الأديان الموازية والأمّيون
أ.د عبد العزيز بايندر
الدِّين الموازي، هو الدِّين الذي يتشكَّل في مقابل دين الله الحقّ فيزاحمُه مكانَه، ويظهر على يد من يستخدمون دين الله أداةً لمصالحهم. ونستطيع القول أنّ غالبيّة الهياكل والمؤسسات الدينيّة تشكّل الأرضية الصّلبة للدِّين الموازي، ويجري العمل في تلك الهياكل بإتقانٍ واحتراف شديدين بحيث إنّ كثيراً من الأشخاص يحسبونها تمثل العلم الحقيقي بدين الله تعالى. الدِّين الموازي يأخذ مكان الدين الحقيقي بسبب دعم الشرائح المنتفعة التي تتكاثر في البيئات المرَضِيَّة، وفي مثل تلك البيئات يُعتبر المتديّنون الحقيقيّون مرتدّين وزنادقة، ويطلق عليهم الحكم جزافاً.
الاستغلال الأكبر هو الاستغلال الديني؛ لأنّه وفقاً للآية التَّالية فكلّ شخصٍ يعتبرُ نفسَه متديّناً: {فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ[1] اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} (الأعراف 7/30) ولأن التّديُّنَ طبيعة بشريّة لذا فالمجال واسع جدا للاستغلال.
“الأولياء” جمع لكلمة “الوليّ” حيث تفيد القرب بالشكل الذي لا يدخل بين الشخص ووليه أحدٌ. والولاية تأتي بمعنى تولِّي عملٍ، كما تأتي بمعنى المساعدة[2]. نفهم _كمسلمين_ ما يريد الله منّا من خلال كتابه فقط. ولكن هؤلاء الشياطين المتألِّهين يضعون آراءهم موضع كتاب الله. وهذه الآية متعلّقة بهم: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ[3] وَخَتَمَ[4] عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ، أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية 23/45)
كلّ مسلمٍ يعرف بأنّ القرآن يجب أن يكون في المرتبة الأولى. الذي يضع القرآن في المرتبة الثانية عندما يتناقض مع مصالحه الشخصيّة فإن لم يعتبر ذلك جرما فحينئذٍ يكون قد قطع صلته بالله، ومن يقدمون على هذا العمل ويستخدمون الدِّين واعيين لخبث غرضهم فقد دخلوا بين الله وبين عباده، وذلك أكبر الذنوب وأشدها خطرا. وقد بيّنهم الله تعالى بقوله: {وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ[5] الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجًا أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} (إبراهيم 2-3/14). العوج: هو التشويه والتحريف الذي تُفهم حقيقته بتفكيرٍ عميقٍ[6]. وهذا (العوج) لا يستطيع فعله إلا من يعرف الدين جيّداً. فيَضِلُّ ويُضِلُّ غيرَه أيضاً. والآيات التالية تتحدث عمن يشتري بضاعة هؤلاء: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ. وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ( لقمان 31/ 6-7).
اجتماع النفعيِّين مع علماء الدِّين الذين يحبّون الحياة الدنيا على الآخرة يؤدّي إلى تشكّل الدِّين الموازي. والناس بسبب وقوعهم في أسر المنافع فإنّهم يهمّشون قائلي الحقائق. لذلك يقال في المثل التركي : “قائل الحقيقة يُطرد من تسع قرىً”. هذا الشخص الذي يعمل على إبطال الأفكار الخاطئة فإنّه سيكون مختاراً للقرية العاشرة إن تحلّى بالصبر. وبعد أن يدرك أهل القرى التسع أخطاءهم فسيتّبعون القرية العاشرة وستقتدي بهم القرى الأخرى.
في كثيرٍ من الآيات أمر الله تعالى بالاعتصام بكتابه وعدم الافتراق عنه. وفي هذا يقول تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} ( آل عمران 3/ 103) وفي الآية التالية يخبر الله تعالى أنّه لا يمكن أن تكون لنا علاقة بمن يفترق عن دينه ويعتصم بالجماعات والشِّيع: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون} (الأنعام 6/ 159)
وقد أدّى تغييب مفهوم الحكمة في القرآن الكريم إلى فراغ كبير ملأه علماء على غير هدى، وقد نتج عنه انقسام المسلمين إلى مذاهب متعدّدة. الحكمة هي الحكم الصحيح المستخرج من كتاب الله تعالى. وجميع قواعد وأساليب استخراجها مركوزة في القرآن الكريم، فلم يترك الله تعالى بيان تلك القواعد والأساليب لاجتهاد المجتهدين أو تأويل المتأولين. وقد علّم نبيّنا الحكمة لأصحابه وطبّقها طيلة حياته. والحلول الكامنة في القرآن الكريم يمكننا الوصول إليها عن طريقها فقط. لأنّه وفقاً لهاتين الآيتين فإنّ الله وحده صاحب الحقّ في تفصيل الكتاب: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} (هود11/ 1-2)
ولا يمكن الوصول إلى تفصيل الله تعالى إلّا عبر الأصول التي وضعها في كتابه. ووفقاً للآية السابقة فإنّ اللجوء إلى طريقةٍ أخرى يعني أنّ الشخص قد وضع نفسه مقام الله تعالى، وبالرغم من وضوح ما ذكرناه إلّا أنّه من الصعوبة البالغة إيجاد ترجمة أو تفسير لم يحرّف معاني الآيات السابقة. حيث لا يوجد مذهبٌ واحدٌ يقبل كون القرآن قد فصّله الله تعالى[7]، لذا تولّى العلماء تفسير القرآن الكريم، وجميع الكتب الدينيّة قد تشكّلت على هذا النحو، وعلى سبيل المثال فإنّ العديد من المفاهيم العقديّة قد تعرّضت للتضليل كمفهوم القدر، حيث ملئت كتب التفسير بأنّ امتحان الله تعالى للعباد ليس امتحاناً حقيقيّاً بل مجازيّا[8].
هناك موضوعات مثل الاسترقاق والجواري، وحقّ المرأة في الطلاق، وتزويج الصغار، والولاية في النكاح، وقتل المرتدّ، وغيرها من الموضوعات التي تمّ الاجتهاد فيها على خلاف تامٍّ مع القرآن الكريم. وقد تمّ تداول هذه الأخطاء وتقديمها للناس كأنّها علمٌ صحيحٌ[9]. والآراء المتعلّقة بالربا قد صيغت بحيثيّة تشرع الأبواب دونه، بينما تغلقها أمام التجارة[10]. وبالرغم من تربع المسلمين اليوم على أكبر خزائن العالم إلا أنهم لا يعرفون بأنّهم أغنياء، بل يبدون كالمتسوّلين الذين يستهزئ بهم حتى الفقراء، تلك هي نتيجة هجر القرآن والاشتغال بغيره.
ولأنّ الحكمة قد ضُيّعت فإنّه لم تُحلّ أيّ مشكلة، بل بالعكس تمّ إيجاد مشكلات جديدة، حتى بات المسلمون اليوم من أكثر شعوب الأرض إشكالا. العلوم الدينيّة التي تدرس في المؤسّسات التعليميّة والتي نقلت الأخطاء القادمة من الماضي على أنّها هي الدين الحقّ جعلت النّاس يقبلون الدِّين بوصفه الحالي بغير تمحيص، وربّما يشكّل ذلك عذراً لهم وفرصة للنجاة في الآخرة كما تبيّنه الآيات التالية: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ[11] لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ[12] وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا[13] فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة 2/ 78-79)
البعض يمكن أن ينجو بسبب جهله، وأمّا الذين أُظهرت لهم الآيات البيّنات التي تجلو جهلهم لكنّهم أصرّوا على المضيّ في طريقهم الخاطئ فإنّهم لن ينجوا من العقاب كما وضّحته هاتان الآيتان: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيم[14]يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا، فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الجاثية45/7-8) وهناك آيات أخرى كثيرة في هذا الباب.
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
[1] “من دون الله” دون: هو مرتبة أسفل من الله تعالى وأعلى من البشر، يعني يبيّن منزلة بين الله وبين الإنسان. (فيروز آبادي، ترجمة القاموس، المترجم عاصم، مطبعة البحريّة 1305).
[2] الراغب الأصفهاني، (ت 425 ه) المفردات، ( التحقيق صفوان عدنان داوودي ) كلمة ” عوج ” دمشق و بيروت، 1412/1992.
[3] لا يمكن عمل هذا الشيء إلّا بالعلم.
[4] تنشّط الأفكار المسبقة في مثل هذه الآيات، لذا يرى البعض أن الختم يفهم منه المعنى الحقيقي، والصحيح أنه تعبير بلاغي من قبيل “الاستعارة التمثيليّة” التي تشرح بالمجاز. وفي الاستعارة التمثيلية تختفي أداة التشبيه “كأنّه”، فيصير المعنى كأنه ختم على سمعه وقلبه. ومعلوم أن باب التوبة مفتوح حتى الموت، فلو كان الختم على الحقيقة لحُرم من فرصة التوبة، وهذا يتنافى مع التكليف.
[5] كلمة “شديد” في الآية تأتي بمعنى الربط الوثيق. وجائزة الله أو عقابه مرتبطان بأفعال عباده: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (الأنعام 6/160)
[6] مفردات الراغب الأصفهاني، مادّة ع-و-ج.
[7] يدعي العلماء أن القرآن مجمل غير مفصل بالرغم من وضوح قوله تعالى {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف 7/52)
[8] للتفاصيل المتعلقة بالموضوع انظر كتابنا “مفاهيم يجب أن تصحّح”.
[9] المعلومات الصحيحة في هذه المواضيع ستجدونها في مواقعنا وكتبنا المنشورة. موقعنا بالعربية: حبل الله
[10] موضوع الربا والتجارة ستجدونه مفصّلاً في كتابنا “التجارة والربا”.
[11] وقول “أمّيون” في الآية يأتي هنا بمعنى من لا يعرفون الكتاب
[12] قول ” لأمانيّ” في الآية بمعنى الخيالات. ويرى مجاهد بأنها بمعنى الكذب. وقيل بمعنى قراءة الكتاب بغير فهمٍ (المفردات)
[13] كلمة “قليلاً” في الآية تأتي بمعنى المؤقّت أيضاً ( أحمد بن فارس بن زكريّا، معجم مقاييس اللغة، بيروت، بغير التاريخ )
[14] معنى كلمة “الأثيم” من الاثم وهو الابطاء عن الخيرات ( المفردات )
نشكركم على تبيان الدين الحق وجزاكم الله عنا خيرا واحمد الله تعالى ان هداني لهذا الموقع واتمنى ان انجح في توصيل الدين الحق لكل من اعرف
واطال الله في عمركم .