آدم وحواء
أ.د عبد العزيز بايندر
خلقت الأرض في يومين[1]، وقد أودع الله تعالى فيها مقادير الأرزاق في يومين آخرين فكان المجموع أربعة، وقد تمَّ خلق السماوات في يومين كذلك، فصار مجموع المدة ستة أيام[2]، وقد أودع الله تعالى في الأرض ما يجعلها صالحة لحياة الإنسان عليها، يقول الله تعالى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة، 2/29)
وقد جُعلت الأرض للناس فراشا، وهو كناية عن إمكانية العيش فيها؛ فلا هي صلبة نكدة ولا هي سائلة مائعة: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة، 2/22)
من مظاهر تكريم الله تعالى لآدم وبنيه أن اختارهم ليكونوا من ساكني الأرض: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء، 17/70)
المكان الذي سيعيش فيه الإنسانُ مليءٌ بالأدلة والبراهين على وحدانية الله تعالى وقدرته وإبداعه في الخلق: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة، 2/164)
الإنسان الأول هو آدم عليه السلام، لذا فهو الأب الأول للبشرية، كما أن زوجته حواء الأمُّ الأولى لها. قال الله تعالى:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات، 49/13)
التراب كان الأب والأم لآدم وحواء
ذُكر في ست آيات أنَّ الإنسان قد خُلق من التراب[3]. وكان التراب بمثابة رحم الأم لآدم وحواء، ورحم الأم هو المكان الذي ينقلب فيه الحيوان المنوي والبويضة إلى نطفة حيث تتطور إلى أن تصبح جنينا قابلا للحياة على هذه الأرض. فالمواد الرئيسة التي تشكلت منها نطفة آدم وحواء هي خلاصة منتقاة من التراب. يقول الله تعالى:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ (آدم) مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (المؤمنون، 23/12_13)
القرار؛ هو المكان الذي يمكن البقاء فيه بشكل مريح[4]، ومكين؛ وصفٌ للمكان الآمن ذي القيمة، وهذا هو رحم الأم بالنسبة إلينا، وبالنسبة لآدم وحواء فإن التراب كان قد أدى دور رحم الأم.
يقال عن اللؤلؤة التي تشبه قطرة الماء نُطَفة بفتح الطاء[5]. والنُّطَفة بفتح الطاء والنُّطْفة بسكونها تتشكلان من نفس الحروف إلا أنَّ النُّطق بهما مختلفٌ نظرا للاختلاف بين فتح الطاء وسكونها.
الصورة الأولى من اليمين قطرة ماء، والثانية والثالثة لؤلؤة، والرابعة بويضة ملقحة حديثا
وبحسب الآية فإنَّ البويضة الملقَّحة تشبه اللؤلؤ النَّقيَّ. قال الله تعالى:
{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (الإنسان، 76/1_2)
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون، 23/14)
تربة آدم تكونت في مدة زمنية طويلة، والمعلومات التفصيلية نأخذها من هذه الآيات: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (الحجر، 15/26)
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} (الرحمن، 55/14)
الصور من اليمين إلى اليسار: طين جاف، أواني فخارية، رحم الأم
وقد خُلق آدم وحواء كما تُخلق كلُّ واحدة من النباتات. يشير إلى هذا قوله تعالى:
{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} ( نوح، 71/17)
الصور من اليمين إلى اليسار: بطاطا، بصل، تفاح الأرض
يمكننا تشبيه رحم الأم بالحقل الذي تُزرع فيه البذور، يشير إلى هذا التشبيه قولُه تعالى:
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} (البقرة، 2/223)
آدم وحواء لم يعيشا طفولتهما
لم يخرج آدم وحواء إلى هذه الحياة أطفالا، بل خرجوا إليها وقد اكتملت خِلقتُهم على هيئة رجل وامرأة. ومن يُمعن النَّظر في الآيات التَّالية يفهمُ هذا جيدا:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر، 15/28-29) وقوله تعالى {سَوَّيْتُهُ} يشير إلى اكتمال خلقه على هيئة رجل، حيث إن استواء الشيء بلوغه غاية النُّضج، ومثل هذا التعبير ورد في قوله تعالى: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} (الفتح، 48/29)
إن تعلُّم آدم الأسماء كلَّها يدلُّ على اكتمال عقله الذي يقتضي بالضَّرورة اكتمال خِلقته: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة، 2/ 31-33)
والآية التالية من الآيات التي تبيِّن أنَّ آدم عليه السلام قد خرج من التُّراب مكتمل الخلقة:
{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف، 7/29) أي تعودن يوم البعث بالخلقة التامة كما ابتدأ الخلق بكم، وقد كان البدء بآدم وحواء.
وبما أن رجوعنا يوم القيامة إلى الحياة من جديد يشبه مجيء آدم وحواء إلى الدنيا فلا بد من التفكير مليِّا بالآيات المتعلِّقة بإعادة الخلق. يقول الله تعالى:
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ. قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا، هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ. إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ. فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (يس، 36/51-54)
إن روحَ الإنسان تحفظ المعلومات وهي كنظام التَّشغيل بالنِّسبة للكومبيوتر، فالجسد يموت لكنَّ الروحَ لا تموت، وتستمرُّ بحفظ المعلومات، فعندما يُخلق البدنُ من جديد وتعود الرُّوح إليه تعود المعلومات للعمل، ولمَّا لم يكن لآدم وحواء حياةٌ سابقةٌ لمجيئهما إلى الدنيا فلم يكن هناك معلومات قد حُمِّلت للروح من قبل.
آدم خُلق أولا ثمَّ حواء ثانيا
يقول الله تعالى: {خَلَقَكُمْ (آدم) مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الزمر، 39/6)
الحرف (ثُمَّ) يفيد العطف مع التراخي غالبا، وهذا يعني أنَّ حواء خُلقت بعد آدم بمدة زمنية ليست بالقصيرة، لذلك لم يسجد الملائكة لحواء عندما أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم لأنَّها لم تكن قد خُلقت بعد.
مغايرة ذريَّة آدم
يمكن فهم الفرق في الخلق بين (آدم وحواء) وبين (ذريَّتهما) من خلال الآيات التالية:
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (السجدة، 32/7-8)
{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (المؤمنون، 23/13)
نفهم من الآيات أنَّ آدم وحواء قد خُلقا من التراب، بينما ذريتهما قد خُلقوا من ماء مهين (منيِّ الرَّجل). هذا المنيُّ كالبذرة ينطلق إلى رحم المرأة فيتَّحد مع بويضتها فتصبح ملقَّحة. فكلٌ من الخلاصة التي تشكَّل منها آدم، والمنيّ الذي هو البذرة التي تشكَّل منها ذريته سيتحول إلى نطفة تستقرُّ في مكان آمن يمكِّنها من البقاء فيه، وهذا المكان بالنسبة لذريَّة آدم هو رحم الأم.
تكوُّن الجنس والمقاييس
الآية التَّالية تشير إلى أنَّ مقاييس الإنسان وجنسه تتحدَّد حالة كونه نطفة:
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى. مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} (النجم، 53/45-46)
وقوله تعالى في الآية {إذا تمنى} يعني (أثناء وضع المقاييس) لأنَّ جذر كلمة تمنى مني، وتعني تقدير شيء ونفاذ القضاء به[6]، أي أنَّ التَّقدير (المقياس) الخاصّ بالإنسان يبدأ تكوُّنه في رحم الأم في فترة التَّلقيح. والآية التَّالية هي التي تظهر اكتمال مقاييسه في رحم أمِّه:
{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران، 3/6) أي أنَّ الله تعالى هو الذي يعطيكم الشَّكل بالطَّريقة التي يختارها وأنتم في أرحام أمهاتكم، حيث إنه المتفرد بهذا، وهو صاحب العلو (الغلبة) وصاحب الأحكام الحقَّة.
والآية التَّالية تُطلِق على النُّطفة كلمةَ النَّفس، وقد أفادت أنَّ آدم وحواء قد خُلقا من تلك النَّفس أيضا:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء} (النساء، 1/4)
المقصود بضمير المخاطب في قوله (خلقكم) هو آدم، ولأنَّه أبو البشر جميعا استخدم الجمع مجازا، ولأنَّنا _نحن البشر_ لسنا من آدم وحده بل منه ومن حواء منع من فهم الآية بشكل آخر.
وقوله تعالى {خلقكم من نفس واحدة} يفيد بأن آدم خُلق من البويضة الملقَّحة، وأنَّ حواء لم تكن توأما له بالبويضة.
النَّفس هي جسمٌ حيّ. وإطلاق النَّفس على النُّطفة مؤشرٌ على أنّها تحمل ذات الصِّفات الخاصَّة بالجسم الحيّ.
وقوله تعالى {وخلق منها زوجها} يشير إلى أنَّ حواء خُلقت أيضا من البويضة الملقَّحة وأنَّها لم تكن توأما لآدم.
بحسب القرآن فإنَّه لا فرق بين آدم وحواء من حيث الخلق. لكنَّ الأمر مختلفٌ بحسب التوراة الموجودة بين أيدينا اليوم، حيث تنصُّ على أنّ حواء خُلقت من ضلعٍ مأخوذٍ من آدم:
“فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ. فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ»” (التكوين، 1/21-24)
هذه العبارت من التوراة وصلت إلى تراثنا الإسلامي على شكل حديث نبوي، حيث روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
“وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا”[7]
ولأنَّ القرآن لم يُصدِّق ما ورد في التَّوراة بهذا الخصوص فكان من غير الممكن قبول نسبة الحديث السابق إلى نبينا صلى الله عليه وسلم.
الإنسان بشر
يقال في العربية لما يظهر من جلد الإنسان “البشرة”، كما يقال للإنسان “البشر”، وربما أُطلق عليه ذلك لتميُّزه به عن غيره من المخلوقات. ويوفر الجلد إمكانية تدفئة الجسم وتبريده بحسب الحاجة لذلك، كما يحمل من الخواص الشيء الكثير، منها؛ القوة والجمال وحماية الجسم من المخاطر والأمراض الدَّاهمة. إنّ المخلوقات الأخرى تمتلك الجلد أيضا، لكنَّ جلدَ الإنسان متميزٌ عنها بالطبقة الظاهرة ذات الملمس الناعم التي لا يكسوها الشّعر أو الصوف أو الريش، لذا فإنه محتاجٌ إلى اللباس للمحافظة عليه، وبفضل اللباس كان الإنسانُ الكائن الوحيد الذي يستطيع العيش في كلِّ مكان على هذه الأرض وفي كلِّ موسم.
وفيما يتعلق بكون آدم هو أول كائن بشري على هذه الأرض جاء في الآيات التَّالية:
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ. قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا[8] فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ. قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص، 38/71-85)
كان آدم صاحب بشرة تميِّزه عن بقية المخلوقات، وقد فطن إبليسُ لذلك لما رآه يرفل باللباس، فكان لباسُ آدم هدفا لإبليس ومحلاً لحسده، وقد عمل جاهدا على تجريده منه؛ ظنَّا منه أن ذلك سينزع عنه (آدم) بشريته ويصير كبقية المخلوقات، والوسيلة الوحيدة المتاحة له عندئذ هي إغواء آدمّ ليقع في المعصية فينزع الله تعالى عنه لباسه كما نزع عنه (إبليس) وصف الملك بعد أن عصى أمر الله تعالى بالسجود لآدم، فتحوَّل بذلك من ملكٍ مقرَّب إلى شيطانٍ رجيم. والآياتُ التالية تتحدَّث عن الموضوع:
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} (الأعراف، 7/20-22)
والآيات التَّالية تظهر أهمية اللباس لبني آدم، كما تذكٍّر بأنَّ نزع اللباس عن الإنسان كان هدفا لإبليس منذ البداية:
{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (الأعراف، 7/26-27)
{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف، 7/31-32)
وقد كان من الأوامر الأولى لنبينا ما هو متعلقٌ باللباس أيضا، وهذا يشير إلى أهميته:
{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر، 74/1-5)
زواج الأخوة وسنَّة الله تعالى
من الواضح أنَّ البشر جميعا من ذريَّة ذات الأب والأم. ولنتفكَّر بالآية التَّالية مرَّة أخرى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء} (النساء، 4/1) وحتى يتمَّ هذا التَّكاثر كان لا بدَّ من أن يتزوَّج الأخُ أختَه في العهد الأول للبشريِّة. وقد ادَّعى البعض أنَّ هذا لم يكن مستدلِّين بالآيات التي تفيد بأنَّ سنَّة الله لا تتبَّدل ولا تتغيَّر. والحقيقة أنَّ سنَّة الله ليست القانون الطبيعي كما يظنُّون. والنَّاظر إلى الآيات المتعلِّقة بسنَّة الله يمكنه أن يرى بوضوح أنَّها القوانين الاجتماعية المطبَّقة في الأقوام الذين أُرسل إليهم رسلُ الله تعالى[9]. ولو كانت سنَّة الله تعني القانون الطبيعي لما كان هناك شيء اسمه النَّسخ. حيث إن الله تعالى قد نسخ بعضا من الأحكام التي سبق أن وضعها بأخرى خيرٍ منها[10] . والآية التَّالية تحسم الجدال في الموضوع:
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} (الفرقان، 25/54)
نبوة آدم
لا يوجد في القرآن ما يفيد بأن آدم كان نبيَّا أو رسولا. والنَّبيُّ هو من اصطفاه الله تعالى بالوحي وأمره بتبليغه إلى النَّاس، بينما الرَّسول يُقالُ لمن يبلِّغ ذلك الوحي سواء أكان نبيِّا أم لم يكن. ورد في المصادر من غير القرآن أنَّه قد نزل على آدم عليه السلام 10 صحف، وعلى شيث 50 صحيفة، وعلى إدريس 30، وعلى إبراهيم 10 صحف، حيث كان مجموعها 100 صحيفة[11] . لكنَّه لا يوجد في القرآن الكريم ما يدعم هذا الادعاء. وقد ورد في الآية 83 من سورة الأنعام وما بعدها أسماءُ 18 نبيا من نوح إلى عيسى عليهم السلام[12]، وبعد أن ذكرت الآيات هؤلاء الأنبياء جاء قوله تعالى {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام، 6/87). وقد روي أنّ عدد الأنبياء 124 ألفا[13]، وجميعهم من ذرية الأنبياء المذكورين في الآيات السابقة أو من إخوانهم أو من آبائهم. وعليه لم يبقَ نبيٌ من الأنبياء لم يُشَر إليه، وقد أعقب الإشارةَ إليهم قولُه تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة} (الأنعام، 6/ 89)
وإذا جمعنا الآيات السابقة مع الآيات التالية وفكَّرنا بها جليَّا فإن ذلك يكسب الموضوع وضوحا أكبر:
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (آل عمران، 3/ 33-34) ولا أدلَّ على الاصطفاء من النُّبوة، لذا يمكننا القول بنبوة آدم بناء على هذه الآية. ولأنَّ البشريَّة في بداية عهدها كانت أحوج ما تكون إلى الهدى وهو ما أشار إليه قوله تعالى:
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (طه، 20/ 123).
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
[1] الأيام التي تحدث الله تعالى عنها في الآية ليست كالأيام التي نعيشها على هذه الأرض. يقول الله تعالى {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (الحج، 22/47)
[2] خلق الله تعالى الأرضَ أولا كما نفهمه من قوله تعالى {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (فصلت، 41/9-12)
[3] آل عمران 59، الروم 20، الكهف 37، الحج 5، فاطر 11، غافر 67
[4] لسان العرب، مادة قرر
[5] لسان العرب، مادة نطف
[6] يقول أحمد بن فارس في معجم مقاييس اللغة: مَنَى يدلُّ على تقديرِ شيءٍ ونفاذِ القضاءِ به. منه قولهم: مَنَى له المانِي، أي قدَّر المقدِّر
[7] صحيح مسلم، باب التوصية بالنساء خيرا، 60- 1468
[8] السماء الأولى هي مكان الذي يتواجد فيه الملائكة. لما عصى إبليس ربه أخذ وصف الشيطان وطرد من الملأ الأعلى. جاء في قسم من الآيات ذات الصلة قوله تعالى {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ. وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ. لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (الصافات، 37/6-10)
[9] انظر الآيات من السور التالية: الأنفال 38، الحجر 13، الكهف 55، الأحزاب 38، فاطر 43، المؤمن 85، الفتح 23
[10] انظر سورة البقرة، 2/106 كما يمكنك قراءة مقالتنا في الرجم والنسخ على الرابط التالي http://www.hablullah.com/?p=1447
[11] أبو جعفر الطبري (ت310هـ) تاريخ الطبري- بيروت- 1407 – 1/178، والزمخشري في تفسير لسورة الأعلى
[12] ترتب الأنبياء في الآية كالتالي: “إبراهيم، إسحاق، يعقوب، داوود، سليمان، أيوب، يوسف، موسى، هارون، نوح، زكريا، يحيى، عيسى، إلياس، إسماعيل، اليسع، يونس، لوط” عليهم السلام
[13] أحمد بن حنبل، المسند، 22288
أضف تعليقا