أ.د عبد العزيز بايندر
الميزان، من الوزن: معرفة قدر الشيء[1]. وقد جاء الميزان في الآية التالية بمعنى الحكمة: قال الله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ» (الشورى، 42 / 17).
وفي قوله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (الحديد، 57 / 25)، ورد الميزان بمعنى الحكمة مبينا أن الهدف هو القسط. والقسط هو إعطاء النصيب بالعدل.
ويوجد الميزان في آيات الله المنثورة في الكون؛ أي ما يحيط بنا من الكائنات. قال الله تعالى: «وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ» (الرحمن، 55 / 7-9) يأمرنا الله تعالى في هذه الآية بالميزان والقسط في علاقتنا مع الطبيعة.
كما رأينا فإن الميزان هو معنى آخر للقسط والعدل. لذلك ينبغي أن لا تؤدي العداوة لشخص ما أن نترك القسط والعدل معه. قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» (المائدة، 5 / 8-9).
وفي التعايش مع أصحاب الآراء المختلفة لا بد أن يكون الميزان (الحكمة) يمثل المعيار الأساسي في العلاقة معهم. قال الله تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. (الممتحنة، 60 / 8-9).
ولحماية الميزان وجب الجهاد ضد من يحاربنا أو يخرجنا من ديارنا أو يظاهر علينا في إخراجنا من بلادنا بسبب ديننا. ورغم إيجاب الجهاد في مثل هذه الحالة إلا أنه لا يجوز التجاوز عن الحد اللازم. وقد علّمنا القرآن الكريم في سورة البقرة في ستِّ آيات ستَّ قواعد في القتال في سبيل الله، تحددُ أسباب مشروعية القتال وغاياته وآدابه وزمنه:
القاعدة الأولى: أن الله تعالى أذن بالقتال في سبيله لردّ العدوان وحماية الدعوة والميزان وحرية الدين ونشره في العالمين، قال الله تعالى: «وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ» (البقرة، 2 / 190).
القاعدة الثانية: القتال حين الاعتداء يجوز في أي مكان، قال الله تعالى: «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» (البقرة، 2 / 191).
القاعدة الثالثة: أنه لا يبدأ المسلمون قتال غيرهم في المسجد الحرام في مكة حتى يبدأ الأعداء، فإن قاتلهم أعداؤهم، جاز القتال وردّ العدوان، حتى ينتهي المعتدون عن عدوانهم لأن الشّر بالشّر، والبادئ أظلم، قال الله تعالى: «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (البقرة، 2 / 191-192).
القاعدة الرابعة: لتشريع القتال في الإسلام غايتان: الأولى: منع الفتنة في الدين، وضمان حريته، والثانية: إقرار السّلم واستتباب الأمن والطمأنينة، قال الله تعالى: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ» (البقرة، 2 / 193).
القاعدة الخامسة: أن الإذن بالقتال في الشهر الحرام يكون من قبيل القصاص والمعاملة بالمثل، فإن مشركي مكة انتهكوا حرمة هذا الشهر الحرام، وردّوا المسلمين عن العمرة يوم الحديبية، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال في الأشهر الحرم: الشهر الحرام بالشهر الحرام وهتكه بهتكه، فمن عظّمه عظّمناه، ومن انتهك حرمته انتهكناه، والقتال فيه في هذا العام كالقتال من المشركين في العام السابق، فالواجب القصاص والأخذ بالمثل، قال الله تعالى: «الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (البقرة، 2 / 194).
القاعدة السادسة والأخيرة: إن القتال في سبيل الله يتطلب التضحية بالنفس والمال، ويتوقف القتال كغيره على المال، فيجب الإنفاق في سبيله لأن الإنفاق في الحروب وسيلة النصر وطريق الفوز والغلبة، وترك الإنفاق مهلكة للأمة، ومضيعة للجماعة، قال الله تعالى: «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (البقرة، 2 / 195).
ولنتبع الحكمة علينا أن ندرس مجموع الآيات التي توضح العلاقة مع غير المسلمين في هذا النطاق، ذلك أن دراسة المناسبات بين الآيات وأخذها على مجموعها من مقتضيات الميزان، فضياع الحكمة وأخذ الآيات على انفرادها أدى إلى خلل وأخطاء كبيرة في العلاقة مع غير المسلمين.
أضف تعليقا