الدُّعاء في القرآن الكريم
أنس عالم أوغلو
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيْمِ
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى لِلْمُتَّقِين. والصَّلاة والسَّلام على مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّين. وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّيْن.
أمَّا بعدُ ؛ فإنَّ سعادةَ الإنسان في الدَّارين متوقِّفةٌ على العملِ بموجب القُرآن، وهذا لا يكونُ دون فهم القرآن، فلا بُدَّ إذاً أنْ تكونَ قراءةُ القرآن للفهم، والفهمُ للائتمار بأوامره والانتهاء عن مناهيه والإعتبار بقصصه والإتعاظ بمواعظه. وأمَّا القُرآن فهو كتابٌ مُعجِزٌ عجيب من كلِّ ناحيةٍ لكونه كتابَ الله عزَّ وجل، فليس فيه أيَّةُ كلمةٍ دون فائدة، وكذلك لا يوجدُ فيه كلماتٌ مُترادِفاتٌ، لكن ورَدَ فيه بعضُ الكلمات المتقاربة في المعنى.
والعُلماءُ الذين لا يَتَمَعَّنُونَ في دلالات كلمات القرآن ظنُّواها مُترادفةً وفسروها بمعنى واحد، فتبعهم في ذلك المُقلِّدون من طلَّابهم ومتعصبيهم فاعتبروا ظنونهم “علماً”! وأمَّا عوامُّ النَّاس فزعموها “علم اليقين” ولم يقبلوا غيرها ولو كان “حق اليقين”، وهكذا اتخذوا القرآن مهجورا. ولعل هذا هو الذي أوصلَ حالَهم إلى ما هو عليه اليوم.
إنَّ تبيان الحقائق والتنبيه إلى الأخطاء هي وظيفةُ المُسلمين العالِمين [1]، والعلماء الربانيون قاموا بها في كلِّ زمانٍ ومكان[2]، ولا يزال المعاصرون منهم يقومون بها. واليوم “وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة”[3] أصبح مثالا يُحتذى في هذا الأمر، فهو برئاسة الأستاذ عبد العزيز بايندر يجتهدُ منذ سنوات في سبيل إنارة طريق المُسلمين في العالم حسب طاقته.
وأنا كباحثٍ عاملٍ في الوقف أجتهد في فهم القرآن تحت ضوئه مع زملائي الباحثين فيه أحيانا بالمطالعة فرادى، وأحيانا بالمذاكرة جماعيا.
وكنت لم أبحث في معنى كلمة الدعاء ومشتقاتها إلى الآن ولم أكتب شيئا فيها ، بالرغم من بحثي في الشرك وأنواعه ومظاهره في المسلمين وكتبت تحت عناوين مختلفة ونشرتها في موقعنا الأويغوري. ولكني كان عدم كتابتي في هذه المسألة يزعجني دائما. لأن مظاهر الشرك في المسلمين، خصوصا منهم في الأتراك والأويغوريين كانت تقع باسم الدعاء.
ولأجل هذا بدأت البحث فيها. وخلال البحث حاولت أن أكشفَ عن مفهوم الدُّعاء ومُشتقَّاته وتبيان الفرق بينه وبين مفهوم العبادة، ونظرت إلى أقوال بعض المُفسِّرين الذين علَّقوا على الآيات القرآنيَّة الآمرة بدعاء الله وحده، وعلى الآيات الناهية عن دعاء أحد من دون الله، فوجدتُ فيها خللاً يحتاجُ إلى تصويبٍ، وهذا ما قادني إلى كتابتي هذا البحث القصير راجيا من الله تعالى التوفيق والسداد.
1- حاجة الإنسان إلى الاستعانة وكونها مباحة له ما دامت معقولة
إنَّ الإنسانَ مخلوقٌ ضعيفٌ[4] مع أنَّ اللهَ تعالى خَلَقَه في أحسنِ تقويمٍ[5]، وكرَّمَه وفَضَّلَه على كثيرٍ من المخلوقات الأُخرى[6]. وهو مُعرَّضٌ للمصائب التي ستصيبه أحيانا ابتلاءً من الله تعالى[7] وأحيانا عقوبة[8] منه، مع أن الله تعالى أغدق عليه نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً[9].
ومع ذلك كله إنَّه مجبولٌ بفطرته على حُبِّ الحظوظ الدُّنيويَّة والسَّعادة الأبديَّة[10]. فهو يجتهدُ ليل نهار وصباح مساء ابتغاءَ نيلها كثيرة؛ وكذلك يجتهد ابتغاء الحماية والتخلص من تلك المصائب [11]. وقد يحتاجُ إلى عون غيره في سعيه لتحقيق مراده حينما يشعرُ بالعجزِ عن مواجهة مشكلةٍ ما، وهذا أمر طبعي لا يُنافي الفطرةَ والشَّرعَ [12]، ما دام المستعان مستطيعا على الإعانة. بل ديننا الحنيف يحضُّ النَّاسَ على التَّعاون بينهم ويرغب فيه، حتى إنه يأمر به[13]. وعلى هذا فمن استعان في تحصيل مراده عند عجزه من شخص حي قادر على الإعانة عليه فقد فعل شيئا معقولا ومشروعا.
2- انحراف البعض في الاستعانة وسببه
ومن الناس من يستعين ويستمد من دون الله بأرواح الأولياء والشيوخ، خصوصا الصوفيون السنيون حيث يستعينون بأرواح شيوخهم ومشائخهم والطوائف الشيعية بأرواح أئمتهم وأكابرهم، يستعينون بهم في الأمور التي لا يقدر الإعانة فيها إلا الله. ومع ذلك يحسبون أنهم مسلمون متَّقون. والحال أنهم يكونون بفعلهم هذا مشركين وكافرين[14]. لأنهم كانوا معتقدين أن الأموات تراقب أحوالهم وتسمع أقوالهم وتستطيع إعانة المستعينين بهم حيثما كانوا وبِأَيِّ لغة نادوا. وهذه صفات الله الخاصة له[15].
ويستدلون على كون فعلهم هذا صحيحا بتعليقات بعض المفسرين للآيات الآمرة بدعاء الله وحده والآيات النَّاهية عن دعاء أحد من دونه سبحانه. لا سيما بتفسيرهم كلمة الدعاء ومشتقاتها بكلمة العبادة ومشتقاتها. والحال أن هاتين الكلمتين مصطلحان مختلفان في القرآن الكريم، وأفاد كل منهما معنى مستقلا عن الآخر ولذلك قال تعالى: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ” (الفاتحة 5).
وأصل الأمر كالتالي: الدعاء نوع من العبادة حتى إنه أهم أنواعها[16] ولكن ليس هو كل العبادة[17]. وللتقارب بين الكلمتين في المعنى فسَّر كثير من المفسِّرين كلمة الدعاء ومشتقاتها بمعنى كلمة العبادة ومشتقاتها[18]. فزعم عوامُّ المسلمين الذين لا يفهمون من العبادة إلا الصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر العبادات البدنية والمالية أن الإستعانة بالأنبياء والأولياء وبشيوخ الطرق الصوفية ومقابرهم وأضرحتهم لا تُعَدُّ دعاء أحد من دون الله، فاستعانوا بهم من دون الله وتخلصوا من وصف “مشركين” بفضل هؤلاء المفسرين. كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
3- معاني الدُّعاء في القرآن الكريم
وردت كلمةُ الدُّعاء ومشتقاتُها في القرآن الكريم في نحو 90 موضعاً، ودلَّتْ على معانٍ، وهي ما يلي:
أ. النِّداء
قال الله تعالى:
” لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (النُّور 63:24).
“إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ” (النمل 80:27).
ب. الاستعانة والاستغاثة
قال تعالى:
“وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ” (غافر 60:40).
“قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا” (الفرقان 77:25).
“قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ” (الأنعام 71:6).
“قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ” (الأنعام 40:6-41).
“وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا” (الإسراء 67:17).
“يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ، ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ” (الحج 12:22).
ج. النسبة
قالى تعالى:
“ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ، فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا” (الأحزاب 5:33).
د. الدَّعوة
قال تعالى:
“ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” (النَّحل 125:16).
“وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ” (فُصِّلت 33:41).
هـ. السؤال
قال تعالى:
“قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ” (البقرة 69:2).
و. الحثُّ على شيءٍ والترغيب فيه
قال تعالى:
“أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ، وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” (البقرة 221:2).
“وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” (يونس 25:10).
“قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ” (يوسف 33:13).
“وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ” (غافر 41:40).
4- التفسير الخاطئ لمعنى الدُّعاء الذي هو بمعنى الإستعانة
وأكثر المفسرين يترك المعاني المذكورة للدُّعاء كلها كما هي ولا يتعرضون لها بأدنى تعرض، لكنهم يستيقظون وينتبهون ويفتحون عيونهم حينما يأتون إلى كلمة الدعاء بمعنى الإستعانة فيفسرونه بـ”العبادة” أو يفسرون كلمتي “الذين ومَنْ” بـ”الأصنام أو الجمادات” الواردتين في الجملة مفعولين للدعاء. مع أنَّ الأداتين تُستخدمان أصلاً للإشارة إلى العاقل!
فمثلاً؛ عند تفسير الآية الخامسة من سورة الأحقاف فسَّرَ أكثرُ المُفسِّرين فعل “يدعو” بـ “يعبد”، وكلمة “مَنْ” بـ “الأصنام”. ومن أولئك المُفسرين :
مقاتل بن سليمان (ت 150)، الفراء (ت 207) الطبري (ت 310)، الماتريدي (ت 333)، السمرقندي (ت 373)، ابن أبي زمنين (ت 399)، الثعلبي (ت 427)، مكي (ت 437)، القشيري (ت 465)، السمعاني (ت 489)، البغوي (ت 518)، ابن عطية (512 ت)، ابن الجوزي (ت 597)، الفخر الرازي (ت 606)، القرطبي (ت 671)، البيضاوي (ت 685)، النسفي (ت 710)، الخازن (ت 741)، أبو حيان (ت 745)، ابن كثير (ت 774)، الجلالين (ت 911)، الشربيني (ت 977)، أبو السعود (ت 982)، الشوكاني (ت 1250).
وهم يقترفون ستَّة أخطاء في تفسيرهم هذا، كما يلي:
1 – تفسير “يدعو” بـ”يعبد”.
2 – تفسير “مَنْ” بغير العاقل.
3 – تفسير “هم” بــ”هي” أو بــ”هنَّ”
4 – تفسير “غافلون” بــ”غافلة” أو بــ”غافلات”.
5 – تفسير “كانوا” بــ”كانت” أو بــ”كنَّ”.
6 – تفسير “كافرين” بــ”كافرة” أو بــ”كافرات”.
وهم يقعون في نفس الخطأ في تفسير الآية الثالثة عشرة والآية الرابعة عشرة من سورة فاطر.
ونرى هذا التحريف كما هو في أغلبية تراجم القرآن الكريم إلى لغات غير العربية. وبعضها ما يلي:
ترجمة رئاسة الشؤون الدينية التركي، ترجمة وقف الديانة التركي، ترجمة عمر نصوحي بلمن، ترجمة سليمان آتش، ترجمة محمد صالح إلى الأويغورية وترجمة جديد للقرآن لهيئة أويغورية إلى الأويغورية…
5- استمرار الخطأ
ومعلوم لكل أحد أن اقتراف الخطأ شر واستمراره أشر في الأمور الدنيوية، ولذلك ينتبهون لكيلا يخطؤا ولا يستمروا فيه. ولكن حينما يكون الأمر أمر الدين فإنهم يغضُّون النظرَ عن نصوص الآيات، ويؤثرون تقليد الأجداد، ويحسبون العادات أنها عبادات، ويرون نقل آراء الآباء استدلالا، واتباعهم بدون تفكر تدينا. ولذلك يمسكون بكتبهم ويعتصمون بمذاهبهم.
وبهذا الطريق استمر تفسير الدعاء (الذي بمعنى الإستعانة) بالعبادة عبر التاريخ، كما ذكر سابقا من مقاتل بن سليمان المتوفى سنة 150 هجرية إلى الشوكاني المتوفى سنة 1250 هجرية. وتفاقم الأمر في العالم الإسلامي بنقل المترجمين تلك الأخطاء المذكورة في تفاسير هؤلاء المفسرين كما هي في تراجمهم التي كتبوها مُدَّعِيْنَ أنهم ترجموا القرآن، وبكتابة من لا يعلم اللغة العربية فضلا عمَّا في كتب التفاسير ترجمة للقرآن باسمه، حيث يضع أمامه عدة ترجمات للقرآن بلغته ويبدأ يكتب كأنه يترجم القرآن، ولكنه في الأصل يُبَدِّلُ أمكنة الجمل ويُغَيِّرُ مواضع الكلمات فيخرج بترجمة جديدة للقرآن باسمه. وهكذا كثرت التراجم واستمرت الأخطاء التي في التفاسير المذكورة.
وصلَ الحالُ ببعض المُسلمين إلى عدم قبول ترجمة كلمة “الدُّعاء” بمعناها الأصلي القائم على طلب العون، وراحوا يدَّعون بأنَّ المعنى الأصليَّ هو المُزيَّف وبأنَّ ما ذكرته كتبُ التفاسير هو الحقيقةُ!
مثلاً، حين ترجمَ المُفسِّرُ التركيُّ محمَّد حمدي يازر الآية الخامسةَ من سورة الدُّخان في القرن الماضي، كانت الترجمةُ دقيقةً لكلِّ كلمةٍ من الآية، لكنَّ أحدَهم حين حاولَ تبسيطَ معاني كلمات الآية كما ذكرها يازر قام بتحريفها!
ترجمة المُفسِّر حمدي يازر الأصليَّة للآية الخامسة من سورة الأحقاف:
“ومَنْ أضلُّ ممَّن يدعو مَنْ لا يستطيعون إجابتَه إلى يوم القيامة تاركاً الله؟ والحال أنَّ هؤلاء الذين يدعوهم غافلون عن دعاء الدَّاعين”
الترجمة المُحرَّفة:
“ومَنْ أضلُّ ممَّن يدعو أصناماً لا تستطيع إجابتَه تاركاً الله؟ والحال أنَّ الأشياء التي عبدوها ليست عالمةً بتضرُّعاتهم”.
6- نتائج التحريف
إنَّ طلب العون من أحد من دون الله شركٌ، سواء كان نبيا مرسلا أو ملكا مقربا. نقصدُ أنَّ التوجُّهَ إلى الشُّيوخ والأولياء والمقابر لطلب الرزق والشِّفاء والهداية والشَّفاعة وغيرها من الأمور التي لا يقدرُ على فعلها غيرُ الله شركٌ بالله، ومَنْ يقوم بذلك مشركٌ.
قال الله تعالى:
“وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ” (يونس 106:10)[19].
أغلبية المسلمين اليوم يشركون بالله بدعاء أحد من دونه سبحانه، ويتخلَّصُون من التسمية بــ”المشركين” بسبب التفاسير وتراجم القرآن التي ذكرناها سابقا.
فمثلاً من المسلمين مَنْ يقولُ لغيره عندما يُوَدِّعُه: “فوَّضتُكَ إلى شيخي، أعانَكَ الأولياءُ” أو يقولُ عندما يقوم ويجلس، أو يصعدُ وينزل، أو ينامُ ويستيقظ: “حمايتَك يا شيخي، مَدَدْ يا جيلاني، خُذْ بيدي يا سُلطاني أيُّوب، أدركني يا وليي، أغثْني يا غوث، دخيلَك يا رسولَ الله”.
ومنهم مَنْ يَنذُرُ نَذْراً إلى مقابر الأولياء الأموات وأضرحتهم، أو يذهبُ إليها ويذبح قرباناً لهم ويرجو منهم حصول مراده أو النجاةَ مما يخيفه. مثلا في اسطنبول يذهب الناس خصوصا في رمضان إلى قبر أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه “أيوب سلطان” وإلى ضريح مشهور بـ”ظهورات بابا”. ويذهب الناس أيضا إلى أضرحة أخرى في ولايات أخرى، فيستمدون منهم ويستشفعونهم ويتوسلون بهم، حتى أن النساء يرقصن بتحريك بطونهن رقصا يسمى عندهن “رقص بطن” حول بعض الأضرحة، قائلات: “خذ مني بطنا واحدا وأعط لي طفلا واحدا”.
ومنهم مَنْ يعتقد أنَّ أرواح الأولياء العظام والمشايخ الكرام يتوسَّطون بينه وبين الله تعالى فيطلبُ منهم وَلَدَاً أو جلبَ منفعةٍ أو دفعَ مضرَّةٍ أو غيرَ ذلك. ويعتقد أنَّ الأولياءَ يحفظون البلادَ من الزلازل والخَسف والغَرَق والحرق وغيرها من الكوارث الطبيعيَّة، فيستصغرُ نفسَه أمام عظمتهم الرُّوحية ويستكينُ لهم ويتضرَّع إليهم ويستمدُّ منهم قوَّتَه ويقول: “أقطابي وأبدالي الأربعون أدركونا، بلادنا أمانة لكم، احفظوها”!
الخُلاصة :
إنَّ المُسلمين هجروا كتابَ الله إلى التفاسير والكتب البشريَّة الأُخرى، فأصبحوا يظنُّون أنَّ ما كتبه الأقدمون هو ما أُوحيَ إلى رسول الله، وغرقوا بسبب ذلك في الشِّرك الذي لا يُغتَفَرُ وساء حالُهم بسبب فساد الاعتقاد، لذلك فقد حُرموا من وعود الله لهم، وضاقتْ عليهم الأرضُ بما رحبت، وامتلأتْ بلدانُهم بالحروب والجوع والفقر والجهل، وفقدوا العزَّةَ التي امتلكها أصحابُ رسول الله الذين تمسَّكوا بالقرآن الكريم.
لقد أصبحَ حالُ المُسلمين في العالَم اليوم، بل منذ أزمنة طويلة كمريضٍ لا يلتفتُ لتوصيات الطَّبيب ويتناول ما شاء من أدويةٍ يظنُّ فيها علاجَه.
ولله درُّ القائل:
وَمِنَ الْعَجَائِبِ وَالْعَجَائِبُ جَمَّةٌ … قُرْبُ الشِّفَاءِ وَمَا إِلَيْهِ وُصُولُ
كَالْعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظما … والماء فوق ظهورها محمولُ[20].
والله ولي التوفيق وهو المستعان
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
أنس عالم أوغلو
[1]– “مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ” المائدة (99:5)، النور (45:24)، العنكبوت (18:29). “مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ” آل عمران (79:3). تدل هذه الآيات على أنَّ وظيفة الرَّسول هي تبليغ الكتاب الذي أنزل عليه، ووظيفة المسلمين هي إدامة التبليغ بتعلم ذلك الكتاب وتعليمه. ولهذا قال علي السلام: “بلِّغوا عنِّي ولو آية”. (صحيح البخاري، الأنبياء 50؛ سنن الترمذي، العلم 13، 2669؛ سنن الدارمي، العلم 559؛ مسند أحمد 2/25، 488، 583).
[2] – هذا واقع يدل عليه وجود المسلمين في أنحاء العالم.
[3] – أسَّس وقفَ السُّليمانية بعضُ النَّاشطين الأتراك برئاسة الأستاذ عبد العزيز بايندر سنة 1993 في مدينة إسطنبول. وهو يجتهدُ في إيضاح العلاقة بين الدِّين والفطرة، ويتَّخذُ القرآنَ الكريمَ مصباحاً في أبحاثه. ولقد بدأتُ العمل فيه سنة 2002.
[4] – النِّساء 28:4.
[5] – التِّين 4:95.
[6] – الإسراء (70:17)
[7] – البقرة 155:2.
[8] – النَّحل 112:16؛ الشورى 30.
[9] – البقرة (29:2) ؛ إبراهيم (32:14-34) ؛ النَّحل (12:16-14) ؛ الحج (36:22-37) ؛ العنكبوت (61:29) ؛ لقمان (20:31-29)، فاطر (13:35)، الجاثية (12:35-14)
[10] – آل عمران 14؛ طه 120؛ العاديات 8.
[11] – الانشقاق 6؛ البلد 4.
[12] – “قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا” (الكهف:18/95)؛ ” وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ” (القصص 15:28). ومعنى الآيتين يدل على جواز التعاون بين الناس.
[13] – “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى” (المائدة 2:5). “مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ” الحديث. مسلم، صحيح، كتاب الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، 11 – بَابُ فَضْلِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَعَلَى الذِّكْرِ، 38 – (2699)؛ أبو داود، سنن، الأدب، 4946؛ الترمذي، سنن، الحدود 1425، أبواب البر والصلة 1930، أَبْوَابُ الْقِرَاءَاتِ 2945؛ ابن ماجە، سنن، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، 17/ 225.
[14] – انظر: يونس 10/106؛ المؤمنون 23/117؛ فاطر 35/13-15؛ الأخقاف 46/4-6.
[15] – انظر: الحشر 22-24؛ الأعراف 7/180؛ الإسرا 17/110؛ طه 20/8؛ مريم 19/93؛ آل عمران 26-27؛ الأعراف 7/54؛ الإسرا 19/111؛ طه 20/114؛ المؤمنون 23/116؛ الفرقان 25/2؛ العنكبوت 29/19.
[16]– {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} غافر 40/60. ومعنى العبادة لله الخضوع له على وجْه التعظيم (معجم عربي عربي). وتسمية ترك دعاء الله استكبارا عن عبادة الله تدل على أن الدعاء أهم أنواعها.
[17]– أنواع العبادة كثيرة، مثل الصلاة والصوم والحج والزكاة…
[18]– سيذكر هذه المسألة فيما بعد.
[19]وانظر أيضاً : المؤمنون (117:23) ؛ الشُّعراء (213:26)؛ القصص(88:28) ؛ الجن (18:72-20) ؛ فاطر (13:35) ؛ الأحقاف (5:46-6).
[20] – ابن قيم الجوزية (691 -751هـ، 1292- 1350م). زاد المعاد في هدي خير العباد 4/93
بارك الله فيك وجزاك الله خيرا وحفظك الله تعالى من كل الشرور والفتن
دمتم متصفين بصفات المؤمن الحق
جزاك الله خيرا وأتمنى من الله تعالى أن تنتشر هذه التوضيحات ليعود المسلمون الى دينهم الحق
السؤال: من هم المعتزلة ؟
المعتزلة أول مدرسة عقلانية عند المسلمين، يقوم منهجهم على تغليب العقل على النقل، ويعتبر واصل بن عطاء أول من نظر لهذه المدرسة
وقد قام منهج الاعتزال على خمسة أصول اتفقوا عليها على الرغم من الانشقاقات التي تعرّض لها هذا التيار العقلاني، حتى أصبح فِرقاً مُتعدّدة نسبت كل واحدة منها إلى مؤسّسها. وأشهر أعلامهم: الكندي، أبو علي الجُبائي وابنه إبراهيم، بشر بن معتمر، القاضي عبد الجبار، الزمخشري، العلّاف، النظّام، الجاحِظ.
أما الأصول الخمسة لمذهبهم فهي:
التوحيد: إثبات وحدانية الله ونفي المِثل عنه، وتنزيهه عن الجسمية والجوهرية والعرضية.
العدل: يعنون به قياس أحكام الله على ما يقتضيه العقل والحكمة، وأن الإنسان حرّ في أفعاله. وبناء على ذلك نفوا أموراً وأوجبوا أموراً. فنفوا أن يكون الله خالقاً لأفعال عباده وقالوا إن العباد هم الخالقون لأفعالهم بأنفسهم إن خيراً وإن شراً. وذلك خلافاً للجبرية الذين يعتقدون أن الأفعال من خلق الله والإنسان مجبور عليها. والجبر هنا ينطوي من قِبَل القائلين به على بُعدٍ اجتماعي وسياسي لكونه نوعاً من الدعوة إلى السكوت على الحاكم الظالم بحجّة أن جوره مكتوب عليه، وأن ليس في اليد حيلة أمام ما يقدّره الله تعالى.
المنزلة بين المنزلتين: وهم يرون أن الفاسِق في الدنيا لا يُسمّى كافراً ولا يُسمّى مؤمناً بوجهٍ من الوجوه، بل هو في منزلةٍ بين هاتين المنزلتين، فإن تابَ رجع إلى إيمانه وإن مات مُصرّاً على فسقه كان من المُخلّدين في النار.
الوعد والوعيد: المقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر، وأن الله لا يقبل لهم شفاعة ولا يُخرج أحداً منهم من النار. على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعةٍ وتوبةٍ استحقّ الثواب والعوض. وإذا خرج على غير توبة عن كبيرةٍ ارتكبها استحق الخلود في النار لكن عِقابه يكون أخفّ من عِقاب الكفّار. وسمّوا هذا النمط وعداً ووعيداً.
الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر: هذا الأصل يوضّح موقف المُعتزِلة من أصحاب الكبائر سواء كانوا حُكّاماً أو محكومين. وقد أوجبوا الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف كيف قدروا على ذلك. فهم يرون قتال أئمة الجور لمجرّد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك وغَلَبة الظن بحصول الغَلَبة وإزالة المُنكر.
أيّدّ المُعتزِلة بني العباس لمّا آلت الخلافة إليهم بعد بني أميّة. وعلا شأنهم في عهد المأمون حين أخذت مسألة خلق القرآن طابعاً سياسياً، فقد أوعز إثنان من شيوخ المُعتزِلة إلى الخليفةِ المأمون بأن يجعلَ القول بخلق القرآن عقيدةً رسميةَ للدولة، وأن يتتبّع كل مُعارِض لها بالقتل والحبس والجلْد وقطع الأرزاق.
وقد اتّبع المأمون هذا السبيل في ما عُرِف بمحنة خلق القرآن.
وكان أبرز مَن تعرّض للاضطهاد والحبس لرفضه هذه المقولة هو الإمام أحمد بن حنبل. واستمرت هذه المحنة في أيام المعتصم والواثق، ثم انقلب عليهم المتوكّل ووضعَ حداً لنفوذهم.
ومنذ ذلك الحين أخذ تيارهم الفكري ينحسر حتى كاد يتلاشى، إلى أن عاد للظهور على نحوٍ متواضعٍ في العصرِ الحديث. ومن أشهر المُفكّرين الذين يمكن القول بأنهم تأثّروا إلى هذا الحد أو ذاك بفكر المُعتزِلة القدماء: رفاعة الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، محمّد عبده، محمّد رشيد رضا، عبد الرحمن الكواكبي، أحمد أمين وغيرهم.
المصدر: صالح الأشمر (بتصرف طفيف)
موقع الميادين نت