطى هل من تائب فيغفر له ” انتهى . “غريب الحديث”، للخطابي (1/134).
وقال ابن الأثير رحمه الله :
وفيه : (قِيل له : أيُّ اللَّيل أسْمَعُ ؟ قال: جَوْف الليل الآخِرُ) ، أي : ثُلثُه الآخِرُ ، وهو الجُزء الخامِس من أسداس الليل ” انتهى . “النهاية” (1/841).
وقال المرتضى الزبيدي رحمه الله :
وجَوْفُ اللَّيْلِ : الآخِرُ في الحَدِيثِ وهو قَوْلُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا سُئِلَ : أَي اللَّيْلِ أَسْمَعُ ؟ قال : (جَوْفُ اللَّيْلِ الآخِرِ) أَي : ثُلُثُةُ الآخِرُ ، وهو الجُزْءُ الْخَامِسُ مِن أَسْدَاسِ اللَّيْلِ ؛ أَي لا نِصْفُه كما زَعَمَهُ بَعْضُهم ” انتهى “تاج العروس” (23/108).
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
أنس عالم أوغلو
[1] رواه أحمد (6491) والبخاري (1131) و (3420) ، ومسلم (1159) (189) ، وأبو داود (2448) ، وابن ماجه (1712) ، والنسائي في “المجتبى” 3/214 و4/198، وفي “الكبرى” (2653) ، والطحاوي في “شرح معاني الآثار” 2/85، و”شرح مشكل الآثار” (1253) ، وابن حبان (2590)
أضف تعليقا