حبل الله
هل تُعدُّ أحاديث النَّبيِّ من الوحي

هل تُعدُّ أحاديث النَّبيِّ من الوحي

السؤال: يقال إن الوحي لا يقتصر على القرآن فقد قال الله تعالى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص،7) فالوحي لا يرادف القرآن، وفي اللغة الوحي يشبه الإلهام. لذا يمكننا القول بأن أحاديث الرسول التي تشتمل على أحكام وتشريع قطعاً من وحي الله (إلهام الله) . وإن لم تكن وحيا المهم أن الله وافق على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنَّه لو حكم بما يختلف عن ما أراده الله لأنزل الله ما يبين له خطأه ويعاتبه كما حدث مع قصة الأعمى حين عبس الرسول. فأظن أن المشكلة فقط تقتصر فيما إذا اختلف نص حديث صحيح متواتر مع نص قرآني. فما قولكم في هذه المسألة.

الجواب:

كلمة الوحي لها معانٍ عدة، فقد تأتي بمعنى إعطاء الرسالة إلى النبي، كما تأتي بمعنى الإلهام، والسياق الذي ترد فيه يحدد المعنى. وقد وردت الكلمة بمعنى الإلهام في الآية التالية: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى،51)

في الآية ثلاث طرق لإيصال علم الله تعالى إلى خلقه:

الأول: الوحي؛ وهو في الآية بمعنى الإلهام أو الرؤيا، ويشترك في هذا النوع من الوحي الأنبياء وغيرهم.

فمن رؤيا الأنبياء ما رآه إبراهيم عليه السلام من ذبح ابنه إسماعيل: {قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (الصافات، 102)

وما رآه نبينا من دخوله المسجد الحرام هو وأصحابُه محلِّقين رؤوسهم ومقصِّرين: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} (الفتح، 27)

ومن رؤيا غير الأنبياء كالتي رآها ملك مصر التي عبّرها يوسف عليه السلام: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} (يوسف، 43)

ومن الإلهام ما جاء في قوله تعالى عن أم موسى عليه السلام:

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص، 7)

كما تستخدم كلمة الوحي بهذا المعنى في إلهام الحيوان أيضا:

{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (النحل، 68)

كما يستخدم ذات المصطلح في إلقاء الأمر إلى الجماد:

{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} (الزلزلة، 5) أي الأرض

الثاني: من وراء حجاب، كما كلم الله موسى؛ كلمه من وراء حجاب، وقد سمع موسى كلام الله مباشرة، لكنه لم يره، وفي ذلك يقول سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النساء، 164)

الثالث: أن يُرسل رسولا، فيوحي بإذن الله رسالةَ اللهِ إلى أنبيائه، وأمينُ الوحي هو جبريل عليه السلام، ولا يأتي سوى الأنبياء، يأتيهم برسالة الله تعالى فيقرؤها عليهم ويُبلِّغُهم إيَّاها بالشَّكل الذي أراد الله تعالى.

ولا يمكن أن تأتي رسالة الله (الكتاب) إلى النَّبي بالإلهام أو المنام، والحكمة من ذلك هي أن يستيقنَ النبي على وجه القطع أن ما جاءه رسالةُ ربه، لأنَّ الوحي بالإلهام أو المنام قد يُشكل في الفهم أو التأويل، وحتى لا يُترك الأمر لكل دعيِّ فيدعي أن الله قد أوحى إليه بالإلهام أو المنام. وهذا ظاهرٌ من قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (الجن، 26_ 28)

ولو قرأنا الآيات المتعلقة بالوحي إلى خاتم النَّبيِّين (الذي بمعنى إنزال الرسالة) نجد أنَّه مخصوصٌ بالقرآن دون غيره، كقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام، 19) {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف، 3) {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى، 7)، لذلك لا يصحُّ أن يُطلق الوحي _بهذا المعنى_ على غير القرآن الكريم.

أما أقوال النَّبي وأفعاله فهي التَّطبيق العمليُّ للقرآن الكريم، وهي الحكمة المستقاة منه، وقد تعلَّم نبيُّنا الحكمةَ المركوزةَ في الكتاب أي الأحكام والمواعظ والعبر التي يتوصل إليها من خلال الربط بين الآيات وإيجاد المناسبات فيما بينها، وفق المنهج الذي علَّمه الله إياه والمشار إليه بقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود، 1)  وقد علَّم جبريلُ نبينَا الحكمةَ كما أورده تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}(النجم، 4-5) . وفي استنباط الأحكام من القرآن الكريم قال الله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} (النساء، 105).

فجميع أقواله وتطبيقاته وتقريراته المتعلِّقة بتبليغ الرِّسالة حكمةٌ مستنبطةٌ من القرآن الكريم. روي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: “ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه”[1] ، فالمثل هو الحكمة التي تعلَّمها وبلَّغها وظهرت بأقواله وأفعاله. وهذا يقتضي أن يكون ما رُوي عنه يعكس جوهر القرآن، لذا لا نقبل بالرواية التي تخالف القرآن لأنَّ احتمال صحة نسبتها للنبي تساوي صفر.

وفي الختام نستطيع القول أنَّ أقوال النَّبي وأفعاله ليست وحيا كالقرآن، بل هي ما تعلَّمه نبيُّنا من القرآن. لذلك لما سُئلت أمُّ المؤمنين عائشة عن خلق النبي قالت: “كَان خُلقُه الُقرآن”[2] وهذا يقتضي بالضرورة عدم استقلالية السنَّة عن القرآن، بل ينبغي أخذها إلى جانب القرآن وعلى ضوئه؛ لأنها تعكس جوهره وحتى نميَّز الصَّحيح من الضعيف نظرا لتناقلها بالآحاد حيث لا يُدرى على وجه القطع من أصاب في النَّقل ومن أخطأ. والله تعالى أعلم

 


[1]  سنن أبي داوود، باب لزوم الجماعة، حديث رقم (3988)

[2]  أخرجه أحمد (25302) و (24269) ، والحاكم 2/499 ، والبخاري في الأدب المفرد (308)

تعليق واحد

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.