السؤال: هناك من يشكُّ في مكان البيت الحرام و أنه ليس في مكة بل في مكان آخر .. و قد انتشرت هذه المواضيع بكثرة في الإنترنت تحت عنوان البحث عن الكعبة الحقيقية.. أعلم أن طرح هذا السؤال هو نوع من الخبل لكنّه الشكّ .. هناك آية في كتاب الله تقول .. إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة.. هذا البيت ما دام وضع للناس فواضعه غير الناس أي الله سبحانه و تعالى .. لكن .. جملة “إن أول” .. ألا تدل على أنه هنالك بيوت أخرى وضعت للناس من قبل الله. و إن كانت كذلك ..هل أول تفيد الاستمرارية؟
الجواب: الكعبة هي القبلة الأولى وأول بيت بني في الأرض لعبادة الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (آل عمران، 96) بكّة أصلها من “التباك” سمّيت مكّة بهذا الاسم للازدحام المفرط الذي في الطواف من حيث كان الناس يدفع بعضهم بعضاً[1]. وقد أطلق القرآن على مكة مصطلح أم القرى لأنها المكان الذي انطلقت منه البشرية. قال الله تعالى مخاطبا خاتم أنبيائه: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى، 7) وما حول أمّ القرى هي مدن العالم كلِّه، فهي للعالم كالقلب من الجسد، حتى إن موقعها الجغرافي الذي يتوسط المعمورة يساعد على فهم لماذا كانت مكة أم القرى.
أول من بنى الكعبة هو آدم عليه السلام. وبقيت قائمة إلى أن هُدمت في طوفان نوح[2] . ولما جاء إبراهيم عليه السلام إلى مكة بأمر من الله تعالى وجد أُسُسَها وأقام البناء من جديد. وفي ذلك يقول تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة، 127-128) حينما كان إبراهيم عليه السلام يبني الكعبة كان المكان ما زال خاليا من السكان منذ طوفان نوح عليه السلام. نفهم هذا من دعاء إبراهيم: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم، 37)
حينما أرى الله تعالى إبراهيم مناسك العبادة أمره بما يلي : {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِير} (الحج، 27-28) في الآية حرف التعريف “ال” الذي في بداية كلمة “بالحج” دليلٌ على أنّه كان معروفاً من قبل. كما أن عدم ذكر زمن الحجّ يدلّ على أنه كان معروفاً أيضاً. ولذلك قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (البقرة ، 197)
ولم ينس خليل الله إبراهيم أن يدعو لساكني المكان أن يبعث الله فيهم رسولا منهم: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة، 129)
وقد استجاب الله لدعاء إبراهيم ببعثه خاتم النبيين منهم في المكان عينه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الجمعة، 2)
وبعد أن ذكر سبحانه أن أول بيت وضع للناس للذي ببكة أمر في الآية التي تليها بحجِّ البيت بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران، 97)
وقد استجاب النبي والمؤمنون فحجُّوا البيت كما أمرهم ربهم، وأتَوا بالمناسك كما أتى بها إبراهيم من قبل. وتتابع المسلمون على حجِّ البيت إلى يومنا هذا وسيبقى البيت عامرا بالحجيج ما دام هناك مسلمون يأتون إليه من كل فج عميق.
فالكعبة هي البيت الأول التي أُمرنا بالحجِّ إليه والتوجه إليها في صلاتنا. وكل مسجد بني لعبادة يطلق عليه بيت الله كذلك، فإيراد الآية صيغة {أول بيت} لا يعني أن هناك قبله أخرى أو محجَّا آخر، بل تفيد أن هناك بيوتا كثيرة ستقام على هذه الأرض ويُعبد فيها الله تعالى كما قال:
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة، 18)
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج، 40).
أضف تعليقا