إفساد الإيمان بالكتاب
رُوي عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم أنَّ الله تعالى بعث 124 ألف نبيّ[1]، ومن الواضح أنَّ كلَّ نبيٍّ منهم قد أُوتي الكتاب والحكمة، فبعد أن ذكرَ _سبحانه_ أسماء 18 نبيِّا في الآيات 38_88 من سورة الأنعام عقَّب بقوله:
أُولَئِكَ (الأنبياء المذكورون آنفا) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ. (الأنعام، 89).
وبالرغم من ذلك فإنَّ التَّصوَّر الفقهيَّ العام ينصُّ على أنَّ الكتب المنزَّلة أربعة: وهي التَّوراة والإنجيل والزَّبور والقرآن، وباستنادهم على رواية ضعيفة جدا تمَّ الإدعاء بأنَّ آدم قد أوتي 10 صحف وشيث 50 صحيفة وإدريس 30 صحيفة وإبراهيم 10 صحف، التي مجموعها 100 صحيفة[2].
شيث الذي أُدعي أنَّه قد أوتي 50 صحيفة لم يرد في القرآن ولا في الأحاديث الصحيحة ذكر لاسمه. ورد في القرآن أنَّ موسى عليه السلام قد أُوتي الكتاب[3] لكنَّه لا يوجد ما يدلُّ أنَّ ذلك الكتاب هو التّوراة، لأنَ التّوراة لم تُؤتَ لنبيٍّ واحدٍ فقط، بل إنها كانت لعدد كبير من النَّبيِّين. يقول الله تعالى:
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ … (المائدة، 5/44)
وكان عيسى عليه السلام من الأنبياء الذين عُلِّموا التوراة وطبَّقوها. يقول الله تعالى:
إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ[4] …
اسم الكتاب الذي أُنزل على داوود عليه السلام ليس الزَّبور. لأنّ كلمة الزَّبور تأتي بمعنى الكتاب[5] ، وقد وردت الكلمة في آيتين؛ الأولى منهما قوله تعالى:
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (النساء 4/163)
كلمة الزبور الواردة في الآية أعلاه ليست اسما خاصَّا لكتاب بعينه، لذا لا يمكن أن تكون الكلمة اسما للكتاب الذي نزل على داود عليه السلام. وفي الآية التَّالية وردت كلمة زبر كجمع لكلمة زبور:
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (الشورى 26/196)
وفي الآية التالية استُخدمت كلمة الزَّبور كاسم خاصٍّ لجميع الكتب الإلهية المنزلة:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[6] (الأنبياء 21/105)
اليهود والنصارى مسؤولون بمقتضى التَّوراة والإنجيل، وبما أنّ كلاً من الكتابين يأمران أتباعهما باتباع القرآن فيكون أصل المسؤولية تجاه القرآن. يقول الله تعالى:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ . وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم[7] مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ .يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. (المائدة 5/65-68)
المؤمنون بالكتب السابقة مطالبون بالإيمان بالقرآن الكريم، وحتى يمكنهم ذلك لا بدَّ أن يكون القرآنُ مصدقا لما جاء في كتبهم، وهذا ما نصَّ عليه القرآن صراحة. لكنَّ علماء المذاهب لم يُعطوا الأهميَّة لموضوع الإصر، ولم يَرَوا تصديقَ القرآنِ للكتب السّابقة، وقد زعموا أنّ مقصود القرآن هو تصديق الكتب حال نزولها من عند الله تعالى وليس بحالتها الراهنة، وبهذا الزَّعم تمَّ قطع العلاقة بين الكتب السابقة وبين القرآن. ولم يبق أيُّ معنى للآية التالية:
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. (المائدة 5/43)
ولا بد أن يكون علماء الدين عند اليهود والنصاري ممتنِّين جدا للقطع بين كتبهم وبين القرآن الكريم، وبذلك يجدون المبرر لعدم إيمانهم بالقرآن، ولولا ذلك القطع لما استطاعوا _بمعيَّة المذاهب الإسلامية_ انتظار المسيح، ولما استطاعوا نسج التَّصورات المتعلِّقة بذلك.
كما يظهر فإن علماء المذاهب حرَّفوا الحقائق حول الكتب السَّابقة بالقدر الذي يمنع أتباعها من الإيمان بالقرآن والعمل بمقتضاه.
للمزيد حول الموضوع ننصح بقراءة مقالة أ.د عبد العزيز بايندر: (الإسلام من دينٍ مركزُه الكتاب إلى دينٍ مركزه البشر) على الرابط التالي http://www.hablullah.com/?p=3092
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مسند أحمد بن حنبل، 2/266 ، اسطنبول 1982م
[2] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، بيروت 1407هـ ، 1/187
[3] البقرة 2/53 و87، الأنعام 6/91، هود 11/10، الإسراء 12/7، المؤمنون 23/49، الفرقان 25/35، القصص 28/43، السجدة 32/23، المؤمن 40/53، فصلت 41/45
[4] التوراة والإنجيل كتابان يحتويان الحكمة كما القرآن الكريم.
[5] كتاب العين، الفراهيدي، مادة زبر
[6] الآيات المتعلقة بذلك هي قوله تعالى “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ” (النور 24/55-57) وقد ورد في إنجيل متى العبارة التالية “طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض” إنجيل متى 5/5
[7] المقصود بالذي أنزل إليهم من ربهم هو القرآن الكريم
تحليل رائع والله، زادكم الله علما وجزاكم عنا كل خير