تحويل الحكمة إلى السنة
وردت كلمة السنة في القرآن بإضافتها إلى الله تعالى (سنة الله)، وعند النظر في الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح يُفهم بوضوح أنَّ المقصود هو القانون المطبَّق على المجتمعات التي أرسل الله تعالى إليها رسلا[1]. لكنَّه بدأ في العصر الأموي إطلاق لفظ السنَّة بدلا من الحكمة، واستقرَّ الأمر في العصر العباسي على اعتبار السنة هي الحكمة، وقد أُفرغت كلمةُ السنة من محتواها أيضا حتى أصبحت تُطلق على أقوال نبيِّنا وأفعاله بالرُّغم من أنَّ أقوال النَّبي _فيما عدا الوحي_ قابلةٌ للخطأ. من الجدير ذكره أنه لا يوجد آيةٌ واحدة تدعو إلى الطَّاعة المطلقة للنَّبي، بل إنَّ هناك آية تُظهر أن أقوال النبي _فيما عدا الوحي_ وأفعاله محلَّ تقييم من جملة المؤمنين. يقول الله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الممتحنة، 60/12)
الشرط “ولا يعصينك في معروف” يشير إلى ضرورة مراقبة أقوال النبي وأفعاله بوصفه بشرا يجوز عليه الخطأ والنِّسيان.
إعطاء النَّبي معنى الرَّسول ومن ثمَّ اعتبار الكلام الذي قاله بصفته نبيِّا سويَّة الآيات التي بلَّغها بصفته رسولا ومن ثم اعتبار سنة الله في المجتمعات التي أرسل فيها الأنبياء على أنها القانون الذي لا يتغيَّر هي تطبيقات خاطئة لا تُغتفر. واليوم فإن علماء المذاهب متفقون على اعتبار السنة مصدرا ثانيا للتَّشريع إلى جانب القرآن الكريم.
كان الإمام الشافعي صاحب السبق في تقرير هذه الأخطاء عندما اتخذ الآيات الآمرة بطاعة الرَّسول كدليلٍ على وجوب طاعة النَّبي. ويمكننا تلخيص ما ذهب إليه الشافعي كما يلي:
“وسنة رسول الله مُبَيِّنَة عن الله معنى ما أراد، دليلاً على خاصِّه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه، فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله[2].
“لا يَنْسخ كتابَ الله إلا كتابُه.. وسنة رسول الله، لا يَنْسَخُها إلا سنةٌ لرسول الله”[3]
“ولو جاز أن يقال: قد سنَّ رسول الله ثم نسخ سنتَه بالقُرَآن، قد يحتمل أن يكون الرجم منسوخاً لقول الله: ” الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ “[4]
القول بأن نبينا ” مُبَيِّنٌ عن الله معنى ما أراد، دليلاً على خاصِّه وعامِّه” هو إقامة النبي مقام الله تعالى؛ لأن الله تعالى لم يعط هذه الصَّلاحية لأحد غيره. يقول سبحانه:
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. (هود، 11/1_2)
وهذا يعني أن نبيَّنا لم يفسِّر القرآن لكنَّه اتَّبع ما بيَّنه اللهُ تعالى في كتابه من منهج تفسير القرآن، وبوصوله إلى الحكمة التي أنزلها الله في كتابه أنذر النَّاس وبشَّرهم.
عبد العزيز بن باز (1911_1999م) في معرض حديثه عن أنَّ أقوال النَّبي وأفعاله هي السنة أشار إلى تقدُّم السنَّة على القرآن في تقرير الأحكام كما يلي:
“يقول الأوزاعي[5]:
(السنَّة قاضية على الكتاب)
السنة تبيِّن الأحكام التي ترك القرآنُ تفصيلها كما أنَّها تضع الأحكام غير الموجودة فيه أصلا، لأن الله تعالى يقول:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون[6] (النحل، 16/34)
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:
(أَلا إِني أوتِيتُ الكِتابَ ومثلَه مَعَه)
وروى البيهقي[7] عن الشعبي أنَّه خاطب بعضَ الناس قائلا: “إذا تركتم الآثار انتهيتم”
وقد قصد البيهقي بالآثار الأحاديث الصحيحة.
ونقل البيهقي قول الأوزاعي لأحد أصحابه: “إذا وصلك الحديث عن رسول الله فلا تقل شيئا يخالفه، لأن رسول الله أخذه من الله ثمَّ بلَّغه” انتهى كلام ابن باز [8]
الآية التي احتجوا بها على أنَّ النَّبي يبيِّن القرآنَ لو أخذناها مع سابقتها لوجدنا أنَّه لا علاقة لها بما ذهبوا إليه. لنقرأ الآية مع سابقتها:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ. بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (يونس، 10/49)
من الوظائف المناطة برسول الله تبليغُ القرآن لأهل الكتاب وإخبارُهم أنَّه مصدِّق لمَّا بين أيديهم من الكتاب. كما أورده قوله تعالى:
يَاۤ اَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاۤءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثيرٍ قَدْ جَاۤءَكُمْ مِنَ اللّٰهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبينٌ (المائدة 5/15)
هذه الآية تظهر بوضوح أنَّ المقصود بقوله تعالى “لتبيِّن للنَّاس ما نزل إليهم” هو وظيفة تبيلغ الكتاب وليس شيئا آخر. هذه الوظيفة التي كانت مناطة بمن هم غير أنبياء من أتباع الرسل السَّابقين توحي بضرورة أن يضطلع المسلمون بهذه المهمة فيجتهدوا في تبليغ القرآن دون إخفاء أي شيء منه:
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (آل عمران، 3/187)
وقوله تعالى لنبيِّه في الآية 44 من سورة النَّحل ” لِتُبَيِّنَ لِلنَّاس” وقوله تعالى مخاطبا أهل الكتاب “لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاس” لا بدَّ أن يكون خطابا لجميع المؤمنين إلى قيام الساعة. ولهذا لا يمكن قبول هذه الآية كدليل على تفسير نبيَّنا للقرآن، بل هي دليل على وجوب تبليغ القرآن دون إخفاء شيء من آياته أو أحكامه.
الدليل الثاني الذي اتخذه المدافعون عن الرأي القائل بأن النبي قد فسَّر القرآن وفصَّله ما روي عن النَّبي أنَّه قال:
(أَلا إِني أوتِيتُ الكِتابَ ومثلَه مَعَه)
الشيء الذي أوتيه نبيُّنا مع الكتاب هو الحكمة التي نحاول توضيحها كلما سنحت الفرصة، فهذا الحديث يلخص جميع الآيات التي ذكر فيها الكتاب والحكمة.
لما نسي المسلمون فهم القرآن وإيجاد الحلول لمشاكلهم (أي الحكمة) بدأ الانقسام بينهم. وقد ورد في الآية التالية توجيه مهمٌّ بهذا الصدد:
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل 16/89)
المسلمون الذين يوجد بين أيديهم كتابٌ عظيم كالقرآن ولا يستطعون حلَّ أيَّ مشكلة يجعل المرء في حيرة من أمره. لم تكن مشكلة المسلمين بابتعادهم عن القرآن كنصٍّ مكتوب أبدا، إذ يبدي المسلمون اهتماما عظيما بطبعه وحفظه وتجويده وتوزيعه، إنما مشكلتهم بتضييع الحكمة وعدم اشتغالهم للوصول إليها.
ويُشبه حال المسلمين مع كتاب ربهم بحال فتاة ذهبت أسرتها الغنيَّة إلى العطلة وتركتها في البيت، وتركوا لها ما يلزم لتحضير ما تشاء من الأطعمة، لكن هذه الفتاة لم تدخل المطبخ يوما ولا يوجد عندها أدنى فكرة عن كيفية إعداد الطعام، فما أن سمعت كلام أبيها وأمها تبادر لذهنها أنهما تركوها لتموت. لم تستطع الفتاة تدبر أمرها بإعداد الطعام، وحتى لا تبقى جائعة فتحت مطبخها للجيران، وبمقابل ما تحصل عليه من قليل الطَّعام اضطرت لإغماض عينيها عن تفريغ مطبخها من كلِّ شيء، ولو كان الجار صاحب نوايا أكثر خبثا لتطورت الأمور إلى ما هو أسوأ.
إن ترك القرآن جانبا ونسيان الحكمة التي هي الوسيلة لإيجاد الحلول دفع بالمسلمين إلى تلمُّس حلول مشاكلهم من أعدائهم، وهذا ما يُفسِّر تردي أوضاعهم يوما بعد يوم.
وفي ما يتعلق بإعطاء الثقة للآخرين هناك تحذيرٌ لنبيِّنا، يقول الله تعالى:
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ (أي المنافقين) تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (المنافقون 63/4)
إن كان نبيُّنا يُعجب بكلام المنافقين الجميل، أفلا يُعجب المسلمون بكلام المنافقين من “أهل العلم”؟ لو لم يكن الأمر كذلك فهل كان بالإمكان أن يخرج لنا دينٌ جديدٌ من خلال كتب المذاهب والتَّفاسير؟ هل كان يمكن إثبات حكم تزويج الأطفال الصغار بالرغم من مخالفته صريح الكتاب وتطبيقات النبي؟ وهل كان يمكن إظهار نظام العبودية والجواري، وعقيدة القدر، وقتل المرتد، وأخطاء كثيرة لا تعدُّ على أنَّها أحكام القرآن الكريم؟!.
للمزيد حول الموضوع ننصح بقراءة مقالتي أ.د عبد العزيز بايندر: (الإسلام من دينٍ مركزُه الكتاب إلى دينٍ مركزه البشر) على الرابط التالي http://www.hablullah.com/?p=3092
وكذلك مقالة (مفهوم الحكمة عند الإمام الشافعي) على الرابط التالي http://www.hablullah.com/?p=1900
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر الأنفال 3/38، الحجر 15/13، الأحزاب 33/38، الكهف 18/55، فاطر 35/43، غافر 40/85، 62، الفتح 48/23
[2] الرسالة للإمام الشافعي ، باب فرض الله تعالى في كتابه اتباع سنة نبيه، مكتبه الحلبي، مصر، الطبعة: الأولى، 1358هـ/1940م ، 1/73
[3] المصدر السابق 1/106
[4] المصدر السابق 1/110
[5] هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يوحميد الأوزاعي (ت 157/774) مؤسس مذهب الأوزاعية الذي لم يعد ينتسب إليه أحد ، عُرف كعالم في الفقه والحديث، عاش قبل الإمام الشافعي.
[6] وقد اتخذ الإمام الشافعي هذه الآية كدليل في موضوع السنة، أنظر كتاب الأم، بيروت1410هـ، الاستحسان، 4/309
[7] أبو بكر البيهقي أحمد بن عامر بن علي البيهقي (ت 458هـ) محدث وفقيه شافعي.
[8] عبد العزيز بن باز ، وجوب العمل بسنة رسول الله وكفر من أنكرها، السعودية 1420هـ 1/24-25
ما شاء الله فكرة عجيبة
جزاكم الله خيرا
ما هو مصدر تسمية السنة قبل الدولة الأموية بالحكمة، وإذا كان الأمر كذلك فإن كلمة الحكمة أقرب إلى الربانية وتشابه التسميات التوراتية والإنجيلية، ولماذا حذفو هذه الكلمة العظيمة، أرجو تزويدي بالمصادر التي تؤكد استعمال كلمة حكمة في بداية الإسلام وتؤكد تبديها بكلمة سنة في العهد الأموي ولكم جزيل الشكر.