جمال نجم
مقدمة
الإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان، كما ورد في قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (البقرة، 285) وقد ورد ذكر الملائكة في القرآن الكريم بنحو 75 آية في 33 سورة بمناسبات مختلفة. وهذا يدل على أهمية الإيمان بهم.
وقد اعتبر عدم الإيمان بهم كفرا يُخرج الإنسان من دائرة الإيمان، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النساء، 136)
1_ لماذا أوجب الله تعالى الإيمان بالملائكة؟
والآية السابقة (النساء، 136) تظهر السبب من إيجاب الإيمان بالملائكة، وهو أن الكتاب الذي نزل على رسولنا والكتب التي أُنزلت على الرسل من قبله كانت بواسطتهم، فلا يمكن الإيمان بالكتاب دون الإيمان بهم، فمن مقتضيات الإيمان بالرسول معرفة كيف تأتيه رسالة الله تعالى، لذلك بعد أن أمر الله تعالى بالإيمان به وبالكتاب الذي أنزله على رسوله جاء التعقيب سريعا في نفس الآية أن الكفر بالملائكة جُرم عظيم لا يستقيم معه الإيمان بالله ورسله وكتبه؛ لأنهم (الملائكة) الواسطة التي ينتقل الوحي عبرها من الله تعالى إلى أنبيائه الكرام.
يقول الله تعالى:{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل، 2).
ويقول الله تعالى مطمئنا نبيه أن ما جاءه الحق من ربه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (الشعراء، 192_194)
2_ أمين الوحي والرصد
أمين الوحي هو جبريل عليه السلام، أما الرصد فهم الملائكة المرافقون له، وعندما يجيء أمينُ الوحي النبيَّ بالرسالة يرافقه مجموعة من الملائكة كحراسٍ من تدخل الجن. وفي ذلك يقول سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (الجن، 26_ 28)
تحيط الملائكة “الرصد” بالنبي عند إيحاء جبريل له بالقرآن؛ ليعلم النبيُّ ويستيقنَ أنَّ ما جاءَه هو رسالةُ الله تعالى التي لم تخالطها وساوس الشيطان أو سنوحات الخيال، فيحيط بما سمع، ليكون بعدئذ مكلفا بتبليغه إلى الناس.
عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ شَيَّعَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا سَدَّ الْأُفُقَ»[1] وفي رواية موقوفة على ابن عباس: «نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً بِمَكَّةَ لَيْلًا وَحَوْلَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجْرُونَ حَوْلَهَا بِالتَّسْبِيحِ»[2]
3_ وظائف الملائكة المتعلقة بالوحي
ذكر القرآن الكريم كثيرا من وظائف الملائكة، لكننا سنتعرض لتلك الوظائف المتعلقة بالوحي وتعليم الناس ما نُزّل إليهم:
أ_ الإتيان برسالة الله تعالى إلى رسله من البشر
ورسالة الله تعالى لا تأتي الأنبياء إلا بطريق الرسول من الملائكة. وذلك بالرغم من تعدد طرق الوحي كما ورد في قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى،51)
في الآية ثلاث طرق لإيصال أوامر الله تعالى إلى خلقه:
الأول: الوحي؛ وهو في الآية بمعنى الإلهام أو الرؤيا، ويشترك في هذا النوع من الوحي الأنبياء وغيرهم.
فمن رؤيا الأنبياء ما رآه إبراهيم عليه السلام من ذبح ابنه إسماعيل: {قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } (الصافات، 102)
وما رآه نبينا من دخوله المسجد الحرام هو أصحابه محلقين رؤوسهم ومقصرين: { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ } (الفتح، 27)
ومن رؤيا غير الأنبياء كالتي رآها ملك مصر حيث عبّرها يوسف عليه السلام: { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} (يوسف، 43)
ومن الإلهام ما جاء في قوله تعالى عن أم موسى عليه السلام:
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص، 7)
كما تستخدم كلمة الوحي بهذا المعنى في إلهام الحيوان أيضا:
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (النحل، 68)
كما يستخدم ذات المصطلح في إلقاء الأمر إلى الجماد:
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} (الزلزلة، 5) أي الأرض
الثاني: من وراء حجاب، كما كلم الله موسى؛ كلمه من وراء حجاب، وقد سمع موسى كلام الله مباشرة، لكنه لم يره، وفي ذلك يقول سبحانه: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النساء، 164)
الثالث: أن يرسل رسولا، فيوحي بإذن الله رسالة الله إلى أنبيائه، وأمين الوحي هو جبريل عليه السلام، ولا يأتي سوى الأنبياء، يأتيهم برسالة الله تعالى فيقرؤها عليهم ويبلغهم إياها بالشكل الذي أراد الله تعالى، وهو إذ يبلغ رسالة ربه للنبي تحفه الملائكة من كل جانب رصدا وحراسة من الشياطين.
ورسالة الله تعالى لا تأتي إلا الأنبياء، كما لا تأتيهم إلا عبر أمين الوحي جبريل، ولا يمكن أن تأتي بالإلهام أو المنام، والحكمة من ذلك هي أن يستيقنَ النبي على وجه القطع أن ما جاءه رسالة ربه، لأن الوحي بالإلهام أو المنام قد يُشكل في الفهم أو التأويل، وحتى لا يُترك الأمر لكل دعيِّ فيدعي أن الله قد أوحى إليه بالإلهمام أو المنام. وهذا ظاهر من قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (الجن، 26_ 28)
ب_ تعليم الناس وإعطائهم دروسا عملية
وهنا سأقف على مثالين من القرآن الكريم وآخرين من السنة:
المثال الأول: ورد في سورة الكهف في الآيات 60_ 82 قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح (الخضر عليه السلام)، والعبد الصالح هو ملك أرسله الله تعالى إلى موسى على هيئة إنسان ليعلمه ما لم يستطع تحصيله من معلم بشر.
الملَك سيعلم موسى عليه السلام دروسا قاسية في الصبر، واحتمال الأذى، والتضحية، والثقة بوعد الله تعالى:
ينطلق موسى مع الخضر، فما إن يركبا السفينة حتى يقوم الخضر بخرقها، وكانت السفينة لمساكين يعملون في البحر، وهذا الرجل الذي ينبغي أن يكون عونا للمساكين يخرقُ سفينتهم، والعجيب أن أصحاب السفينة لم يحاولوا ثنيّه عن فعلته ظاهرة الضرر بهم، حتى إنهم لم ينكروا عليه ولم يعاتبوه بالقول لقد أكرمناك وحملناك وها أنت تخرق سفينتنا، كلا لم يقولوا شيئا من ذلك، وربما موقفهم هذا دفع موسى إلى التسرع في استنكار ما فعله الخضر.
ثم ينزلان من السفينة فيمشيان في الطريق؛ فإذا بهما يلتقيان بغلام، ليبادر إليه العبد الصالح فيقتله دون سبب ظاهر، ولا عجب أن يغضب موسى من قتل غلام بريء لم يفعل ما يوجب قتله، لكن العجيب أن أيّا من أولياء المقتول لم يطالب بدم الفتى، ومرّ الأمر كأنه لم يكن، ولم يتغير شيء سوى ازدياد دهشة موسى واقتراب نفاد فرص بقائه مع الخضر.
ويستمر الخضر في غرائبه عندما دخلا القرية التي رفض أهلها إكرامهما ولو بكسرة خبز ليبادر الخضر إلى إصلاح جدار متصدع آيل للسقوط. ويستغرق موسى بحيرته من أمر الرجل، فقد خرق سفينة من حملوهما وقتل غلاما بريئا، وها هو يقيم جدارا في بلد لم يكرمه أهله. والأعجب أن هذا العبد الصالح قد أقام الجدار دون نقضه، ومعلوم أن الجدار المتصدع الآيل للسقوط لا يقوَّمُ، بل يُنقض ويُبنى من جديد.
لقد نفدت فرص موسى كلها عند احتجاجه على تقويم الجدار، لأن موسى قد اشترط على نفسه عندما قتل الغلام أنه إن سأله _معترضا_ عن شيء مرة أخرى فستكون خاتمة رحلته معه.
ولم يصبر موسى أكثر كي نتعلم المزيد من تلك الرحلة، وقد تمنى نبينا صلى الله عليه وسلم لو كان صبر بقوله: (وَدِدْنَا أَنْ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمْ)[3]
إن من حق التلميذ على المعلم أن يبين له أين أخطأ، والخضر لم يفتْه ذلك، فقد بيّن لموسى السبب في عدم قدرته على الصبر، وهو عدم معرفته الخلفية الكامنة لتلك الأحداث، وهو المعروف بالتأويل، لذا شرع العبد الصالح بتأويل الأحداث قبل افتراقهما، وكانت دهشة موسى تتبدد شيئا فشيئا كلما عرف خلفية كل واحدة من تلك الأحداث.
ولا شك أن الملَك (الخضر) قد أدى دوره كمعلم لموسى ولمن قرأ قصتهما إلى قيام الساعة. وقد ذكرتُ في بداية حديثي عن القصة الدروسَ المستفادةَ منها، وأضيف عنصرا غاية في الأهمية، وهو تعليم التأويل ، وهو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه، وذلك بربط الأحداث بما تؤول إليه، وقد جاءت عبارة الخضر صريحة بذلك:
{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (الكهف، 78)
المثال الثاني: قصة داود عليه السلام مع الخصمين إذ تسورا المحراب
قال الله تعالى في سورة (ص) : {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ. إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ. قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ. فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} (ص،21_ 25)
الخصمان هما ملكان دخلا على داوود عليه السلام وهو في محرابه في الوقت الذي لم يتصور أن يقتحم عليه أحد المكان لشدة تحصينه، وهو ما يفسر شدة فزعه، وقوله تعالى {إذ تسورا المحراب} تعبير عن طبيعة الدخول عليه والإحاطة به، فقد كانا للمحراب كالسوار للمعصم، ولم يكن عليه السلام ليفزع من حدث يسير، ورغم طلبهما منه أن لا يخاف إلا أن حالة الخوف بقيت تلابسه، وقد استمع إلى المدعي، وقبل أن يستمع إلى الطرف الآخر أصدر الحكم وهو في حالة الخوف، فكانت النتيجة حكما جانب الصواب من كل ناحية.
قال المدعي أن أخاه طلب منه أن يتكفل (يتعهد بالرعاية) نعجته الوحيدة ويضمها إلى نعاجه التسعة والتسعين. وهو عرض لا يمكن رفضه. والأصل أن يقول له لقد أنصفك بالطلب لأنك تشغل نفسك برعاية نعجة واحدة، وقد أراد أخوك أن يتكفل نعجتك بالرعاية حتى تتفرغ لعملٍ آخر ينفعك، وذلك _بالطبع_ بعد أن يستمع لحجة الطرف الآخر، لكن داوود عليه السلام الذي كان تحت تأثير الفزع أصدر الحكم الخاطئ، فلما تذكر أدرك أن ذلك امتحان من الله تعالى له لذا استغفر ربه وخر راكعا وأناب.
والدرس المستفاد من الآيات أن لا يحكم القاضي دون الاستماع إلى الطرف الآخر، كما لا ينبغي أن يصدر الحكم وهو في حالة من الخوف أو الاضطراب. ومن ينظر إلى قوانين القضاء العالمية يجدها تراعي استقصاء الأدلة والاستماع إلى المتخاصمين بذات القدر، وأن يكون القاضي في أفضل حالته النفسية حين النظر والحكم في القضايا.
المثال الثالث: روى ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإيمان، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا، قَالَ: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ»، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»[4]
وهذه وسيلة تعليم متقدمة، فالمعلم (جبريل) يسأل المتلقي (النبي) كي يطمئنَّ لعلمه مَن يعلم (النبي وعلماء الصحابة) ولكي يتعلم مَن لا يعلم (من الصحابة، ومن يُروى لهم هذا الحديث)
فلم تقتصر وظيفة جبريل على تبليغ الرسالة، بل تعدى ذلك إلى تعليم الحكمة، التي هي أحكام الكتاب وأمثاله وعظاته، والمثال السابق برهان، وفي ذلك يقول الله تعالى {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء، 113) ومن كان يعلمه هو جبريل عليه السلام: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (النجم، 5)
المثال الرابع: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي يعني المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر” ثم التفت إلي فقال: “يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين”[5]
وهذا نموذج ورد في السنة يبين كيف كان جبريل يعلم النبي ما يحتاج إلى تطبيقٍ من أوامر القرآن الكريم، ومعلوم أن الله تعالى أمر بالصلاة وما تحويه من قيام وقعود وركوع وسجود وذكر، لكن تطبيق ذلك يحتاج إلى النموذج العملي، الذي أداه جبريل عليه السلام أمام النبي.
الخاتمة
الإيمان بالملائكة متلازم مع الإيمان بالله وكتبه ورسله، لأنهم أمناء الوحي حيث يبلغونه إلى الرسل من البشر ويعلمونهم الحكمة المركوزة فيه، ويعطون النموذج الحي في تطبيق الأحكام كما أسلفنا في الصلاة، وقد يبعث الله تعالى أحدهم ليقوم بتعليم نبيٍ دروسا خاصة كما حصل في قصة موسى مع الخضر، أو في مجيء جبريل الى النبي في محضر الصحابة يسأله عن الإيمان والإحسان. لذلك كله كان الإيمان بهم ركنا أصيلا لا يستقيم الإيمان مع إنكارهم أو إنكار واحد ممن نص الله تعالى عليهم في كتابه. ونختم بقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة، 98).
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه الحاكم في المستدرك 3226
[2] المعجم الكبير للطبراني، 12930
[3] صحيح ابن حبان، ذِكْرُ وَصْفِ حَالَ مُوسَى حِينَ لَقِيَ الْخَضِرَ بَعْدَ فَقْدِ الْحُوتِ، (6220)
[4] أخرجه مسلم (8) (1) ، وأبو داود (4695) ، والنسائي 8 / 97، وابن خزيمة (2504) ، وابن حبان (168) وأخرجه الطيالسي (21) ، والبخاري في ” خلق أفعال العباد ” (190)
[5] سنن أبي داود، باب الصلاة رقم الحديث: (393)؛ سنن الترمذي، المواقيت، (1).
السلام عليكم وجزاكم الله خيرا
حديث تعليم جبريل للنبي عليهما السلام ذكر فيه ان النبي سأل عن علامات الساعة فاجابه جبريل ان تلد الأمة ربتها وتطاول الرعاة بالبنيان وقد فهمت من مقال اخر في هذا الموقع ان الساعة تأتي بغتة ولاعلامات لها الا بعثة النبي ولذلك قال عليه الصلاة والسلام بعثت والساعة كهاتين ارجو منكم التفسير وكل الشكر لما تقدموه لنا خدمة للاسلام
وعليكم السلام ورحمة الله
الحديث الواحد قد يكون فيه الصحيح الموافق لكتاب الله تعالى وقد يكون فيه غير الصحيح المخالف لكتاب الله تعالى، فالشق الأول المتعلق بتعليم جبريل الصلاة لنبينا الكريم هو صحيح موافق للحكمة ويندرج تحت أصول القرآن المتعلقة بالصلاة، حيث يبين صورتها العملية المقررة نصا في القرآن الكريم، أما الشق المتعلق بعلامات الساعة فهو مخالف لمقررات القرآن الكريم التي تنص على أنها لا تأتي إلا بغتة، وأن علمها عند الله تعالى ولا يعلمها غيره.